الفلسطينيون والجزيرة
صلاح حميدة
الجزيرة، قناة فضائية إعلامية عربية، تميزت عن ما قبلها، وتفوقت على ما استحدث بعدها، ولا تزال في صدارة وسائل الاعلام العربية، وهي الأكثر متابعة وثقة من قبل المواطن العربي والفلسطيني على وجه الخصوص، بل نستطيع القول أنها المؤسسة العربية الوحيدة- بعد المقاومة الفلسطينية- القادرة على التأثير في الرأي العام العربي والاسلامي.
قبل الجزيرة، لم يكن العرب و الفلسطينيون يتابعون غير وسائل الاعلام الرسمية العربية التي كانت تحتكر الخبر، يضاف إليها وسائل الاعلام الاسرائيلية وبعض وسائل الاعلام الأوروبية المسموعة، وغالباً لم تكن الوسائل الاعلامية العربية تحظى بالمصداقية لدى الفلسطينيين، بعد أن فقد الفلسطينيون الثقة بتلك الوسائل منذ حرب عام 1967م، واتضاح تضليل بيانات النصر التي كانت تبثها تلك الوسائل الاعلامية، إضافة إلى سعيها الدائم للتمجيد والتسبيح بحمد الأنظمة العربية التي سرقت ثروات البلاد، وأذلّت العباد.
إذاً شكلت الجزيرة مدخلاً لكسر الاحتكار الاعلامي والمعلوماتي المقدم للمشاهد العربي والفلسطيني، وخرقت المحرمات التي كان من المحظور نقاشها وتناولها علانية، في المجتمع والسياسة والاعلام والعائلة العربية، ولذلك قد تكون تسمية هذه المحطة الاعلامية ب (الجزيرة) جاءت تجسيداً لدورها ومكانتها في حينه، وما ستلاقيه من عزلة من الساسة والوسائل الاعلامية الأخرى، فهي جزيرة إعلامية تتميّز عن ما يحيط بها ويلفّها، وهي على خلاف واختلاف مع الآخرين دائماً، لا تكاد تلتقي مع طرف، حتى تفسد علاقتها به مجدداً.
هذا الخرق الغير معهود الذي جازفت الجزيرة بتجاوزه وسبر أغواره، أفرح الكثيرين، وفي نفس الوقت أغضب الكثيرين، ولذلك استفادت الجزيرة من حب الكثير من القطاعات الشعبية والنخبوية العربية لها، وأصبحت بلا منازع ( منبر من لا منبر له) ووجد أغلب المحظور عليهم أن يبدوا آراءهم في الاعلام والسياسة والمجتمع العربي بين ليلة وضحاها، منبراً إعلامياً يخاطبون الناس من خلاله، وتم كسر احتكار المعلومة المقدمة للجمهور العربي من قبل المؤسسات الرسمية العربية وغير العربية، أما هذه الأخيرة، فقد ساءها ما قامت به الجزيرة، وسعت وتسعى لحربها والتضييق عليها عبر وسائل عديدة.
القضية الفلسطينية شكلت محور اهتمام الاعلام الرسمي العربي منذ نشأت، ولم تكن تخلو نشرات الأخبار العربية من الخبر الفلسطيني، ولكن صياغة ونقل الخبر الفلسطيني كانت تخضع للتوازنات والرغبات الرسمية العربية، وقدرتها على توظيفه دعائيا ً لخدمة النظام الرسمي العربي، ولذلك لم يحظ الخبر الفلسطيني بمنبر ينقله بعيداً عن الرقابة وإعادة الصياغة، و بلا توظيف من الاعلام والسياسة الرسمية العربية، ولكن الجزيرة قدمت هذه الخدمة لكافة أطياف المعادلة السياسية الفلسطينية، ووجد جميع الفلسطينيين منبراً لهم لشرح وجهة نظرهم، وتقديم ما يرغبون بشرحه للمشاهد العربي.
تتهم الجزيرة في الكثير من الأحيان بأنها تنحاز لطرف دون آخر، فمثلاً تتهم بأنها أدخلت المتحدث الصهيوني إلى كل بيت عربي عبر شاشتها، ولكن هناك من يجادل، بأن وسائل الاعلام الاسرائيلية أصبحت مهجورة منذ نشوء قناة الجزيرة، ولم يعد أحد يهتم بمشاهدتها، بعد أن كانت مصدر أكثر ثقة للمعلومات من والوسائل الاعلامية الرسمية العربية.
وتتهم الجزيرة بأنها تقدم منبرها لتنظيم القاعدة، ليناكف أمريكا، ويبث دعايته ضدها، حتى أن مكاتبها قصفت في العراق وأفغانستان، وبلغ الحمق بالرئيس الأمريكي السابق للتفكير جدياً بقصفها، بينما يتهم عدد من أنصار القاعدة الجزيرة بأنها بوق ضدهم.
فلسطينياً، شكل ويشكل الخبر الفلسطيني محور الخبر المحلي والاقليمي والدولي أغلب الأوقات، ولذلك لا يمكن لوسيلة إعلامية تسعى للعالمية وتحقيق أعلى نسبة مشاهدة تجاهله، كما أن أي طرف أو أي شخصية فلسطينية تسعى لإيصال أفكارها للجمهور، ترحب دوماً باستضافة الجزيرة لها، حتى لو اختلفت مع سياستها، لذلك لم يرفض أي طرف فلسطيني دعوة الجزيرة، فحتى من يتهمونها بالتحيّز واللاموضوعية، يركضون سراعاً للظهور على شاشتها عندما توجه لهم الدعوة منها.
