فكر محمد أسد كما لا يعرفه الكثيرون6

فكر محمد أسد كما لا يعرفه الكثيرون (6)

الفكر السياسى فى كتابات أسد

أ.د/إبراهيم عوض

[email protected]

بعد أن أعلن محمد أسد إسلامه فى المملكة العربية السعودية عام 1926م قضى بضع سنوات فى تلك البلاد قريبا من الملك عبد العزيز آل سعود، ثم انتقل بعد ذلك إلى الهند حيث أصدر مجلة إسلامية بالاشتراك مع محمد مارمادوك بِكْثَلْ (وهو بريطانى أسلم مثل أسد، وترجم مثله أيضا القرآن الكريم إلى الإنجليزية)، إلى أن قامت دولة الباكستان فتولى بعض المناصب فيها. وكان قد شارك فى وضع دستور ذلك البلد عند نشأته وكتب أفكاره بهذا الشأن فى رسالة بعنوان "Making Islamic Constitution: صياغة دستور إسلامى"، وإن لم يؤخذ إلا بالقليل جدا من اقتراحاته فى ذلك الموضوع حسبما ذكر فى مقدمة كتابه "منهاج الإسلام فى الحكم"، الذى يُعَدّ تطويرا لما جاء فى تلك الرسالة من أفكار[1].

وفى هذا الكتاب يعرض محمد أسد رأيه فى الطريقة التى ينبغى أن تُسَاس بها الدولة الإسلامية فى العصر الحديث. والأساس الذى يجب بناء هذه الدولة عليه، كما جاء فى كلامه، هو أن يكون دستورها إسلاميا، وقوانينها إسلامية، ورئيسها كذلك مسلما، إذ ليس فى الإسلام ما يسمَّى بالفصل بين الدين والسياسة، كما أن الإسلام ليس عبادات فحسب، بل هو أيضا نظام اجتماعى غايته توفير التوافق والانسجام بين أفراد الأمة وطوائفها وتهيئة السبل للعيش الحر الكريم[2]. ومن هنا فإن الحكمومة العلمانية مرفوضة فى الإسلام، إذ هى تحصر الدين داخل ضمير الفرد، وإذا خرجت به إلى الدنيا فإنها تُلْزِمه ألا يبارح جدران دور العبادة، أما الأخلاق والتشريعات فإنها ترجع عندها إلى الأفكار والآراء البشرية، وهى تتغير حسب الظروف، على حين أن الأخلاق فى الإسلام هى أخلاق مطلقة لا يعتريها التبديل من عصر لعصر ولا من بلد لبلد، فضلا عن أن لهذا الدين منظومةً من الأسس التشريعية لا يمكن المِسَاس بها بحال[3].

وفى هذا المجال الأخير يميِّز مفكِّرنا بين النصوص القرآنية والحديثية وبين اجتهادات الفقهاء فى فهم هذه النصوص: فالأولى عنده مُلْزِِمَة ثابتة، أما الثانية فليست كذلك، إذ لا تمثل إلا فكر أصحابها داخل إطار زمانى ومكانى معين، ومن ثَمَّ فهى عرضة للتغير بتغير الظروف لأنها بشرية المصدر، بخلاف النصوص القرآنية والحديثية ذات المصدر السماوى. وهذه النصوص ينبغى، فى نظره، أن تقتصر على الأحكام المحددة التى لا تقبل اختلافا فى التفسير لبعدها عن أى غموض أو إبهام. وتتميز هذه الأحكام بأن عددها قليل ولا تتناول إلا الخطوط العامة، أما التفصيلات فمتروكة للاجتهاد البشرى، وتبعا لذلك فإنها عرضة للتغير لتواكب التطورات الاجتماعية والإنسانية المتلاحقة. وهذا، فى رأيه، معنى قوله عزَّت قدرته فى الآية 48 من سورة "المائدة": لكلٍّ جعلنا منكم شِرْعَةً ومنهاجا"[4].

