الأحواز في غياهب السجون

عبد الكريم النقيدان

عبد الكريم النقيدان

[email protected]

أصبح الأنين المختلط بغصة من مفردات حياتنا اليومية، والنواح المتشح بلوعة ساخنة من الوجبات الدسمة التي يتناولها العربي بين حين وحين. ولمَ لا يئنُّ ساعة، ويصرخ بؤسًا مثلها، على أمر يستحق، وأرض له بها حق.

لا أحب جلد الذات، ولست ممّن يتناولون أجساد العرب تمزيقًا أو عبثاً بالقول. وإنما ألجأ إليه، إذا تقرح جرح في جسدنا، أو شممنا رائحة كريهة تسوقها إلينا عواصف الحقد والضيم.

كثير ما يتعرض جسدنا العربي إلى النهش أو تسقيم الألباب والقلوب، من أُمم تزعم أن لها حق، وتجهش بالبكاء حتى ترققَ قلوب العالم عليها، أو أمم أكثر خبثًا فتسلب تأريخًا ليس لها .. فتلويه عنوة لتأريخها.

وكثير ما بكينا على فلسطين، ونظمنا فيها قصائد عصماء، وقربنا لها أبناءنا شهداء، وحُق لها فهي عضو يستحق التطبيب.

وهنا نرثي ترابًا عربيًا وراء الستار يئنّ لوحده،كأنه يتيم فقد أمه الحانية، وأباه الشامخ العزة. تراب ووطن تفجر من بين أنهاره علماء وقواد وأحلام أنوفة لا تقبل السقوط تحت بنادق المستبد، ولا تجثوا هونًا وضعفاً.

تقاسم الغرب تركات (الرجل المريض) وكأنهم بالرند بنا يلعبون، وسايكس وبيكو يتزعمان  تقسيم غنيمتهم لجِرائهم التي لا يبخلون عليها أميالاً من أرضنا.  

ليس المقام هنا لذكر مسببات هذا الخور السقيم.  لكن أحب أن أتذكر تلك الأرض التي تنتمي لنا عرقًا ونسبًا، لا ينفك ذكرها.

بلد عربي أصيل خرج من رحمه خيرة العلماء، وأمطرت كتبهم صيبًا نافعاً، وحُفظت عند سائر أمصار الدُنا، فكان سيبويه عالم النحو وفقيه العربية يكتب كتابه (الكتاب) على ضفاف نهر كارون، وبين أحضان أهله في المحمرة، وأبو هلال العسكري الذي انبجست عيناه في مدينته (عسكر مُكْرَم) لا زال يجري علمه وأدبه حتى الساعة، وعيون من العلماء تفيض منها أفانينهم وذكرهم، فمنهم: عبدالله بن المقفع صاحب الأدبين والكليلتين، وأبو نواس الشاعر المشاكس، وابن السّكيت والحلاج، كلهم نبعوا من تلك الأرض، فتناولنا علمهم، بشيء قليل أو كثير، فلمَ نضنُ على أرضهم  بذكرى يستحقونها وهم أبناء جلدتنا..!

وكما كانت جزيرة العرب ولاّدة لقبائلها كما أنها لا تحتمل بقاءهم فوقها، لخشونتها وقسوتها، وقلة مائها، فرحل منهم قبل الإسلام إلى  تلك الأرض قبائل عربية كــ «بني كعب» و«طي» و«تميم»  و«بني أسد» و«بني مرة» .. وغيرهم، فقد ذكر المؤرخ الإيراني أحمد كسروي أن قبائل «بكر ابن وائل» و«بني حنظلة» و«بني العم» كانت تسيطر على الإقليم قبل مجيء الإسلام. أ هـ  

تقافلت القبائل إليها تِباعاً، فالأنهار تجري من تحتها، والغدران تفيض من جوفها، واليوم ينبع نفطها تحت أقدام أهلها، لكن ليس لهم منه نصيب.

وكأن جرير يعلم بحالها هذه الأيام فيرثيها بقوله:

سيروا بَني العَمِّ فَالأَهوازُ مَنزِلُكُم       وَنَهرُ تيرى فَلَم تَعرِفكُمُ العَرَبُ

وحتى  اليوم بكل أسف يا جرير لا تعرفهم العرب وإن عرفتهم جهلتهم.

