فكر محمد أسد كما لا يعرفه الكثيرون (4)

فكر محمد أسد كما لا يعرفه الكثيرون (4)

تأويل الجن والجزاء الأخروي عند محمد أسد

د.إبراهيم عوض

[email protected]

فى الفصل الذى عنوانه "Dajjal: الدجال" من كتابه المشهور "The Road to Mecca" يحكى لنا محمد أسد تأويله، فى بدايات تحوله إلى الإسلام وفى حضور ابن بليهد العالم السعودى المعروف فى عهد الملك عبد العزيز آل سعود، لنبوءة المسيخ الدجال على أساس أن المقصود هو التحذير من الحضارة الغربية: فهى حضارة عوراء تهتم بالجسد فحَسْب ولا تلقى بالا إلى الروح أو الإيمان بالله (مثلما أن الدجال أعور)، وهى قد بلغت من التقدم العلمى والسيطرة على الطبيعة وتوفير مستوًى عالٍ من الرفاهية بحيث فُتِن بها كثير من الناس وعظّموها لدرجة التأليه (وهو ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه سيكون للدجال فى ظاهر الأمر مثل هذه القدرة التى تغريه بدعوة الناس إلى عبادته فيستجيب له ضعفاء الإيمان). ويروى أسد أيضا أن الشيخ ابن بليهد قد أعجب بهذا التأويل، بل تحمس له رغم أنه، كما قال، لم يخطر له من قبل على بال[1].

وفى ترجمته لـ"صحيح البخارى"، التى ظهرت لأول مرة فى كتابٍ سنة 1938م يؤوّل أسد قول الرسول عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن سلام إن أول أشراط الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، بأنه وصف رمزى للجوائح الاجتماعية التى سوف تأتى على قواعد الثقافات المشرقية وتدفع المشارقة دفعا إلى التقليد الأعمى للغرب على أساس أن النار ستلتهم ما تبقَّى من حيوية الثقافة الخاصة بشعوب المشرق، ومن ثم لا يعود هناك اتصال بين ماضيهم وحاضرهم[2]. وهو تأويل فى النفس منه أشياء: فابن سلام قد سأل النبى سؤاله هذا على سبيل الاختبار كى يعرف أهو رسول حقيقى أم لا. ومعنى ذلك أن النبى أجاب ابن سلام وِفَاقَ ما فى نفسه، فهل كان ابن سلام يعرف أن المشرقيين فى عصرنا الحديث سوف يتَخَلَّوْن عن ثقافتهم ويقلدون الغرب تقليدا أعمى؟ ثم إن الصلة لم تنقطع بين حاضر المشرقيين وثقافتهم القديمة، اللهم إلا فى بعض القطاعات الضيقة، بل إن الإسلام قد شرع ينتشر فى الغرب نفسه. كذلك فكلام أسد لا يعنى إلا أنه لا أمل للمسلمين فى الانتصار على الغرب ما دام هذا الوضع هو علامة من علامات الساعة، أى أنه لن يكون هناك وقت لتغييره، وهو ما يدفع إلى اليأس والرضا بالعبودية للغرب. وهذا كله غريب!

والواقع أن التأويل يمثل قَسَمَة بارزة، إن لم تكن أبرز القسمات، فى فكر محمد أسد الإسلامى كما يتبدى فى ترجمته التفسيرية للقرآن الكريم. ونبدأ بتأويله لإبليس والشياطين، ويتضح من الهامش رقم 10 و16 من هوامش ترجمته لسورة "الأعراف" مثلا أن قصة آدم وعصيان إبليس للأمر الإلهى بالسجود له هى عنده قصه رمزية للتطورات الروحية والأخلاقية التى طرأت على حياة الجنس البشرى فوق هذه البسيطة، وليست قصة حقيقية حدثت قبلا لآدم فى الجنة[3]. وإبليس، عنده أيضا، "ملاك ساقط"، وتمرده تمرد رمزى، وهو بإغوائه البشر إنما يمثل مهمة كونية محددة هى حَفْزهم على ممارسة ما وهبهم الله من إرادة أخلاقية حرة، أى القدرة على الفعل والترك فى مجال الأخلاق[4]. كما يفسر الشياطين بأنها تعبيرٌ استعارىّ عن الرغبات البشرية الشريرة المضادة لمصالح البشر الروحية[5]. وبالمثل يؤول "القُرَناء" فى قوله عز وجل: "وقَيَّضْنا لهم قُرَناء فزيَّنوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم" والآيات التى تشبهه بالنزغات الشريرة التى لا تنفك ملازمة للمجرمين[6].