لكن الملاحظ أنه لم يحدد لنا فى هذا الكتاب تلك الآيات والأحاديث المحتوية على المبادئ التشريعية العامة التى ينبغى الالتزام بها فى كل الظروف والعصور والبلدان[5]. لقد رأيناه مثلا ينفى أن يكون هناك حد للحرابة، لاويًا عنق آيَتَىْ سورة "المائدة"  33- 34 اللتين تنصّان على ذلك الحد. فإذا كان الأمر كذلك فأخشى أن تكون نقطة الانطلاق لدى أسد فى هذا الموضوع الخطير مفتقرة إلى المتانة المطلوبة. وبالمثل فإننا لا نعرف السبب الذى حدا بالمسؤولين فى الباكستان ألا يأخذوا إلا بأقل القليل مما اقترحه فى هذا الصدد. ثم إن قوله سبحانه: "لِكُلٍّ جعلنا منكم شِرْعَهً ومنهاجا" قد ورد فى سياق الكلام عن شرائع أهل الأديان المختلفة من مسلمين ويهود ونصارى، لكن أسد يفهمه على أنه إشارة إلى تغير التشريعات الإسلامية التفصيلية حسب تغير الظروف. أى أن الضمير "كم" فى "منكم" لا يرجع إلى اليهود والنصارى والمسلمين جميعا، بل إلى أجيال المسلمين المتعاقبة وحدها، وهو ما لا تقبله الآية بسهولة. أما فيما عدا هذا فإن مساحة الاختلاف مع أسد هى من أضيق ما يكون، بل ربما لم يكن هناك خلاف البتة.

والنظام الحكومى الذى يقترحه المؤلف يقترب من بعض النواحى من نظيره فى الديمقراطيات الغربية، فهو نظام يقوم على إرادة الشعب الحرة متمثلةً فى الانتخابات التى تأتى بأعضاء مجلس النواب وتختار هذا الرئيس أو ذاك لكرسى الحكم، كما يقوم على مسؤولية الحاكم أمام هؤلاء النواب، وعلى المداولات النيابية، وعلى حرية التعبير والنقد، وعلى حماية الدولة لأمن المواطنين وتوفيرها سبل العمل والعيش الكريم لهم... إلخ. ومع ذلك فهناك عدد من الاختلافات بين النظام السياسى فى الإسلام والنظام الديمقراطى الغربى: من ذلك مثلا مفهوم "الديمقراطية" نفسه، الذى يظن كثير من المسلمين أن الإسلام يرحِّب به ويصوغ نظامه فى الحكم على أساسه، مع أنه يعنى، فيما يعنيه عند الغربيين، حقَّ الشعب المطلق فى التشريع لجميع الأمور العامة بأغلبية أصوات نوابه. وهذا ما يسمى بإرادة الشعب، التى هى إرادة حرة لا تُسْأَل أمام سلطة غير سلطتها، وهو ما لا يقبله الإسلام، إذ يوجب على أتباعه إخضاع أفعالهم لتوجيهات الشريعة الإلهية التى نص عليها القرآن. ومعنى هذا أن إرادة الأمة الإسلامية ليست مطلقة السيادة بل محكومة بالإرادة الإلهية[6].

بيد أن لنا ملاحظتين على هذا: أولاهما أن هناك، حسبما قال أسد، جانبا واسعا فى مجال التشريع الإسلامى متروكا للمسلمين يستنبطونه من مبادئ الشريعة العامة، فضلا عن أنه لا يوجد ما يُلْزِم مسلمى عصر أو مجتمع ما بأن يأخذوا بما ارتآه مسلمو عصر أو مجتمع آخر. إذن فهناك مجال لحرية الإرادة البشرية فى مجال التشريع الإسلامى، وليس الأمر إلزاما مطلقا إذن. والثانية أن المؤلف لم يقل لنا ما الذى ينبغى عمله لو رأت إحدى الأمم الإسلامية أن تترك الشريعة الإسلامية. ولقد قال هو نفسه إن كثيرا من المثقفين المسلمين اليوم يُعْجَبون بالفكر السياسى والقانونى الغربى ويَرَوْن أنه هو السبيل الوحيد أمام المسلمين للتحرر مما هم فيه من تخلف. ولقد انتهى الأمر فى الباكستان إلى أن يهملوا بعض التشريعات الإسلامية رغم أن تلك الدولة قامت فى الأصل على أساس أنها أمة إسلامية متميزة عن أمة الهندوس وتريد أن تبنى حياتها ونظامها السياسى والاجتماعى على قواعد الإسلام. فما الذى ينبغى عمله هنا يا ترى؟ الواقع أن هذه هى إحدى النقاط الهامة التى أهمل أسد بحثها وتقديم مقترحاته بشأنها. إن أسد قد أقام بناء فكره السياسى على أساس أن الأمة المسلمة قد اجتمعت كلمتها حكومةً وشعبًا على تحكيم الإسلام فى كل شؤون حياتها، ولم يبق إلا البحث عن النظام الذى يكفل لها ذلك على أحسن وجه. ولكنْ كم شعبا من بين شعوب الإسلام التى تُعَدّ بالعشرات يصدق عليه هذا؟ إن كثيرا من هذه الشعوب تقول إنها تريد تطبيق الشريعة، فما الذى يمنعها من تنفيذ ذلك؟ وكيف تستطيع أن تتغلب على تلك العقبات؟ وما هى التضحيات التى ينبغى عليها أن تتحملها؟ وكم من الوقت يلزم لبلوغ هذه الغاية؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى جواب، إلا أن محمد أسد قد سكت عنها وكأنها غير موجودة!