سميت بالأحواز وهي جمع لكلمة  « حوز » من مصدر الفعل « حاز » من الحيازة والتملك، فنبست بهذه التسمية لأول مرة شفاه العرب، منذ أن شدّوا متاعهم إلى شط العرب، وأقاموا بعاصمتها المحمرة، ونصبوا خيامهم وبنوا مساكنهم، أما « الأهواز »  فهو لفظ فارسي لعجمية ألسنتهم. ومن الأسماء التي تطلق عليها آنذاك « عربستان » سمتها بذلك الدولة الصفوية اعترافاً منهم بعربيتها، واليوم تسمي بـ خوزستان، طمسها لعربيتها.

صراعات تقادمت على هذا الإقليم، وممالك عربية تعاقبت على أرضه، وحروب طحنت العرب بالفرس، ولقلة حيلة العرب آنذاك، وضعف قوتهم، أستأسدت ملوك  الفرس عليهم، فلما جمعت العرب أنفاسها،ولـمَّتْ شتاتها، ووحدت مقاصدها، باتت قوة هائبة، وضربة جارحة، فعزمت على رد الظلم وإيقافه، فكان يوم من أيام العرب تذاكره الذاكرون فعرف بمعركة (ذي قار)  فانتصروا  على الفرس وأذاقوهم الهزيمة بطعم عربي.

خريف تلا خريفًا والأحواز سجينة وراء قضبان الفرس، مقيدٌ معصمها منذ أن سقطت آخر ممالكها عام 1925م  وأُسر ملكها الشيخ خزعل الكعبي،الذي قال عنه أمين الريحاني  في كتابه (ملوك العرب): إنه أكبرهم سنا بعد الشريف حسين وأسبقهم إلى الشهرة، وقرين أعظمهم إلى الكرم أ هـ .  قتل مسموماً في قلعة طهران بعد أن قضى إحدى عشرة سنة في سجن الشاه رضا خان، شاه إيران.

نعمت الأحواز بحضارة الإسلام منذ ولادته الأولى، فبعد معركة القادسية عام 15هـ  636م أصبحت يدًا فاعلةً تنشرُ الإسلام وتأويه، وتمد من أفذاذ أكبادها رجالاً انظموا لخطوط الجيوش المسلمة.  ولا يمكن أيضًا أن نستثني الأحواز من الحضارة العربية، فهي جزء منه، لأنها بترابها وأنهارها وقبائلها عربية،حتى ولو حاول سُجّانها عَصْب أعين الناس عن النظر إلى مجدها وإرثها الحقيقي، بيد أن عتب أبنائها على أمة العرب له وجه حق، إذ لا يلقوا لها ذهنًا، ولا يكلفوا  أحلامهم عناءً في السؤال عن مواطنها وأهلها وذكرياتها، فضلاً عن استنهاض هممهم من أجلها.

ويضيف الرائد الدنماركي كارستن نيبور، في كتابه «رحلات في الجزيرة العربية وبلدان أخرى في الشرق» عام 1762م فيقول: (لكنني لا أستطيع أن أمر بصمت مماثل بالمستعمرات الأكثر أهمية، التي رغم كونها منشأة خارج حدود الجزيرة العربية، فهي أقرب إليها. أعني العرب القاطنين الساحل الجنوبي من بلاد الفرس، المتحالفين على الغالب مع الشيوخ المجاورين، أو الخاضعين لهم. وتنفق ظروف مختلفة لتدل على أن هذه القبائل استقرت على الخليج العربي قبل فتوحات الخلفاء، وقد حافظت دوماً على استقلالها).

يعيش أهلها اليوم تحت أصفاد الأسر، والاستبداد والتخلف، رغم أن أكثر من 80% من نفط إيران ينبع من عيونها، ولا يقتاتون منه إلا فتات موائد الأقاليم الإيرانية، غير أن تبديل الأسماء العربية بالفارسية، تعمل بشكل موسع، وتهجير غير العرب إليها قائم على قدم وساق، وعدم السماح بتعليم اللغة العربية في المدارس، واعتقالات أبنائها وإعدامهم علانية في شوارع طهران، وانتفاضة هنا وهناك، وثورة عربية في الإقليم تشتعل وقدتها لكسر القيد وتحرير الأرض، وسرعان ما تُطفأ تلك الوقدة، بالأغلال والقهر والضيم.

ألا يستحق الأحوازي حين يجأر بأعلى صوته بـ (عربي أنا.... ) أن تستيقظ نخوتنا إليه كما إلى فلسطين؟!