التنوير الأوروبي
مدخل لفهم الذات والآخر
بقلم: صبحي درويش
ظهرت حركة التنوير في فترة محدودة من تاريخ أوربا، وكان يهدف إلى القضاء على العبودية والخرافات، كما كان يهدف إلى مطاردة الأشباح والظلمات . إن عصر التنوير هو الذي حرّر الشعوب الأوروبية من تخلفها وتزمتها بعد أن خاض معاركه الشهيرة ضد الجمود الكنسي. من هنا، أهمية هذا العصر وضرورة التوقف عنده طويلا، لكي نفهم كيف نشأت الحضارة الغربية الحالية. ولا يمكن أن يحصل حوار ناجع مع الغرب إلا إذا فهمنا عقليته الحديثة التي تشكلت بعد عصر التنوير أو بدءاً منه. ، ومن ثم تأسيس قيم مشتركة أو معايير مشتركة للحوار.. فالقيم التي لا نزال نتشبّث بها نحن حتى الآن هي بالضبط تلك التي تخلّص منها الغرب بعد التنوير أو بفضله!.. فكيف يمكن للتواصل ـ أو للتفاهم ـ أن يحصل في مثل هذه الظروف؟، ثم الحديث عن حوار الحضارات، أو عن صدامها، يعني ضمنيا ان لديناحضارة مزدهرة يمكن ان تحاور حضارة الغرب أو حتى تصطدم معها!. وهو افتراض يدحضه ضعف إسهامنا منذ أربعة قرون في مجال الحضارة الإنسانية:سواء في مجال الطب، والصيدلة والأدوية، والعلاجات، والتكنولوجيا، واختراع الآلات الحديثة، وتخفيف الآلام عن البشرية؟ أين هو إسهامنا في العلوم الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية وتطبيقاتها؟ بل أين هو إسهامنا في مجال العلوم الإنسانية والفلسفة؟ فنحن لم نخترع نظرية فكرية واحدة، ولا حتى مصطلحاً فلسفياً واحداً، منذ ثمانمائة سنة ، اننا لانسعى الى تأليه الحضارة الغربية، كما يزعم بعضهم. ففيها نواقص كثيرة وانحرافات عديدة، لكن لا أحد ينكر وجود حضارة في الغرب، رغم بعض سلبياتها وتطرفها في اتجاه الاستهلاك المادي المسعور والملذات التي لا نهاية لهالكن نجاحاتها العلمية والتكنولوجية مؤكدة. من هنا، ضرورة نقد الحضارة الغربية الحديثة، لكن لا يمكن أن ننقدها بشكل مسؤول، إلا إذا عرفنا أولا كيف تشكلت لأول مرة وبناء على أية أسس فكرية أو فلسفية. ولهذا السبب، فإنه يجب أن نتوقف عند عصر التنوير مطولاً. ينبغي أن نعلم أن التنوير الذي حصل قبل مائتي سنة، والذي شكل كل هذه الحضارة هو مفخرة أوروبا ومجدها، وبه تتمايز على كل الثقافات البشرية الأخرى. في الواقع إن التنوير كان يهدف للتوصل إلى حرية الكلام والكتابة، وكان فلاسفة التنوير يريدون إصلاح كل شيء: من السياسة، إلى الدين، إلى الأخلاق الاجتماعية، إلى الاقتصاد والزراعة عن طريق تطوير العلم والتكنولوجيا. لقد دعي القرن الثامن عشر بعصر التنوير لأن القرون السابقة له كانت محرومة من النور فعلاً. بالطبع لا يمكن القول بأن ديكارت الذي عاش في القرن السابع عشر لم يكن مستنيراً!.. كذلك الأمر في ما يخص غاليليو، وسبينوزا، ولايبتنز، ومالبرانش، وعشرات غيرهم، لكنهم عاشوا في عصر غير مستنير.