وأغلب الظن أن السبب فى ذلك كله هو أنه تناول هذا الموضوع فى الأصل أيام بزوغ الدولة الباكستانية فى أفق الوجود، وهى دولة كان يُفْتَرَض فى حكومتها وشعبها أنهما يعملان بكل جِدًّ وإخلاص وتفانٍ على تحكيم الإسلام فى كل أمورها وأحوالها، وهو ما لم تصدقه الحوادث التى حدثت بعد ذلك. لكنه يخبرنا فى مقدمته للكتاب الذى نحن بصدده أنه ليس إلا تطويرا للأفكار التى كان قد طرحها أولا عند صياغة الدستور الإسلامى للباكستان[7]. وعلى هذا فما دام كتابه قد تطور عن ذى قبل وأصبح منفصلا عن مسألة الدستور ومشاكل وضعه، لقد كان ينبغى أن يوسع الأفق الذى يدور فيه كلامه بحيث يشمل العالم الإسلامى لا الباكستان فحسب.

وإذا كان هناك فرق بين الإسلام والغرب فى قضية الديمقراطية، فكذلك الأمر فيما يتعلق بالثيوقراطية. ذلك أن الإسلام، بمعنى من المعانى، هو دين ثيوقراطى، لكنه بمعنى آخر ليس كذلك، إذ لو كان المقصود بالثيوقراطية أن يقوم رجال الدين بتسيير دفة الحكم والسياسة فهو غير ثيوقراطى، أما إذا كان المقصود بها استمداد القوانين من مصدر سماوى (هو فى حالة الإسلام: القرآن والحديث) فهو ثيوقراطى[8]. وهذا أيضا مما يميز الإسلام عن الديمقراطيات الغربية التى ترفض الثيوقراطية رفضًا باتًّا بِكِلا المعنيين...وهكذا.

ومما يفترق به الإسلام عن الديمقراطيات الغربية أيضا أنه، وإن أوجب أن يجىء رئيس الدولة عن طريق الانتخابات، لم يحدد كيفية انتخابه ولا المدة التى يبقى فيها فى الحكم. وعلى هذا جاز أن يُنَصّ على مدة معينة لرئاسته أو أن يظل قابضا على زمام السلطان طيلة حياته ما دام يؤدى واجبه بكفاءة وإخلاص ولم تضق به الأمه[9].

كذلك يتميز الإسلام عن الديمقراطيات الغربية بأنه، رغم اعتماده الانتخابات سبيلا إلى اختيار رئيس الدولة، لا يقبل أن تُسْنَد الرئاسة إلى شخص غير مسلم، إذ من غير الطبيعى، بل ومن الظلم أيضا، أن ننتظر من مثل هذا الشخص التحمس لنشر الإسلام وتطبيق شرائعه. ومن رأى مؤلفنا أنه لابد من إعلان ذلك بوضوح وأن تُنَحَّى اعتبارات المجاملة فى مثل هذا الأمر جانبا لأن المسألة مسألة مبدإ، فلا تجوز فيها المواربة أو المواراة، وإن سارع فى ذات الوقت بالإشارة إلى أن عملية الانتخابات فى حد ذاتها من شأنها أن تحسم هذا الأمر، إذ لن تنتخب الأغلبية الإسلامية بطبيعة الحال رئيسا غير مسلم. كذلك نراه يسارع إلى تأكيد أن الالتزام بهذا المبدإ شىء، والتمييز بين المواطنين على أساس الدين شىء آخر، فالإسلام يكفل للأقليات الدينية كل حقوقها ولا ينصر المسلمين عليهم بالباطل فى حالة وجود خلاف بين الفريقين[10]. وفضلا عن هذا فهو لا يجد أى بأس فى أن يكون فى الحكومة الإسلامية وزراء غير مسلمين، ولكن بشرط ألا يكون المسؤول أمام نواب الشعب هم الوزراء بل رئيس الدولة نفسه، أما الوزراء فهم مجرد مساعدين له، وذلك كيلا يكون هناك صدام مع الشرط الذى وضعه القرآن المجيد بوجوب أن يكون أولو الأمر من المسلمين حسب قوله عز شأنه: "يا أيها الذين آمنوا، أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم"[11].