فأما أن إبليس "ملاك ساقط" فهو يخالف ما جاء فى القرآن الكريم من أنه من الجن: "إلا إبليس، كان من الجن ففسق عن أمر ربه"[7]. ومما يؤكد هذا قول إبليس نفسه فى حواره مع رب العزة إنه خير من آدم لأن آدم مخلوق من طين، أما هو فمن نار[8]، ومعروف أن الجِنّة مخلوقون من النار[9]، فكيف يُقْدِم مسلمٌ بعد ذلك على القول بأن إبليس كان ملاكا عصى الله فهبط من عليائه؟ إن هذا أحد التأثيرات الكتابية لأن أهل الكتاب هم الذين يقولون ذلك، أما المسلمون فيقرأون فى القرآن المجيد قوله جل شأنه فى وصف الملائكة: "يخافون ربهم مِنْ فوقهم، ويفعلون ما يؤمرون"[10]، فكيف يقال إن مَلَكًا من الملائكة قد جرؤ على عصيان الله، وقد فطرهم الله جميعا على الطاعة المطلقة بحيث لا يُتَصَوَّر وقوع العصيان منهم مجرد تصور؟

أما الاحتجاج بأن إبليس قد استُثْنِىَ من الملائكة فى قوله سبحانه: "وإذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس أبَى واستكبر وكان من الكافرين"[11] وغيره من الآيات التى تتناول نفس الموضوع[12]، فليس باحتجاج سليم، إذ الاستثناء لا يعنى بالضرورة أن المستثنى داخل فى المستثنى منه، وإلا فأين يذهب "الاستثناء المنقطع" فى مثل قولنا: "قام الطلاب إلا حمارا" كما تقول بعض كتب النحو للتدليل على أن المستثنى قد يكون من جنسٍٍ أو نوعٍ أو طائفةٍ أو جماعةٍ غير جماعة المستثنى منه؟ ومن شواهده فى القرآن العظيم قوله عز من قائل يخاطب رسوله محمدا عليه السلام: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى* إلا تذكرةً لمن يخشى"[13]، وقوله سبحانه على لسان إبراهيم عن الأصنام التى كان يعبدها قومه: "فإنهم عدوٌّ لى إلا رب العالمين"[14]، "وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه: إننى بَرَاءٌ مما تعبدون* إلا الذى فطرنى، فإنه سيهدين"[15]، وقوله عزت قدرته: "بل الذين كفروا يكذّبون* والله أعلم بما يُوعُون* فبشِّرْهم بعذاب أليم* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون"[16]، وغير ذلك كثير. فتذكرةُ من يخشى ليست داخلة فى الشقاء، والله سبحانه ليس من الأصنام وليست هى منه فى شىء، والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا ينتمون إلى الكافرين من قريب أو بعيد، وذلك من الوضوح بمكان مكين.

وعلى أية حال فمن غير المفهوم أن يقول أسد عن إبليس إنه "ملاك ساقط" ما دام يرى أنه هو والشياطين لا يَعْدُون أن يكونوا هم الرغبات البشرية، وأن تمردهم إنما هو مسألة رمزية، أى أن الأمر كله عراك فى غير معترك أو كما تقول الكناية الشهيرة: "زوبعة فى فنجان". ومع ذلك كله فإنى أفضل ألا يمضى الواحد منا فى مثل هذه التأويلات لأنه سيجد نفسه وقد سقط فى شبكة من التناقضات يستحيل عليه أن يخلّص نفسه منها كما شاهدنا قبلا ما حدث لكاتبنا. وإن الاعتقاد فى وجود إبليس والشياطين لأقوى فى وَزْع الإنسان عن عمل الشر من القول بأن الأمر ليس إلا رغبات نفسية تريد الإشباع. ولست مع ذلك أشدد النكير على من يريحهم التأويل رغم كثرة الآيات والأحاديث التى تتحدث عن الشيطان بوصفه كائنا ذا شخصية، إذ حددت المادة التى خُلِق منها، وروت لنا ما جرى فى أول الخليقة بينه وبين المولى سبحانه بوقائعه ومشاهده وحواراته، وحذرت آدم وذريته من وساوسه وأكاذيبه وأحقاده، وتوعدت من يُصِيخ إليه بالخسران المبين وأهوال الجحيم.

ولقد غَبَرَ علىَّ فى شبابى زمن كنت أميل فيه إلى القول بمثل ما قال محمد أسد، لكننى كلما تعمقت فى الأمر وجدت أن من الأسلم الإيمان بوجود الشيطان ووسوسته. ومع هذا فلكلِّ وجهةٌ هو مولِّيها، والعقول ووجهات النظر والأمزجة تختلف من إنسان لإنسان، ولكنى لا أستطيع إلا أن أستعجب ممن يقولون بوجود "اللاوعى" مثلا (الشخصى منه والجمعى) وينكرون وجود الشيطان! أَوَعندهم دليل على وجود مثل هذا اللاوعى؟ إنما هو كلام بعض علماء النفس، وكلامهم مجرد تخمينات وافتراضات، أما الشيطان فمعرفتنا به راجعة إلى ما جاء فى القرآن الكريم وأحاديث الرسول، وأين هذا من ذاك؟ وأيا ما يكن الأمر فإن الإيمان بوجود الشيطان لا يناقض القول بوجود الغرائز البشرية: فالرغبات موجودة، والشيطان ينفخ فيها ويؤججها ويغرى بالارتماء فى نارها. وإن شعور الإنسان فى مثل هذا الموقف بأنه فى صراع مع شىء متميز عنه لمما يؤكد وجود الشيطان.