ولإنصاف الجزيرة، لا بد من الاعتراف بأنها الناقل الأشمل، والمهتم الأكبر بالشأن الفلسطيني بكافة تفصيلاته، ومن أراد مشاهدة الألم الفلسطيني والمعاناة الفلسطينية، سيجد ضالته على شاشة الجزيرة، ففي كافة المعارك والثورات والانتفاضات والأحداث الفلسطينية المصيرية، كانت الجزيرة حاضرة وبقوة، وكانت المحرك الأكبر للرأي العام العربي والدولي المتعاطف مع القضية الفلسطينية، وهذا ما دفع لحجبها عن المشاهدين في الكثير من دول العالم الذي يقول انه حر.
اتهمت الجزيرة من قبل أطراف فلسطينية عديدة بالتحيز لوجهة النظر المضادة لتلك الأطراف، فحركة فتح تتهمها بالتحيز لصالح حركة حماس، وكتب العديد من أنصار حماس مقالات تتهم الجزيرة وبعض مراسليها في الضفة الغربية وقطاع غزة، بالتحيّز في أحداث معينة لصالح وجهة نظر حركة فتح.
تصاعدت حدة الاتهامات ضد الجزيرة مع تصاعد الصراع والخلافات الداخلية الفلسطينية، فالأطراف جميعها تسعى لشرح وجهة نظرها للجمهور، ومن الطبيعي أن تكون الجزيرة على رأس وسائل الاعلام التي تستهدف لتكون منبراً لشرح وجهات النظر تلك، فالجزيرة بتميّزها، تعتبر من العوامل الرئيسة في توجيه الرأي العام العربي والفلسطيني، وهنا لا بد من التذكير، بانه من حق أي طرف أن ينتقد الجزيرة، كما أن الجزيرة غالباً ما تمنح منبرها لمن ينتقدونها، ولكن هناك من ذهب بعيداً في خصومته مع الجزيرة، وأصبح يرّوج الاتهامات ويحرض عليها علانية، وبالرغم من كون الجزيرة لا تحتاج لمن يدافع عنها، ويفنّد بسهولة ما اتهمت به في بعض اللوحات الاعلانية، ويرد الصاع صاعين، إلا أن هذه الحملة على الجزيرة، شكلت دعاية مجانية ودعوة صريحة لمشاهدتها ومتابعة برامجها، ولا يمكن أن تشكل هذه الحملات المحلية -وحتى الاقليمية- دافعاً للمشاهد العربي والفلسطيني لهجر شاشة الجزيرة والذهاب لغيرها.
حتى أن أحد رموز حركة فتح ووجوهها الاعلامية، كتب مقالاً ينصح فيه من أسماهم ب( أصحاب الرؤوس الحامية في حركة فتح) بترك سياسة مهاجمة الجزيرة، لأن نتائج هذه السياسة عكسية، واتفق مع أحد رموز الحزب الحاكم في مصر الذي دعى حكومته لوقف حملتها على الجزيرة، ونصحها قائلاً:-
( عايز تلعب مع الجزيرة، إعمل جزيرة)..
دعوات هذين الشخصين لم تلق قبولاً، وقد لا تلقى القبول مستقبلاً، وهذا عائد لسبب رئيسي وهام، وهو أن أي قناة ستشكلها هذه الأطراف لا تستطيع أن تقدّم ما تقدمه الجزيرة للمشاهد العربي والفلسطيني، ولن تكون إلا نسخة معدّلة من القنوات الرسمية العربية، كما أن العديد من الأطراف سعت وتسعى لصنع جزيرة خاصة بها، ولكن كل هذه لم تستطع أن تكون لا جزيرة، ولا بديلاً عن الجزيرة، فكل هذه الوسائل شكلت أبواقاً للأطراف التي تمولّها، ولم تستطع يوماً أن تهاجم أو تنتقد الطرف الذي يمولّها، أو الذي تتهم أنها تابعة له، وهذا ما يحدث مع الجزيرة، فالجزيرة تتهم بأنها متصهينة، ولكنها تهاجم الصهيونية بشراسة، فتتهم أنها مع حماس، فتمنح منبرها لمن يهاجم حماس، وتتهم بأنها ومراسليها في الضفة وغزة منحازون لحركة فتح، فلا ينقضي أسبوع حتى تهاجمها حركة فتح وتتهمها بشتى الاتهامات.
إذاً هي الجزيرة، هي المختلف عن ما يحيط به، وهي المتميّز، وهي التي ترضي الجميع، وتغضب الجميع في نفس الوقت، هي الجزيرة التي لا تقدم أخباراً نمطية مبتذلة تمجّد هذا وتمدح ذاك، هي الجزيرة التي تقدم وجبة الأخبار المتنوعة، ووجهات النظر المختلفة للمشاهد العربي والفلسطيني، وهو ما لا يستطيع غيرها فعله، وهو ما لا يرغب الكثيرون في مشاهدته، هي الجزيرة التي تقبل أن تكون منبراً للآخرين، ولكنها تأبى أن تكون بوقاً لهم.