وهناك مسألة أخرى قريبة من هذه، ألا وهى أن أمام المواطنين غير المسلمين فى البلاد الإسلامية بالنسبة للتجنيد طريقين[12]: فبمستطاعهم الامتناع، إذا أرادوا، عن الانخراط فى الجيش، وعندئذ فعلى من يختار هذا السبيل منهم أن يؤدى الجِزْيَة للخزانه العامة لقاء إعفائه من التجنيد، وهو شىء مشابه لما كان يسمَّى فى مصر قبل يوليه 1952م بـ"البَدَليّة"، وبمستطاعهم أيضا، إذا شاؤوا، أن يشاركوا إخوانهم المسلمين فى الانخراط فى سلك الجندية، وحينئذ فلا جِزْيَة.

ولأسد، فى نظام الحكومة الإسلامية من حيث العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، اقتراح مهم يفترق به أيضا هذا النظام عن الديمقراطيات الغربية، وهو أن يجمع رئيس الدولة فى يده كُلاًّ من الأعمال التشريعية والأمور التنفيذية تجنبًا لحدوث تصادم بين السلطتين يوقف دولاب الحكم كما يقع أحيانا فى الدول الغربية فلا يستطاع فى بعض الظروف الحرجة البتّ فيما يراد الحسم فيه على وجه السرعة. على أن أسد يؤكد فى الوقت ذاته أن رئيس الدولة الإسلامية مُلْزَم رغم ذلك بأى قرار يحظى بموافقة الأغلبية من أعضاء مجلس الشورى بحيث لا تكون قرارات ذلك المجلس مجرد توصيات يأخذ بها الرئيس أو لا يأخذ، بل لابد أن تكون لها صفة الإلزام.

ومما يتمايز فيه النظامان أيضا أن النظام الإسلامى لا يقتصر على الجوانب السياسية والاقتصادية فقط كما هو الحال فى الديمقراطيات الغربية، بل يشمل كذلك نواحى العقيدة الأخلاق، فهو نظام متكامل يهتم بالإنسان بكل أبعاده.

على أن أسد لا ينسى مع ذلك أن ينبه إلى الصعوبات التى تواجه تطبيق النظام الإسلامى سواء من داخل صفوف المسلمين أنفسهم أو من بين صفوف أعدائهم: فهناك مسلمون جامدون مشدودو الأبصار إلى الماضى لا يستطيعون أن يكيّفوا أنفسهم مع الحاضر ولا أن يعيشوا فيه، فتراهم مثلا يعتقدون أن على الدولة الإسلامية محاربة الدنيا كلها حرب عدوان وتوسع، وأنه لا تجوز المساواة بين المسلمين والأقليات غير الإسلامية داخل هذه الدولة، وأن العادات والتقاليد التى ورثوها عن مجتمعاتهم هى من صميم الإسلام لا يجوز تغييرها ولا مِساسها مهما تكن مخالفة لروح الإسلام ومبادئه. وهناك من الناحية الأخرى أولئك المسلمون المتأثرون بالغرب وبثقافة الغرب وبنظام الغرب السياسى والتربوى والذين يرفضون أى حديث عن النظام الإسلامى ويَرَوْن فيه تخلفا ورجعيه، وبخاصة أن ذلك النظام قد ارتبط فى أذهانهم بذلك الفريق الجامد من المسلمين الذين يريدون إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وجعل الحاضر نسخة من الماضى دون زيادة أو نقصان أيا ما تكن المشاكل الناجمة عن ذلك. ثم هناك ثالثا القوى الكبرى المتربصة بالإسلام وأمته وحكومته والتى تخطط وتبذل جهودها بغية منع المسلمين من استعادة حيويتهم وقوتهم ومجدهم، إذ يَرَوْن فى البعث الإسلامى تهديدا لهم ولمصالحهم. ولا ننس كذلك من يعيش بين ظَهْرَانَىِ المسلمين من أقليات غير مسلمة لا يَرْحُب صدرها لتطبيق النظام الإسلامى، الذى يَرَوْن فيه مصادرة لحريتهم وعدوانا على ذاتيتهم.