وبمثل هذه العين ننظر فيما قاله كاتبنا عن أمر الله لملائكته بالسجود لآدم، إذ معناه عنده أن البشر متفوقون عليهم بالتفكير التصورى والقدرة من ثَمَّ على التمييز بين الصواب والخطإ[17]. إننا لا نشاحّ فى شىء من هذا، لكننا لا نجد فيه ما يمنع من الإيمان بوجود الملائكة والشياطين ورضا الأولين بالسجود لآدم، واستكبار إبليس عن ذلك. ترى لماذا لا يسير الأمران جنبا إلى جنب؟ هل فى طبيعتهما ما يمنع من هذا؟ ونفس الشىء نقول فى أجنحة الملائكة المذكورة فى الآية الأولى من سورة "فاطر"، فأسد يراها رمزا يدل على السرعة والقوة التى يتنزل بها الوحى على الأنبياء[18]. إننا لا نرى فيما يقوله أسد هنا عن سرعة الوحى وقوته ما يبعث على الاعتراض عليه، ولكننا أيضا لا نرى فيما جاء به القرآن عن أجنحة الملائكة ما يوجب التأويل. المهم ألا نشبهها بأجنحة الطيور، فالطيور جنس من المخلوقات، والملائكة جنس آخر مختلف تماما.

ثم إن هذه النزعة التأويلية المسرفة من كاتبنا لَتُوقِعه أحيانا فيما لا يقبله العقل. لنأخذ مثلا تفسيره لـ "الجِنّة" فى قوله سبحانه عن المشركين: "وجعلوا بينه (أى بين الله) وبين الجِنَّة نسبا" بأنهم "قوى الطبيعة، إذ إن هذه القوانين لا تظهر للعين ولا تدركها الحواس، فهى تنتمى إذن لعالم الخفاء، و"الجِنَّة" هى كل كائن خفى[19]. يقصد أن مادة "ج ن ن" تعنى الخفاء. ووجه المناقضة للمنطق فى هذا التفسير أن القرآن يشير فى الآية المباركة إلى ما كان العرب يعتقدونه، والعرب (كما هو معلوم) لم يكونوا يعرفون شيئا أى شىء عن قوانين الطبيعة التى يفسر بها أسد كلمة "الجنة". أى أنه ينسب إلى العرب ما لا يمكن نسبته إليهم. إنه، بهذه الطريقة، يدعى على التاريخ ما ليس منه، وهذا هو وجه الخطورة. ثم إن الجن فى القرآن جنس محدد بمعالمه فلا يمكن من ثَمَّ أن يفسَّر بـ "القوانين الطبيعية". كذلك فالآية تنسب إلى الجن "العِلْم"، ولا يمكن أن توصف القوانين الطبيعية بالعلم، إذ ماذا تعلم؟ أو كيف تعلم؟ كما أن الآية تقول عن "الجِنَّة" إنهم لَمُحْضَرون للحساب يوم القيامة، فهل يمكن القول عن قوانين الطبيعة إنها ستُحْضَر يوم القيامة؟ فهذا وغيره هو الذى جعلنى أرجع عما كنت أعتقده فى شبابى الأول من أن الملائكة هى عوامل البناء فى الكون، أما الشياطين فهى عوامل الهدم والتفتيت، بالمعنى الواسع لكلمتى "البناء والهدم"[20]. ويزداد تناقض ما يقوله أسد مع منطق العقل بروزا عندما نراه يقيس ما كانت العرب فى الجاهلية تعتقده من وجود نسب بين الله سبحانه والجن على مفهوم: " l' élan vital: الدفعة الحيوية" فى فكر برجسون الفيلسوف الفرنسى، هذا المفهوم الذى يقوم على إضفاء صفات الألوهية على عناصر الطبيعة[21]، إذ أين اعتقاد العرب فى الجن من الدفعة الحيوية البرجسونية؟

وعلى نفس الوتيرة من الإسراف فى التأويل ومناقضته لمنطق العقل يسير محمد أسد فى تفسير "التسعة عشر" ملَكًا الذين جعلهم الله على "سَقَر" فى الدار الآخرة حسبما جاء فى الآيات 26-31 من سورة "المدَّثِّر": "سأُصْلِيه سَقَر* وما أدراك ما سقر؟* لا تُبْقِى ولا تَذَر* لوّاحةٌ للبشر* عليها تسعةَ عشَر* وما جَعَلْنا أصحابَ النار إلا ملائكة، وما جعلنا عِدّتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين فى قلوبهم مرض والكافرون: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ كذلك يُضِلّ الله من يشاء ويهدى من يشاء، وما يعلم جنودَ ربك إلا هو، وما هى إلا ذِكْرَى للبشر"، فماذا يقول محمد أسد هنا؟ إن "التسعة عشر" عنده هى قوى الإدراك وحواسه والوظائف العضوية للجسم البشرى، ومن ثم جاءت ترجمته لها على النحو التالى: "عليها تسعة عشر قوة"، ثم علق قائلا إن هذه القوى "التسعة عشر" قوًى ملائكية لأن الإنسان يميز بها بين الخير والشر[22].