إن القرن الثامن عشر هو أول عصر في التاريخ يبلور لنفسه برنامج عمل واضح المعالم من خلال كتابات الفلاسفة ومعاركهم الفكرية. ومصطلح التنوير يعود إلى هذا العصر بالذات. ولكي نفهمه، ينبغي أن نقارن الأنوار/ بالظلمات، أو الواضح/ بالغامض. ويبدو أن المصطلح كان في البداية ديني المنشأ قبل أن يَتَعَلْمَن على يد الفلاسفة في عصر العقل: أي في القرن الثامن عشر بالذات. ففي «سفر التكوين» نجد العبارة التالية: «ثم وجد الله أن النور حَسَن، وفصل بين النور والظلمات».. وفي الإنجيل قال المسيح عن نفسه: «أنا نور العالم: من يتبعني لن يمشي أبداً في الظلمات، وإنما سيكون له نور الحياة». ثم انتقل هذا المصطلح الشهير من المعجم الديني القديم، إلى المعجم الفلسفي الحديث. يبدو أن ديكارت (1596 ـ 1650) كان أول من استخدم مصطلح التنوير (أو النور) بالمعنى الحديث المفصول عن المعنى الديني، أو الإنجيلي. فهو يتحدث مثلا عن النور الطبيعي، الذي يقصد به مجمل الحقائق التي يتوصل إليها الإنسان عن طريق استخدام العقل فقط. ولكن ديكارت، لا يستخدم هذا المصطلح كسلاح ضد الدين أو بالأحرى ضد رجال الدين كما سيفعل في ما بعد فولتير أو ديدرو. إنما يستخدمه ضمن سياق الاحترام الكامل للقيم الدينية. يقول مثلا في كتابه: مبادئ الفلسفة: إن مَلَكة المعرفة التي وهبنا اللّه إياها والتي ندعوها بالنور الطبيعي لا تلحظ أبداً أي شيء إلا وهو صحيح في ما تلحظه.. وجاء بعده لايبنتز (1646 ـ 1716)، لكي يستعيد نفس الفكرة ويقول: إن العقل هو سلسلة الحقائق التي نعرفها بواسطة النور الطبيعي (أو الضوء الطبيعي) الذي وهبنا الله اياه، لكن من بين جميع تلامذة ديكارت نلاحظ أن مالبرانش (1638 ـ 1715) هو الذي استخدم المصطلح وأحبه إلى درجة الهوس.. فهو يتكرر لديه بكثرة هائلة إلى حد أنه يزاحم مصطلح الطبيعة أو العقل. ، ثم يجيء المفكر البروتستانتي بيير بايل (1647 ـ 1706)، لكي يغلّب، ولأول مرة في تاريخ الفكر، النور الطبيعي على النور فوق الطبيعي، دون أن ينكر الثاني. وهذا العمل يعتبر خطوة جديدة في اتجاه التحرر من اللاهوت الديني والتوصل إلى العَقْلَنة الكاملة لاحقاً.
وملخص كلام «بايل»، هو أن الله نفسه لا يمكن أن نتوصل إلى فهمه أو الإيمان به، إلا إذا كنا نمتلك مسبقاً النور الطبيعي للعقل. وبالتالي فالعقل هو الأول، ولكن بايل لم يتجرأ على الذهاب إلى أبعد من ذلك لكي يفصل كلياً بين النور الفوقي/ ونور العقل، لأن ذلك كان يشكل ما ندعوه بالمستحيل التفكير فيه بالنسبة لزمنه. ولكنه سيصبح ممكناً التفكير فيه في زمن فولتير وديدرو. فالعقل البشري لم يتحرر من اللاهوت الديني المسيحي دفعة واحدة، وإنما على دفعات، وتشهد على ذلك بشكل ساطع، تجربة الفكر الأوروبي التي نستعرضها هنا. والواقع أن كلمة «الأنوار» (بالجمع)، راحت تزاحم كلمة النور (بالمفرد)، بل وتحل محلها في أحيان كثيرة. وهكذا أصبحوا يتحدثون عن عصر الأنوار، أو فلسفة الأنوار، أو الأنوار الطبيعية للعقل.. إلخ.