والسبيل إلى مواجهة كل ذلك عند كاتبنا هو "أن نثبت[13] للعالم كله أننا قد عقدنا العزم صادقين على أن نحقق قول الله عز وجل: "كنتم خير أمة أُخْرِجَتْ للناس تأمرون بالمعروف وتَنْهَوْن عن المنكر وتؤمنون بالله". وإن أهليتنا لهذه المكانة تتوقف (كما يقول) على ما عندنا من الاستعداد للكفاح دائما وفى جميع الأحوال والظروف لإقامة معالم العدل ومحاربة الظلم فى كل صورة، وبالنسبة لجميع الناس. وهذا سوف يستبعد من الأذهان كل احتمال فى أن يُجْحِف المجتمع الإسلامى الحقيقى بحقوق المواطنين من غير المسلمين... (وعلينا أن نعالج) المبادئ السياسية التى جاء بها كل من القرآن والسنة بروح إبداعية مجددة، مستقلين فى ذلك عن كل السابقات التاريخية وكل النظائر التى سلمتها إلينا الأجيال المتقدمة لهذه المبادئ. (كذلك) علينا أن نثبت، على الرغم من معارضة الجامدين، أن شريعة الإسلام ليست مقصورة على ما تحويه كتب الفقة المطولة التى شغلت نفسها بتفاصيل التفاصيل، وليست هى موضوعا لخطب الجمعة فحسب، ولكنها منهاجٌ حىٌّ يدفع بموكب الحياة إلى الأمام... قابل للتطبيق والعمل فى كل العصور وفى كل الظروف، منهاج سوف لا يعوق[14] تطورنا الاجتماعى بل، على العكس من ذلك، سيساعدنا على التطور وسيجعل مجتمعنا الإسلامى أكثر المجتمعات فى العالم نشاطا وحيوية واعتمادا على نفسه"[15].

وهذا كلام رائع لا يختلف معه عاقل مخلص، إلا أن أسد لم يحاول (كما سبق أن قلنا) أن يجيب على السؤال الذى أثرتُه من قبل، ألا وهو: ما العمل إذا وجدت الأمة نفسها عاجزة عن تطبيق النظام الإسلامى بسبب تألب القوى الكبرى وأذنابها فى بلاد المسلمين ضدها مثلا؟ وها هى ذى الباكستان قد عجزت عن إقامة ذلك النموذج المبتغَى، ولم تتمكن حتى من توفير مستوى معيشة كريم لمواطنيها، إذ يسودها الفقر والفساد إلى حد كبير، كما أن الانقلابات العسكرية هى سمة من سمات حياتها السياسية بما يعنى العدوان على حق الأمة فى اختيار رئيسها وخلعه سلميا وقانونيا، فضلا عن دروانها إلى مدى بعيد فى فلك الولايات المتحدة الأمريكية. بل إنها فى حروبها مع الهند لم تستطع أن ترد عدوان جارتها اللدود عليها، وانتهت تلك الحروب حتى الآن بالهزيمة المذلة وانقسامها إلى بلدين وشعبين بعد أن كانت بلدا واحدا وشعبا واحدا.

وقد رأى المؤلف كثيرا من المسلمين مفتونين بالحضارة الغربية وتقليدها تقليدًا أعمى إيمانا منهم بأن أسلوبها هو أسلوب الحياة الأمثل وأن أمتهم إذا كانت تريد فعلا النهوض مما هى فيه من ركود وضعف وتخلف فليس أمامها إلا الضرب فى طريق هذه الحضارة واتباع خطوات أبنائها. ومن هنا وجدناه مهتما بالتحذير من مغبّة هذا الطريق والسير فيه. إنه يؤكد أشد التأكيد أن الأخذ بالمدنية الأوربية هو قَتْلٌ بالسم الزُّعَاف للثقافة الإسلامية المبنية بطبيعتها على القيم الدينية: فالإسلام يهتم أول ما يهتم بالرقى الخلقى، مع عدم إغفال الرقى المادى بطبيعة الحال، أما فى المدنية الغربية فالاهتمام منصب على اعتبارات النفع المادى وحده، أما الأخلاق المطلقة فليس لها مكان فى منظومة تلك المدنية. ذلك أن هذه الأخلاق إنما هى نتاج دينى أساسه الإيمان بالله والحياة الآخرة، على حين أن أوربا قد طلَّقت ذلك كله وعدَّته رجعيه وتخلفا. والسبب فى هذا أن المدنية الأوربية هى بنت المدنية الرومانية المادية ووريثتها، ولم تكن النصرانية التى اعتنقتها بعد ذلك إلا مجرد طلاء خارجى سرعان ما تخلصت منه حينما واتتها الفرصة فثارت على الكنيسة ورجال الدين، الذين كبلوها بالأغلال روحًا وجسدًا طَوال العصور الوسطى المظلمة ودفعوها بهذا التكبيل إلى مزيد من النفور من الدين.

وقد ترتب على هذا الوضع أن أضحت الأخلاق الأوربية أخلاقا نسبية قِوامها المنفعة واللذة والسيطرة وتكديس الثروات والاستحواذ على أسباب القوة لاستغلال الطبيعة وقهر الشعوب. ومن هنا لم تعد أوربا تجد فى ظلم الأمم الأخرى ولا فى الإباحية الجنسية أى حرج، إذ لم تعد تفكر لا فى الله ولا فى الحساب الأخروى بل فى مجد الدنيا فقط، تلك الدنيا التى اتخذتها معبودا لها من دون الله. والخلاصة التى يبرزها محمد أسد أمام عيون المسلمين هى أنه لا يوجد شىء من التجانس الروحى بين الإسلام والحضارة الغربية، وهو ما ينبغى أن يدفعهم إلى النفور والاشمئزاز منها والنجاة بأنفسهم من سمّها المهلك. وكل ما يستطيع المسلمون استفادته من المدنية الأوربية فى نظره هو منهج البحث العلمى وتقنياته، وهو ذات المنهج الذى سبق لأوربا استفادته من حضارة الإسلام حينما كانت هى الحضارة المتفوقة ثقافيا واقتصاديا وسياسيا وعسكريا[16].