ويؤسفنى أن يجنح كاتبنا إلى هذه المغالطات الواهية ويُقْدِم على العبث بنص القرآن الكريم على ذلك النحو مضيفا كلمة "قوة" لتمييز العدد "تسعة عشر" رغم خلو النص القرآنى منها، ورغم أن الآية التالية تقول إن هؤلاء التسعة عشر هم تسعة عشر مَلَكًا يُسَمَّوْن: "أصحاب النار"، ورغم أن الموضع الذى اجْتُلِبَتْ له كلمة "قوة" وزُِرِعَتْ فيه زرعا يرفضها رفضا قاطعا لأنها كلمة مؤنثة، ومن ثَمَّ تصلح أن تكون تمييزا لصيغة "تسع عشرة"، أما "تسعة عشر" فكلا ثم كلا ثم كلا. ومن تمحُّله هنا أيضا أنه، كى تتسق الآية المذكور فيها "أصحاب النار" مع الآية السابقة عليها، يقول إن هذه القوة قوة ملائكية، وهو تلاعب بالألفاظ خطر! ثم كيف تكون قوة الإدراك وحواسه والوظائف العضوية للجسم البشرى قائمة على سَقَر؟ وكيف تكون قوةً ملائكية، وهى كثيرا ما تُغْرِى بالشهوات وتسوق الإنسان إليها وإلى مغامستها سَوْقًا؟ لقد تحدث القرآن الكريم عن هؤلاء التسعة عشر فى عدة مواضع فسمّاهم فى سورتى "غافر" و"المُلْك": "خَزَنة جهنم"[23]، كما وصفهم فى سورة "التحريم" بأنهم "ملائكةٌ غِلاظٌ شِداد"[24]، وها هو ذا يدعوهم هنا: "أصحاب النار". ثم كيف تسمَّى هذه القُوَى: "أصحاب كذا"؟ فضلا عن أن "أصحاب" مفردها "صاحب" (مذكَّر)، ومن ثَمَّ لا يصلح استعمالها لـ"القوة" لأنها مؤنثة، ولو كانت هى المقصودة لاستعمل القرآن لها كلمة "صواحب"، التى مفردها "صاحبة".

الحق أنى أخشى أن تكون هذه التأويلات المسرفة المتعسفة واشيةً بوجود شبهة إنكار، ولو مبطنا، لبعض من جوانب عالم الغيب، وإلا فما معنى أن يَضْرِب الإنسان صَفْحًا عن كل ما يمتّ إلى ما يسمَّى فى القرآن بـ"عالم الغيب" مؤوِّلا إياه كل مرة بشىء من عالم الحس أو مما يتعلق بعالم الحس؟ لطالما نعى محمد أسد على الحضارة الغربية وأبنائها أنهم لا يؤمنون إلا بما يقع عليه الحس، فما السر فى موقفه ذاك إذن؟ وما دام الشىء بالشىء يُذْكَر فينبغى ألا يفوتنى الإيماء هنا إلى أن ملك غلام فريد (القاديانى) قد أوَّل "التسعة عشر" فى الآية الكريمة تأويلا مشابها، إذ قال إنها الحواس التسع[25] ومقابلاتها الروحية (وهى تسعة أيضا) بالإضافة إلى الشعور بالألم والحرارة[26]. وقد ذكر أسد أن الرازى قد أول "التسعة عشر" هذا التأويل من قبل.

وإذا كان مترجمنا قد أول "الجِنّة" بـ "قوانين الطبيعة"، فها هو ذا فى موضع آخر يؤول الجن (والجنّ والجِنّة شىء واحد كما نعرف) بأنهم "ناسٌ غرباءُ مسافرون لم يُرَوْا من قبل"، وذلك فى قوله تعالى يخاطب الرسول عليه السلام: "وإذ صَرَفْنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا: أَنْصِتوا. فلما قُضِىَ وَلَّوْا إلى قولهم منذِرين* قالوا: يا قومنا، إنا سمعنا كتابا أُنْزِل من بعد موسى يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم* يا قومنا، أجيبوا داعىَ الله وآمِنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويُجِرْكم من عذاب أليم* ومن لا يجب داعى الله فليس بمعجز فى الأرض وليس له من دونه أولياء. أولئك فى ضلال مبين"[27]، "قل: أُوحِىَ إلىَّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا* يهدى إلى الرُّشْد فآمنّا به، ولن نشرك بربنا أحدا*...إلى آخر الآيات"[28]. وهؤلاء الناس الغرباء كانوا، كما يقول، من اليهود، إذ لم يذكروا إلا رسالة موسى مما يدل على أنهم لم يكونوا يؤمنون بعيسى عليه السلام. كما يترجم "نفرا من الجن" فى آيات "الأحقاف" بـ "جماعة من الكائنات الخفية"[29].