مهما يكن من أمر، فإن مصطلح التنوير راح يتخلص تدريجياً من الهالة الدينية المسيحية لكي يدل على عصر بأسره: هو عصر التحرر العقلي والفكري في القرن الثامن عشر. وعندئذ راح يتخذ شكل المشروع الفكري والنضالي الذي يريد تخليص البشرية الأوروبية وغير الأوروبية من ظلمات العصور الوسطى وهيمنة رجال الكنيسة. بالطبع فإن المشروع كان ضمنياً لا علنياً، بسبب خوف الفلاسفة من السلطة والكنيسة المرتبطة بها عضوياً، ولم يتبلور المشروع بوضوح إلا على يد كوندورسيه في كتابه الشهير: «مخطط البيان التاريخي لتقدم الروح البشرية» (أو الفكر البشري) (1794). لكي نوضح المسافة المقطوعة بين مفكري التنوير الأوائل أو الذين مهّدوا للتنوير، وبين المفكرين التنويريين الحقيقيين، يكفي أن نقارن بين بيير بايل/ وبين فولتير أو ديدرو أو روسو، الذين جاءوا بعده وأكملوا عمله. صحيح ان «بايل» في قاموسه التاريخي والنقدي، تبنّى التصور العقلاني للدين وانتقد هيبة رجال الكنيسة وتسلّطهم على العقول، صحيح انه دعا إلى التفحص الحر للكتابات المقدسة وطالب بالحرية الفكرية والعقائدية في وقت كانت فيه فرنسا تعيش أبشع لحظات التعصب الديني وتضطهد المفكرين بطريقة مرعبة بمن فيهم «بايل» نفسه. ولكنه لم يتجرأ على تلك القفزة التي تحرر العقل كلياً من هيمنة اللاهوت الكنسي. وقد ظل أسير النظرة التشاؤمية والمسيحية للتاريخ والإنسان، وكان يشتبه في العقل البشري ويخشى ان يتجاوز الحدود التي وضعها الله له. فالعقل البشري بدون مساعدة العقل الإلهي يضلّ ويضيع ويذهب في متاهات لا نهاية لها. ولكن يبقى السؤال مطروحاً: ألم يتطرف التنوير الأوروبي في الاتجاه المعاكس كرد فعل على العقلية الظلامية ومحاكم التفتيش؟ ثم: ألا ينبغي أن نعود إلى تنوير أكثر توازناً: اقصد التنوير الذي يجمع في وحدة واحدة بين نور العقل ونور الإيمان؟
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا تأخرت مجتمعاتنا وتقدمت غيرها؟ لا اعتقد أن مثقفينا قد أجابوا عن هذا السؤال الهام والسبب هو انه لكي نجيب عنه ينبغي أن نعرف سبب تقدم الغير وتأخر الذات في آن معا. وفي كلتا الحالتين لم ننجح في المهمة حتى الآن على الرغم من بعض المحاولات الجادة والمخلصة هنا أو هناك.. وربما سبب الفشل يعود إلى عدم الجرأة في الذهاب إلى أعماق الأشياء، وعدم توافر الكفاءة العلمية والفلسفية للقيام بذلك. ولا ينبغي أن نخجل من الاعتراف بهذه الحقائق ومن العودة إلى مقاعد الدراسة من جديد لكي نتعلم طريقة التفكير العلمي بكل مناهجها ومصطلحاتها وأدواتها. فهي وحدها القادرة على تشخيص المرض العربي أو الإسلامي الذي نعاني منه والذي يبدو انه استعصى على التشخيص والعلاج حتى الآن. مهما يكن من أمر فإن استعراضنا لتاريخ التنوير الأوروبي ضروري لفهم سرّ تقدم الآخرين وتفوقهم، و كيف تحمل المفكرون مسؤولياتهم في صيرورة التاريخ تجاه أممهم، وكيف نجحوا في تشخيص عللها وأمراضها. لم تكن حالة الأمة الألمانية مثلا اقل سوءا من حالتنا بعد انتهاء حرب الثلاثين عاما (1618 ـ 1648). ومع ذلك فإن الفكر العقلاني أو التنويري انبثق على اثر تلك الحرب أو قل نهض على أنقاضها. فالشعوب لا تفهم للأسف إلا بعد أن تدفع الثمن. وكذلك الأفراد أيضا. فالإنسان لا يتحرك على ما يبدو إلا بعد أن تصل النار إلى باب بيته.. عندئذ يأخذ في طرح الأسئلة: لماذا حصل ما حصل؟ لماذا مزق الكاثوليكيون والبروتستانتيون بعضهم البعض إربا إربا وهم ينتمون إلى دين واحد، وكتاب واحد، ولغة واحدة؟ وهل هناك من طريقة أخرى لفهم الدين غير هذه الطريقة التقليدية المتعصبة التي أدت إلى الكارثة؟
بدءا من تلك اللحظة انبثق التنوير كحركة تاريخية صاعدة ودخل في معركة شرسة وطويلة مع قوى الانغلاق والتزمت اللاهوتي المسيحي. وبعد أن حسمت أوروبا تلك المعركة مع ذاتها استطاعت أن تنطلق انطلاقة رائعة جعلتها تتفوق على جميع شعوب الأرض بدون استثناء. صحيح أن التنوير الألماني لم يكن شعبيا في البداية. صحيح انه اقتصر على طبقة أساتذة الجامعات، والعلماء، وكبار الموظفين في الدولة، والناس المثقفين. صحيح أن عامة البشر ظلوا مرتبطين بالقس البروتستانتي، أو بالكاهن الكاثوليكي وظلوا يتشربون تعاليمهما وكأنها نازلة من السماء.. ولكن عن طريق تعميم المدارس، والجامعات، والصحافة، وانتشار المعرفة بواسطة الكتاب المطبوع على نطاق واسع راح التنوير ينتشر تدريجيا حتى وصل إلى شرائح واسعة من الشعب الألماني. ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن بقية الشعوب الأوروبية.