بيد أن هناك سببا آخر لا يقل عن هذا أهميةً وخطرًا ينبغى أن ينفِّر المسلمين من أوربا، هو كراهية الغربيين للإسلام والمسلمين، تلك الكراهية التى ترجع إلى مصدرين مختلفين: أولهما استعلاء أسلاف الأوربيين (اليونان والرومان) على جميع الأمم والشعوب، وبخاصة تلك التى تسكن شرق البحر المتوسط، واحتقارهم لهم ونظرهم إليهم على أنهم برابرة متخلفون لا يمكنهم أن يتسامَوْا إلى مركز السيادة الذى يشغلونه هم عن جدارة واستحقاق. وثانيهما العداوة التى ينفخون فى نارها لتأريث الأحقاد على الإسلام وتاريخه ورجالاته وعقائده وتشريعاته وأخلاقه وكل ما يتصل به ضاربين بجميع قواعد البحث العلمى المحايد عُرْضَ الحائط، إذ تراهم يتجاهلون كل ما هو مضىء فيه، ويختلقون المعايب اختلاقا، ويمتلخون النصوص من سياقها، ويفسرونها تفسيرا منحرفا كى يصلوا إلى إثبات الدعاوَى المسبقة التى أقبلوا بها على موضوعهم، وهو ما لا يصنعونه عند دراستهم لأى دين أو ثقافة أخرى. ولا يقولَنّ أحد إن أوربا قد أدارت ظهرها للنصرانية، فكيف تظل محكومة بهذا الشعور العدائى الذى يرجع أصله إلى هذه الديانه؟ إذ يجيب أسد على ذلك بأن هذا الشعور قد اقتحم قلب أوربا فى طفولتها قبل نهضتها الحديثة، فاستكنّ فى طوايا ضميرها كالعُقَد النفسية التى تترسب فى الضمير أثناء فترة الطفولة، أو كالخرافات التى تبقى فى تلافيف النفس رغم تحرر العقل من الاعتقادات التى كانت تدور حولها تلك الخرافات...وهكذا.

وبالمثل ينبّه أسد المسلمين إلى أنهم لا ينبغى أن يؤمِّلوا الكثير من دخول بعض الأوربيين فى الإسلام. ذلك أن شعور العداوة عند الأوربيين تجاه هذا الدين وأتباعه هو من العُتُوّ بحيث لا يؤثر فيه اعتناق عدد قليل منهم له، فهؤلاء يمثلون قلة شاذة لا تأثير لها على مجريات الأمور. علاوة على أن ظاهرة اتجاه بعض الأفراد إلى البحث عن خلاص روحى فى خضم المادية العاتى هو أمر طبيعى، لكن العبرة فى مثل هذه الأحوال بالاتجاه العام لا باتجاه فرد هنا وفرد هناك، وبخاصة أن مثل هؤلاء الأفراد عندما يعتنقون الإسلام لا يفهمون فى الغالب تعاليمه حق الفهم. وفوق هذا فإن هناك أوربيين آخرين يُقْبِلون فى ذات الوقت على أديان الهند والصين أو يتجهون إلى الصوفية النصرانية. فالإسلام إذن ليس هو وحده الذى يُقْبِل عليه بعض الأفراد من الأوربيين، بل هو مجرد نِحْلَة من النِّحَل فى هذا السياق. وعلى أية حال فعدد الذين ينضمون إلى الفاشية والشيوعية مثلا يفوق (كما يقول) عدد الذين يعتنقون الإسلام بما لا يقاس. لكن ذلك الوضع قد يتغير، حسبما قال أيضا، إذا بلغت الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية الحد الذى يشعل حربا عالمية أخرى يذوق فيها الأوربيون من الفظائع ما لم يَخْبُروه من قبل وما قد يدفعهم إلى المطامنة من غرورهم والسعى بذلَّة وإخلاص وراء الحقيقة الروحية، أما الوضع الحالىّ الذى لا مُشَاحَّة فيه فهو أن أوربا هى التى تسيطر على العالم الإسلامى وتسيِّره كما تريد[17].