وتعليقى على هذا أنه ليس هناك من سبب يجعلنا نصرف لفظ "الجن" عن دلالته المعروفة إلى معنى "الغرباء من البشر"، وإلا فأين الدليل على ذلك؟ صحيح أن القرآن قد استخدم كلمة "شياطين" للبشر، لكنه حين فعل ذلك قال: "شياطين الإنس"، أما هنا فقد استعمل كلمة "الجن" مطلقة دون إضافتها إلى "الإنس" أو "البشر" أو ما إلى ذلك. وعلاوة على هذا فإن القرآن يسمى الغرباء المسافرين: "أبناء السبيل" أو الذين "على سفر"، ولا يسميهم "الجن" أبدا. ثم إننا، على مذهب محمد أسد، ينبغى أن نسمى كل مسافر أو غريب لم نره من قبل: "جِنًّا"! أَوَلَيْسَ هذا كلاما مضحكا؟ وبالإضافة إلى ذلك فإن سورة "الجن" تذكر "الجن" فى مقابل "الإنس" كما تفعل آيات كثيرة فى القرآن الكريم، ولم يقل أحد إن "الجن" فى غير هذه السورة وسورة "الأحقاف" هم الأغراب الذين لم يسبق لنا أن رأيناهم، فلماذا تشذّ هاتان السورتان؟ وماذا نفعل بقوله عز شأنه فى سورة "الجن" على لسان الطائفة التى تنتمى إلى هذا الجنس: "وأنا لمسنا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَسًا شديدا وشُهُبا* وأنا كنا نقعد منها مقاعدَ للسمع، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصَدا"؟ أنقول إن هؤلاء الأغراب كانوا يقعدون من السماء مقاعد للسمع، أما الآن فقد تغير الحال ولم يعد يمكنهم أن يفعلوا ذلك؟ ولكن كيف يا ترى يتسنى للبشر أن يصنعوا هذا؟ أم ترى لابد من التأويل هنا كى نغطى ظهر التأويل السابق؟ إننا، بهذه الطريقة، نضيع معالم الآيات وملامحها، ويلتبس كل شىء فيها بكل شىء!

ولقد تكرر ذكر الجن والشياطين الذين كانوا يسترقُون السمع لأخبار السماء قبل الإسلام والذين باتوا يُرْمَوْن بعده بالشهب المحرقة[30]، لكن أسد يفسر "رُجُوم الشياطين" الواردة فى سورة "المُلْك" بأنها ما يَرْجَُم به شياطين الإنس، وهم المنجمون. يقصد تخميناتهم وظنونهم، ولا أدرى كيف يكون ذلك! لقد بينّا أن القرآن حين يقصد أشرار الإنس فإنه يقول بصريح العبارة: "شياطين الإنس"، أما حين يستعمل كلمة "الشياطين" مطلقة فليس إلا الشياطين المخلوقون من نار. وأىّ قول بغير هذا هو عبث وتدليس فى مواضع لا تقبل شيئا من عبث أو تدليس.

ثم إن القرآن يفسر بعضه بعضا، و"رجوم الشياطين" هى الشهب الراصدة التى يُقْذَف بها من يريدون أن يَسَّمَّعوا من الشياطين إلى الملإ الأعلى. وقد جاء فى الآية 17 من سورة "الحِجْر" أن الله قد حفظ السماء "من كل شيطان رجيم"، فالرَّجْم هنا هو الرجم هناك، أى القذف بالشهب الراصدة والطرد من رحمة الله لا رجم الظنون والتكهنات. وهذا واضح لكل ذى عينين! وهو نفسه ما تقوله آيتا سورة "الجن" المذكورتان آنفا، فلم اللف والدوران؟ كذلك لو كان الجن هنا مجرد جماعة من الغرباء، فما الذى أمسكهم فلم يجعلهم يبرزون من مكامنهم التى تصادف أن استمعوا فيها للرسول عليه السلام وهو يقرأ القرآن فى وادى نخلة؟ إن الآيات واضحة الدلالة على فرحتهم به وبالقرآن الذى سمعوه منه ومسارعتهم إلى الإيمان، أفلم يكن الطبيعى منهم أن يحرصوا على التقدم إليه وتعريفه بأنفسهم وإشهاده على إيمانهم برسالته؟ لكن آيات سورتى "الأحقاف" و"الجن" تنص على أن الرسول لم يعلم بوجود هؤلاء القوم وإيمانهم بدعوته إلا من خلال الوحى الإلهى، مما يدل على أنهم من الجن المعروفين الذين لا يظهرون للبشر. وتبقى مسألة كونهم يهودا أو نصارى، وليست آيات سورة "الأحقاف" قاطعة الدلالة على أنهم يهود، ولقد قال محمد أسد ذاته فى تعليق سابق إن عيسى لم يأت بشريعة جديدة. ومن هنا فإن التوراة من الناحية التشريعية شىء واحد لكل من اليهود والنصارى.

