استراتيجية الذئب والكلاب

استراتيجية الذئب والكلاب

(عن تحالف واشنطن وطهران وما بينهما)

علي الصراف

ماذا يفعل الكلب إذا رأى سيده يغرق؟ انه يقفز الى الماء ليساعده على النجاة.

وهذا ما سيفعله الزعماء الايرانيون في العراق لمساعدة سيدهم وتاج رأسهم الولايات المتحدة.

وهم سيفعلون ذلك ليس لأنهم قوة إقليمية ناشئة، بل لأنهم كلاب، تم تخويفهم وتجويعهم وابتزازهم طويلا حتى وجدوا في طاعة الذئب سبيلهم الوحيد للنجاة.

وماذا كانت تعني الاستراتيجية التي طرحتها مجموعة "بيكر-هاملتون"؟ إنها كانت تعني جر دول الجوار لتلعب دور الكلب في النباح على العراقيين، لمساعدة الذئب الجريح ولإنقاذه من الغرق.

وهذا ما يحصل.

الكل يعرف أن المزاعم القائلة بان دول الجوار "تسمح بمرور الأسلحة والمتسللين إلى العراق"، ليست سوى مزاعم فارغة.

وأكثر منها فراغا، الزعم بان بعضا من دول الجوار "يدعم الإرهاب في العراق"، فإذا كان المقصود بـ"الإرهاب" هو المقاومة العراقية، فالحقيقة التي لا تخفى على أي حمار في واشنطن هي أن هذه الدول لا تساعد المقاومة العراقية.

وهذا هو السبب الرئيسي، بل الوحيد، الذي يشجع الولايات المتحدة على البقاء أطول في العراق.

من الواضح للغاية، أن المقاومة العراقية اليوم أكثر ضراوة من المقاومة الأفغانية ضد الاحتلال السوفياتي. ولكن احتلال أفغانستان تداعى وانهار الاتحاد السوفياتي برمته، لسبب جوهري واحد هو أن دول الجوار (باكستان خاصة) كانت تلعب دورا مباشرا في دعم المجاهدين الأفغان.

دول الجوار حول العراق تفعل العكس تماما، إنها تدعم الاحتلال، وتمتثل لتهديداته، وتساعد في تمزيق وحدة الشعب العراقي على أسس طائفية، وتزود مليشياتها بالأسلحة والأموال لشن حرب على البيئة الاجتماعية للمقاومة، وترعى من أجل ذلك "فرق الموت" التي توزع الموت المجاني على العراقيين، وتعرض أموالا لشراء ضمائر بعض رؤساء العشائر (ممن ليس لديهم ضمائر أصلا) ليلعبوا دور الكلاب في حماية ذئب الاحتلال.

هذا ما يحصل.

ولهذا السبب، دون سواه، تبقى الولايات المتحدة في العراق، وهي، بفضله، تشعر بالطمأنينة بأن موقفها مختلف تماما عن الموقف السوفياتي في أفغانستان، مما يشجعها على المضي قدما، ليس في التسريع بالانسحاب، وإنما العكس: إرسال المزيد من القوات.

استراتيجية "بيكر-هاملتون" لم تدعُ إلى التقرب من دول الجوار من أجل أن تضع سدودا على حدودها مع العراق، بل العكس تماما: من أجل دفعها للنزول إلى الماء، في دعم الحكومة التي نصبها الاحتلال، وفي توفير القوات والمعدات لتخفيف الأعباء عن القوات الأمريكية التي يفترض أن تنسحب إلى قواعد آمنة داخل العراق، ومن هناك سيتاح لقوات الاحتلال أن تتفرغ للعب دور السيد الذي يرسل كلابه لمطاردة المقاومين هنا أو هناك.

وستكون إيران، بفضل ما لديها من أتباع ومليشيات وحصة نفوذ في حكومة "المنطقة الخضراء"، هي أكبر الكلاب وأكثرها شراسة.

أكثر من غيرها، تبدو إيران في وضع يسمح لها بالقول أنها تدافع عن مشروعها الطائفي في العراق (طبعا، بكلمات أخرى)، ولكنها في النهاية ستقدم خدماتها للسيد، وستعمل في إطار توجيهاته ولخدمة مصالحه، مقابل قطعة عظم، قد لا تعدو (كما يوحي أنبوب النفط المزمع مده من حقول الجنوب العراقية إلى إيران) أكثر من مليون برميل نفط يوميا، لتمويل عملياتها في العراق.

على هذا الأساس كان اللقاء ("التاريخي الأول") "ايجابيا" (على حد الوصف المشترك) بين السيد وكلبه في بغداد، الأسبوع الماضي.

وسيكون ايجابيا أكثر، اللقاء التالي لمجموعة دول الـ.... جوار.