من أجل هذا يرفع محمد أسد عقيرته محذِّرًا المسلمين من الانسياق وراء الفكر الغربى ومُهِيبًا بهم أن يتمسكوا بالنظرة الإسلامية للحياة والمجتمع وينبذوا الفلسفة الأوربية التى لا تؤمن إلا بالمحسوسات ومتع الحياة الدنيا وتستعلى على الشعوب الأخرى وتخطط لاستعبادها واستنزاف ثرواتها، على أن يحرصوا فى ذات الوقت على اكتساب العلوم الطبيعية والرياضية ويتنبهوا إلى عظمة القيم الإسلامية بما تدعو إليه من التساوى بين البشر والتعاون بين الطبقات والشعوب والتواضع مع الآخرين والخضوع لمعانى الحق والعدل. ويَأْسَى كاتبنا أشد الأسى لما يلاحَظ بين قطاعات واسعة من المثقفين المسلمين من شيوع الإلحاد، أو على الأقل عدم المبالاة بالدين وقِيَمه بتأثير التعليم الغربى الذى تَلَقَّوْه، وهو ما يستتبع الإحساس بالذلة والدونية تجاه الأوربيين ويُفْقِد المسلم شخصيته وكرامته واستقلاله[18].

وعلى المسلمين كذلك أن يكافحوا فى أنفسهم الشعور باليأس والإحباط ووهم العجز فى مواجهة الحضارة الغربية وألا يظنوا، بسبب تخلف مجتمعاتهم، أن هذا التخلف مرجعه إلى الإسلام، إذ إن التَّفَصِّىَ من الإسلام هو السبب فى ذلك التخلف لا الإسلام نفسه. كذلك عليهم أن يكافحوا بكل طاقاتهم ما هو منتشر بينهم من النزوع إلى تقليد الأوربيين حتى فيما يُظَنّ عادةً ألا خطر من ورائه، كالتشبه بهم فى الملبس مثلا أو طريقة تناول الطعام[19]. فهذا التقليد يستتبع فى العادة الفناء فيهم وامّحاء الشخصية الإسلامية، وهو ما حذر منه الرسول عليه السلام حين قال: "من تشبَّه بقوم فهو منهم"[20]. ومن هنا يدعو أسد المسلمين إلى التمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ فيها تتجسد الشخصية الإسلامية، وبإهمالها تذوب وتضيع. وليست سنة النبى تشريعا فحسب، بل هى النموذج الراقى للسلوك الشخصى والاجتماعى أيضا. أما نفور المثقفين المسلمين المتأوْربين من التمسك بها ظنا منهم أنها لا تنسجم مع المدنية الحديثة فهو عنوان على التهافت النفسى الذى يعترى المغلوبين فيجعلهم يظنون أن نظام حياة الغالبين هو النظام الأمثل. وكيف يكون ذلك وقد قال الله تعالى: "وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهُوا"؟ ولقد حاول أعداء الإسلام، وبخاصة من المستشرقين، أن يشككوا فى السنة النبوية، غير أنهم لم يستطيعوا أن يقدموا برهانا على ما يقولون، وكانت غايتهم هى هدم هذا المصدر الثانى للتشريع والسلوك بعد القرآن لتخلو الساحة لعاداتهم وتقاليدهم وقوانينهم وأذواقهم وأسلوب معيشتهم، ولتضيع شخصية المسلم ويسهل خضوعه لهم[21].

لقد كان رسول الله هو أعظم الرجال، ومن ثَمَّ كانت سنته هى النموذج الكامل للحياة البشرية النبيلة، وليس فى الحرص على التمسك بسنته صلى الله عليه وسلم أىّ افتئات على فردية المسلم كما يزعم أعداء الإسلام ومن لف لفَّهم. إنها على العكس، تعوِّد المسلم النظام والانضباط واليقظة لكل ما يفعل، فلا يأتى شيئا أو يدعه إلا وهو واعٍ تماما لما يصنع! والحياة إذا خلت من الانضباط واليقظة أَسِنَتْ واضمحلَّت. والتمسك بسنة النبى عليه السلام من شأنه أن يطبع المجتمع المسلم بطابع واحد يقرِّب بين أفراده ويشد بعضهم إلى بعض بدلا من التشتت والتنافر تبعا لاختلاف الأمزجة وألوان السلوك والعادات والتقاليد من فرد إلى فرد، ومن جماعة إلى أخرى. ثم هو، من ناحية أخرى، يربطنا بالرسول ويجعلنا دائما على ذكْرٍ منه فيصير محورَ حياتنا ومثلَنا الأعلى، ويظلّ الإسلام بذلك حَيًّا فى نفوسنا[22].