والطريف أن محمد أسد، بعد كل هذا، عاد فترجم "الجن" فى قوله سبحانه فى الآية الرابعة من سورة "الجن": "وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا" بـ"القوة الخفية"، وفسرها فى الهامش بأن المقصود بهم "the occult powers"، أى القدرات السحرية الخفية[31]، فأى ارتباك وإرباك هذا؟ أهكذا يُتَناول القرآن الكريم؟ فكيف تقول "القدرات السحرية" على الله الكذب؟ إن هذه القدرات إنما هى مفاهيم مجردة لا أشخاص، فكيف يمكن أن يقع منها قول أو توصَف بالكذب؟

هذا، وأود أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى أن ملك غلام فريد (القاديانى) قد فسر ذلك النفر من الجن بأنهم ناس من اليهود غير العرب، سُمُّوا "جنا" لأنهم كانوا غرباء[32]، تماما كما فعل محمد أسد لَدُنْ تناوله لآيات سورة "الأحقاف"، وإن كان المترجم القاديانى قد ذكر أنهم قابلوا النبى عليه السلام فعلا وأسلموا على يديه[33]، وهو ما لم تقله الآيات القرآنية فى أى موضع، بل من الواضح، حسبما جاء فى مفتتح سورة "الجن"،أنه عليه السلام لم يشعر بهم ولم يعرف بأمرهم إلا من الوحى: "قل: أُوحِىَ إلىَّ أنه استمع نفر من الجن...". كذلك أود أن أختتم هذه الملاحظات الخاصة بهؤلاء النفر من الجن بأنهم لو كانوا بشرا لسماهم القرآن بـ"أهل الكتاب" كما يفعل فى الآيات المشابهة. وحتى لو افترضنا أن كلمة "الجن" فى هذا السياق تعنى "الغرباء"، فهل كانوا غرباء فى نظر أنفسهم حتى يُسَمُّوا هم أيضا أنفسهم "جِنًّا" كما فى قوله تعالى: "وأنا ظننّا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا"؟ ثم لو كانوا ناسًا من غير العرب فكيف فهموا لسان القرآن العربى، وهم غرباء لا يعرفون هذا اللسان"؟ أما الجن فلهم وضع آخر، إذ لهم قدرات عجيبة غير متاحة للبشر. ومن التشابهات بين أسد والمترجم القاديانى أيضا تفسير الأخير لـ"الجن" فى السورة المسماة باسمهم بأنهم "العرافون والكهنة"[34]. ترى لو كان هذا التفسير صحيحا فما الذى حجز القرآن عن أن يسميهم بـ"الكهنة"، وقد استخدم كلمة "كاهن" فى أكثر من موضع منه؟

فهذا عن الجن والملائكة ونظرة محمد أسد إليهم. وعلى أساس من التأويل أيضا نراه يتناول الجَنّة والنار وما فيهما من نعيم وعذاب، فهو يؤكد أن أوصاف الجنة من أكل وشرب ولبس، وكذلك كلّ ما يتعلق باليوم الآخر فى القرآن، إنما هى تعبيرات رمزية لتقريب هذه الأمور، ولا يصح فهمها على ظاهرها بأية حال[35]: فـ"اتكاء أهل الجنة على فُرُشٍٍ بطائنها من إستبرق" كما جاء فى الآية 54 من سورة "الرحمن" معناه عنده الراحة التامة والسلام الشامل لا أكثر ولا أقل[36]، "والرحيق المختوم" المذكور فى الآية 25 من سورة "المطففين" مجرد إشارة رمزية لمشاعر البهجة الأخروية المركزة التى لا تخطر على قلب بشر[37]، و"ضحك الذين آمنوا فى الجَنّة من الكفار" فى نفس السورة هو مجرد معنى مجازى يشير إلى سعادتهم بحظهم الطيب لأن مثل ذلك الضحك مما لا يليق بالمؤمنين[38]، و"أنكال" سورة "المدثر" التى اعدها الله يوم القيامة لأهل الجحيم ليست سوى رمز على بقاء النفس فى العالم الآخر مقيدة بمتعها وشهواتها الجسدية، ومن ثَمَّ لا تستطيع بلوغ عالم الروح والصفاء[39]، و"ضَرِيع" سورة "الغاشية"، وهو فيها طعام أهل النار، إنما هو مشتق من "الضراعة"، وليس إلا تعبيرا مجازيا[40]...وهكذا.