لا ريب في أن التنوير الألماني كان تابعا في مراحله الأولى للتنوير الفرنسي والتنوير الانكليزي. كان تلميذا للفلسفة الديكارتية من جهة، ثم لعلم نيوتن وفلسفة جون لوك من جهة أخرى. وقد اخذ من ديكارت وضوح المنهج، والشك، والتمحيص. لا يمكن فصل الفلسفة عن تقدم العلم منذ ديكارت أو كانط وحتى الآن. ولذلك قال بعضهم: لولا نيوتن لما كان كانط! وقد يقول قائل: ولكن فلاسفة القرون الوسطى من أمثال توما الاكويني وابن رشد والفارابي وسواهم كانوا عقلانيين أيضا. وقد حاولوا التوفيق بين فلسفة أرسطو والعقيدة الدينية. وهذا صحيح، ولكن عقلانيتهم كانت موجها أساسا باتجاه الحياة التأملية، معتبرة أنها اعلي وأجلّ شأنا من الحياة الدنيوية، الأرضية. كانت المعرفة الحقيقية بالنسبة لهم هي تلك المعرفة النظرية الهادفة إلى فهم الحقيقة الأبدية والإلهية. وهذا لا يعني التقليل من أهميتهم وانجازاتهم التي كانت كبيرة بالنسبة لعصرهم. واما بدءا من عصر التنوير فإن العقلانية أصبحت تطبيقية، محسوسة، عملية. أصبحت موجهة نحو فهم الحياة الأرضية، والواقع المادي وتركيبة المجتمع. أصبحت تهدف إلى إصلاح العالم وتغييره، بل التحكم بالتاريخ عن طريق العقل البشري. وهنا يكمن الفرق بين عقلية القرون الوسطى، وعقلية الحداثة. والانتقال من هذه إلى تلك هو الذي صنع مجد أوروبا. وبما أن المجتمعات العربية أو الإسلامية لا تستطيع حتى الآن أن تحقق هذه النقلة فإنها لا تزال تتخبط في ورطتها، في مشاكلها، في مأزقها. ولكن هذا التخبط بحد ذاته دليل على أن شيئا ما يعتمل في أحشاء الداخل العربي ـ الإسلامي. هناك تخمرات وتفاعلات قد تؤدي إلى الخلاص يوما ما، والى انبثاق طريق الخلاص والنجاة. لقد فهم فلاسفة التنوير في ألمانيا بدءا من لايبنتز وانتهاء بهيغل مرورا بليسنغ وكانط وفيخته وسواهم عديدين، إن إنقاذ ألمانيا من براثن التعصب والتطرف لا يمكن أن يتم إلا بعد توليد قراءة عقلانية أو تنويرية لتراثهم الديني. وهذه القراءة التأويلية الجديدة ليست معادية للدين في جوهره، أي في روحانيته الصافية وأخلاقيته المثالية وتعاليه، وإنما هي معادية للتفسير المتعصب والظلامي للدين المسيحي. وراحوا يتهمون هذا التفسير بأنه السبب في كل مآسي ألمانيا وفواجعها، وذلك لأنه يؤلب الناس على بعضهم البعض ويبرر المجازر والقتل والإرهاب. وبالتالي فقد آن الأوان للتخلص منه إذا ما أرادت ألمانيا ألا تسقط في جحيم الحرب الأهلية مرة أخرى، إذا ما أرادت أن تلحق بركب الأمم المستنيرة التي سبقتها على طريق العلم والعقل: أي الأمة الانكليزية، ثم الأمة الفرنسية. وهذا ما حصل لاحقا عندما استطاعت ألمانيا أن تتجاوز محنتها وتضمد جراحها وتمشي على خط التطور والتقدم. ومن الذي فتح لها هذا الخط؟ إنهم فلاسفتها الذين تحملوا مسؤوليتهم التاريخية أمام شعوبهم وضحوا بطمأنينتهم الشخصية أحيانا عندما قالوا لها الحقيقة بدون مواربة أو خداع.
ان عصر التنوير يضيء حقيقة مهمة ويجعلها ساطعة وهي ان للمثقف دورا في نهضة شعبه أو أمته. وان دوره أهم من دور السياسي، أو قل انه يسبقه ويضيء له الطريق على الأقل