وهنا يؤكد أسد أن ما نشهده من ضعف وتخلف بين المسلمين ليس سببه الإسلام، بل سببه المسلمون أنفسهم بسبب موات قلوبهم وكسلهم وحبهم للدنيا وانهزامهم الروحى والثقافى، أما الإسلام فهو أعظم منهج يمكن أن يتبعه البشر فى كل مجالات الحياة. وقد ثبت هذا ثبوتا قاطعا، فما من شىء يحذِّر الإسلامُ منه ومن شروره إلا تبين أنه شرٌّ فعلاً، وما من شىء دعا إليه الإسلام وإلى اجتناء ما فيه من خير إلا اتضح أنه خيرٌ حقًّا. ولابد للمسلمين أن ينفضوا عن أنفسهم روح الهزيمة والاستسلام والتشاؤم أمام المدنية الغربية، التى لا تسامى أو تساوى الإسلام، والتى ينبغى أن نجعل معيار القبول لأى شىء منها أو رفضه هو الإسلام وشريعته وأخلاقه وقيمه262.

وبعد، فهذا كلام رائع كما قلت، لكن يبقى السؤال: كيف، وما السبيل إلى توهج الجذوات القابعة تحت الرماد وهبوب المسلمين من رقدتهم هذه التى طالت ولم تستطع دعوات المصلحين رغم تعاقبها أن تضع حدا لها؟ نرى هل هناك قانون يحكم نهوض الأمم ورقودها أو اضمحلالها وفناءها؟ إذن ما هو؟ وهل لو عرفناه نستطيع استخدامه بحيث نوقظ به الراقدين ونبعث الموتى؟ إن المسلمين جميعا يَشْكُون من وضعهم المخزى، والأغلبية الساحقة منهم تدعو بدعوة العودة إلى الإسلام، ومع ذلك فلا رجعة حقيقية إلى الدين حتى الآن ولا هبوب من رقدة العدم! فما السر يا ترى؟ وما السبيل إلى البعث ونفض رداء المذلة والضعف والتخاذل والاستكانة أمام عدوهم، الذى لا يرقب فيهم إِلاًّ ولا ذمة، ولا تأخذه بهم شفقة، ولا يعرف فى تعامله معهم معنى الرحمة والإنسانية أو حتى الحياء؟ ذلك هو السؤال!

        

الهوامش:

[1] انظر محمد أسد/ منهاج الإسلام فى الحكم/ ترجمة منصور محمد ماضى/ ط 6/ دار العلم للملايين/ 1983م/ 7، 11.

[2] المرجع السابق/ 15- 20.

[3] السابق/ 21- 32.

[4] السابق/ 32- 42.

[5] وضع أسد فى آخر الكتاب مجموعة من الضوابط التى ينبغى أن تحكم تحديد هذه النصوص، ووكَل مهمة التحديد إلى طائفة من العلماء الذين يختارهم مجلس الشورى من المذاهب الفقهية المختلفة.

[6] السابق/ 45- 49.

[7] السابق/ 7.

[8] السابق/ 51- 52.

[9] السابق/ 62- 63، 85- 86.

[10] السابق/ 81- 85.

[11] النساء/ 59.

[12] وهنا أيضا يؤكد أسد أن الحرب المشروعة فى الإسلام (أو "الجهاد فى سبيل الله" كما تسمى) لا تجوز أن تكون إلا حربا دفاعية، وهو ما سبق أن تناولناه من قبل عند دراستنا لآرائه الفقهية.

[13] يقصد: "نحن مسلمى الباكستان".

[14] هكذا جاء فى الترجمة، وصوابه: "لن يعوق".

[15] ما تتضمنه الفقرتان السابقتان يجده القارئ فى ص165- 173 من المرجع السابق.

[16] يُرْجَع فى ذلك إلى الفصلين الأولين من كتاب أسد: "الإسلام على مفترق الطرق".

[17] انظر الفصل الثالث من الكتاب السابق، وعنوانه: "شبح الحروب الصليبية"/ 52- 66.

[18] انظر، فى ذلك، الفصل المسمَّى: "فى التربية" من الكتاب السابق/ 67- 78.

[19] كتناول مستعملى الشوكة والسكين من المسلمين طعامهم بيسراهم اقتداء بالأوربيين.

[20] انظر الفصل الخامس من كتاب "الإسلام على مفترق الطرق"، وعنوانه: "فى التقليد"/ 79- 86.

[21] هذا تلخيص شديد التركيز لما جاء فى الفصل السادس من الكتاب السابق بعنوان "الحديث والسنة"/ 87- 98.

[22]  يجد القارئ هذه الأفكار مفصلة فى الفصل الذى عنوانه: "روح السنّة" 99- 110.