ومن الواضح أنه ينظر إلى متع الجسد نظرة تقززية وأن الحياة الآخرة لديه إنما هى حياة روحية محضة. وهذه نظرة شائعة بين قطاع من المسلمين، ولا أعرف لماذا، ولا على أى أساس من آيات القرآن أو أحاديث النبى يقولون بذلك، ولا لأى سبب يحتقرون الجسد ويعلون من شأن الروح وحدها. إن كلا من الجسد والروح هو صنعة الله، فلماذا نحتقر ذلك ونفضل هذه عليه؟ ألأن الجسد يمرض ويشيخ ويتغضن ويفرز البصاق والعرق والعماص والبلغم والبول والبراز والقيح والصديد وتتغير رائحته مع مرور الوقت؟ سبحان الله! وهل الروح بمنأى عن العيوب والثلمات؟ ألا يشعر الإنسان بالملل والضيق واليأس والشح والحقد والغرور والضعة والأنانية والشك والسهو والنسيان والغباء واشتهاء المحرمات؟ أليست هذه ألوانا من النقص تعترى الروح البشرية، وغيرها كثير؟ إذن فلم تلك النظرة الدونية للجسد؟ ثم من قال إن أجساد أهل الجنة ستكون كأجسادنا هنا على الأرض؟ إن آيات القرآن وأقوال الرسول واضحة الدلالة على أنها ستكون خالية من كل ما يسبب لنا الألم والضيق والتقزز فى الدنيا، فما المشكلة إذن؟ ثم إن حواسنا الجسدية هى نوافذنا على العالم ووسيلتنا إلى الاتصال به، فلم الزعم بأن ذلك الوضع سيتغير فى الآخرة ويُلْغَى الجسد وتلك النوافذ التى تصلنا بالعالم إذا كان القرآن نفسه وحديث الرسول لا يقولان بهذا بل بعكسه؟ هل هناك ما يدل على أن الكلام عن الجنة والنار هو كلام مجازى؟ فأين هذا الدليل؟ الواقع أنه لا يصار إلى القول بالمجاز إلا إذا كان السياق يوجب هذا أو كان من المستحيل وقوع الأمر على ظاهره أو ترتَّب على الفهم الظاهرى للكلام تناقض لا يمكن إزالته...إلخ، ولا شىء من ذلك، والحمد لله، فى النصوص القرآنية والحديثية الخاصة بذلك الموضوع.

قد يقال: وكيف سنُبْعَث بأجسادنا هذه، وقد كان لكل واحد فى دنياه أجساد بعدد اللُّحَيْظات التى عاشها؟ فبأى جسد من هؤلاء سنُبْعَث؟ وقد أثير سؤال قريب من هذا فى إحدى محاضرات الفلسفة الإسلامية التى كان يعطيناها د. حسن حنفى فى أواخر الستينات من القرن الماضى بآداب القاهرة، وكانت إثارته على سبيل التحدى من جانب أحد الملحدين. وقال الأستاذ الدكتور إن جسد كل منا يعتريه التحلل بعد موته ويصير ترابا يتغذى عليه النبات الذى يأكله إنسان آخر يستحيل جسده بدوره بعد موته ترابا يأكله النبات...وهكذا دواليك، فكيف ستنماز أجساد البشر اللامتناهية يوم القيامة، وكلها فى الأصل راجعة إلى عدد محدودد نسبيا من الأجساد؟ لكنْ نَسِىَ أصحاب هذا الاعتراض أن كل شىء حاضر بجميع أوضاعه وتطوراته فى إدراك الله يبرزه لنا وقتما يشاء. لقد استطاع البشر تسجيل الأشياء والأشخاص بالصوت والصورة، أما الله فكل شىء عنده مخزون بكل أبعاده وعناصره وطبائعه وخصائصه لا مسجَّل فقط صوتا وصورة، ذلك أن علمه سبحانه مطلق بلا حدود، وهو جلَّ شأنه فوق الزمان والمكان، وكل شىء حاضر فى علمه حضورا أبديا مهما تناءى به الزمان والمكان. أما بعد الحساب فكل شىء سوف يتغير، وتجرى الأمور على أوضاع وقوانين جديدة، فأهل الجنة مثلا سيَغْدُون شبابا خالدين لا يعرفون الهَرَم أبدا كما جاءت بذلك نصوص القرآن والحديث. ثم ينبغى ألا ننسى أن كلا منا ليست له فقط روح واحدة، بل أرواح متتابعة بعدد اللحظات التى مرت به مثلما هو الحال فى الأجساد أيضا، إذ إن التغير لا يعترى الأجساد وحدها، بل الأرواح معها.