إنها، ببساطة، لن تكتفي بالتواطؤ مع الاحتلال، ولكنها ستنزل معه إلى الماء لتدعمه ولتُبقي انفه مرفوعا (وغطرسته عليها قائمة)، على حساب "الشقيق" و"الجار"...

يا أمة العار.

*  *  *

بهذا الدور القذر، فإن دول الجوار تخون نفسها، قبل العراق، ولكنها لن تستطيع أن تفعل شيئا، فسيدها يقول: "أما أن تكون معي أو ضدي"، وبالتالي فلا خيار، حتى التردد سيكون مرفوضا، وبين هزيمة القوة العظمى الوحيدة وانتصارها، "لا توجد منطقة وسطى بين الجنة والنار".

قد يكون لطهران ولغيرها أجندات خاصة ومصالح متفاوتة، تقترب أو تبتعد، كثيرا أو قليلا، عن أجندة ومصالح الولايات المتحدة. وعلى طول المسافة بين الرياض وأنقرة، كما بين طهران والقاهرة، فان التفاوت سيبدو جليا جدا.

ولكن لا خيار.

على امتداد السنوات الأربع الماضية، كان الرهان الأمريكي يقوم على قاعدة "أن الفائز، يفوز بكل شيء".

و"كل شيء"، كان يعني كل شيء، من عقود النفط (الذي يتم تصديره من دون عدادات)، إلى تجارة الشركات الأمنية، وإلى عقود "إعادة البناء" (الاسم الرمزي لـ: إعادة النهب).

ولكن عندما بدا أن الهزيمة آتية لا ريب فيها، فقد أُوهم الجوار بأن مشاركتهم في العظمة سيكون مقبولا.

ولكن، في الحقيقة، مؤقتا فقط.

فعروض العظام قد تمتد من إعداد "اتفاقات سلام مع اسرائيل" إلى وضع "حل وسط" للملف النووي الإيراني، ولكن من دون أية ضمانات.

فـ"اسرائيل" لا تبدو عازمة على التوقيع على أي اتفاق، لا مع السلطة الفلسطينية، ولا مع سوريا في أي وقت قريب، وسيستغرق العمل على وضع أي اتفاق عدة سنوات، وحتى ولو وُضع اتفاق شامل غدا، على غرار الكثير من الاتفاقات التي وقعت مع السلطة الفلسطينية، فستظل هناك تعقيدات وتفاصيل تتطلب مراجعتها سنوات وسنوات، وذلك بينما تظل "اسرائيل" تمسك بالزمام وبالمفاصل الأساسية التي تسمح لها بالعودة (كما فعلت مرارا) عن أي اتفاق.

أما الملف النووي الإيراني، فأنه يمكن أن يظل معلقا بين المضي قدما في أعمال التخصيب، وبين التشديد المتواصل للعقوبات، لعدة سنوات أيضا، وطالما أن الاتفاق حول العراق "يظل بمعزل عن القضايا الأخرى" (وكان هذا أول الاتفاقات وأكثرها "ايجابية") فأن التوصل إلى تسوية لهذا الملف سيأخذ كل ما يحتاجه من الوقت.

أما ما تريده الولايات المتحدة من دول الجوار، فأنها تريده الآن، ومن دون إبطاء.

قد تمنح واشنطن "حلفاءها" الجدد نوعا من صكوك غفران لكي يقبضوا ثمنها في وقت لاحق، إلا أن هذا الوقت لن يلحق قبل أن يعود الاحتلال في العراق إلى عافيته.

وعندما يعود الاحتلال إلى عافيته، ماذا يكون قد بقي؟

لا شيء،، وستعود حليمة إلى عادتها القديمة، في ممارسة أعمال الضغط والهيمنة والابتزاز.

وسيعود الفائز ليفوز بكل شيء.

المعضلة التي ستجد دول الجوار نفسها فيها هي أن عليها أن تختار بين مصالحها الخاصة (المؤجلة) وبين مصالح الاحتلال (الفورية).

وعليها، حتى بالنظر إلى نفسها، أن تختار بين "أن تكون مع سيدها أو ضده".

بكلام آخر، يقول الذئب: اقفزوا إلى الماء، لنرى، بعد أن ينجو السيد، ما يمكن أن يفعله من أجلكم.

*  *  *

وإلى الماء سيقفز الكلاب.

من أجل أندلس أخرى، سيبكون عليها لألف عام.

من أجل وعود بالغفران سيقبضون ثمنها في الجنة.

من أجل مصالح سيدهم وتاج رأسهم، الذي، وإن وصفوه بـ"الشيطان الأكبر"، إلا أنه شيطانهم، وشره شرهم.