والواقع إن فى إنكار بعث الأجساد لَصَدًى من إنكار الكافرين بالبعث بوجه عام، فقد كانوا يستغربون أن يبعث الله البشر بعد أن تكون عظامهم قد بَلِيَتْ واختلط رفاتهم بالتراب، ويقولون مستهزئين: "أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون؟"، "أإذا ضللنا فى الأرض أإنا لفى خلق جديد؟"، "مَنْ يُحْيِى العظام وهى رميم؟". ولقد كان رد القرآن عليهم: "قل: يُحْيِيها (أى يحيى العظام الرميم) الذى أنشأها أول مرة"[41]، "أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه؟* بَلَى قادرين على أن نُسَوِّىَ بَنَانه"[42].

وإن آيات مثل "منها (أى من الأرض والتربة) خلقناكم، وفيها نعيدكم، ومنها نخرجكم تارة أخرى"[43]، "ونُفِخَ فى الصُّور، فإذا هم من الأجداث إلى ربهم يَنْسِلون"[44]، "وإذا القبور بُعْثِرَتْ* علمتْ نفسٌ ما قَدَّمَتْ وأَخَّرَتْ"[45]، "وقالوا (أى الكافرون): أإذا كنا عظامًا ورُفَاتًا أإنا لمبعوثون خَلْقًا جديدا؟* قل: كونوا حجارة أو حديدا* أو خَلْقًا مما يَكْبُر فى صدوركم. فسيقولون: من يُعِيدنا؟ قل: الذى فطركم أول مرة"[46]، "يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون"[47]، "ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاسْتَبََقُوا الصراط، فأنَّى يبصرون؟"[48]، "وتَرَى كلَّ أمة جاثية. كلُّ أمة تُدْعَى إلى كتابها: اليوم تُجْزَوْن ما كنتم تعملون"[49] لتبرهن على أن البعث سيكون بالأجساد أيضا. وبالمثل فإن آياتٍ مثل "من ورائه جهنم، ويُسْقَى من ماءٍ صديد * يتجرعه ولا يكاد يُسِيغه"[50]، "ولهم (أى للكافرين) مقامعُ من حديد"[51]، "كلما نضجتْ جلودهم بدَّلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب"[52]، "إنها (أى شجرة الزقوم) شجرة تخرج فى أصل الجحيم* طَلْعُها كأنه رؤوس الشياطين* فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون* ثم إن لهم عليها لَشَوْبًا من حميم"[53] لَتُثْبِت أن للأجساد فى عذاب النار نصيبا. كذلك فإن آياتٍ مثل: "فيها (أى فى الجنة) ما تشتهيه الأنفسُ وتَلَذُّ الأعينُ"[54]، "هم وأزواجهم فى ظلال، على الأرائك متكئون"[55]، "لهم جنّاتُ عَدْنٍ تجرى من تحتهم الأنهار يُحَلَّوْنَ فيها من أساورَ من ذهب ويلبسون ثيابًا خُضْرًا من سندسٍ وإستبرق"، "على سُرُرٍ موضونة* متكئين عليها متقابلين* يطوف عليهم وِلْدَانٌ مخلَّدون* بأكوابٍ وأباريقَ وكأس من مَعِين*...* وفاكهةٍ مما يتخيَّرون* ولحمِ طيٍر مما يشتهون* وحور عِين* كأمثال اللؤلؤ المكنون"[56] وغيرها من الآيات المماثلة لتدل على أن حظوظ الجسد ستكون مَرْعِيَّة ومتاحة فى نعيم الآخرة. ويؤكد ذلك أن القرآن الكريم يذكر إلى جانب هذا أيضا "السلام"[57] و"الرضوان الإلهى"[58] و"خلو القلوب من الغل"[59]...إلخ مما يدل على أنه سيكون هناك هذا وذاك ما دام القرآن قد ميز بين الأمرين، وإلا لَذَكَر هذه المتع الروحية الأخيرة فقط.

إن هذه النزعة المتقززة من لذائذ الجسد هى نزعة غريبة عن الإسلام، وينبغى وضع حد لها[60]. وإنى لأتوجه إلى ضمائر القراء الصادقين سائلا: أيُّكم يجد فى متع الطعام والشراب واللبس واللمس والنظر والشم والجنس ما يبعث فعلاً (لا ادعاءً) على الاشمئزاز؟ فما بالنا إذا صَفَتْ هذه اللذائذ من كل ما يعكرها وأصبحت متاحة لنا دائما دون أن يصحبها شعور بالملل أو الكظّة أو المَغْص، أو يحتاج الإنسان معها إلى جُشَاء أو تبوُّل أو تبرز؟ إن هذا غاية المنى، وهو الذى تَحْفَى أقدام البشر خلف أقل القليل منه هنا على الأرض دون بلوغه! أفإن أتاحه الله لنا ركب بعضَنا شيطانُ العناد السخيف وشَمَخَ بأنفه قائلا: هذه لذاتٌ وضيعة؟ ترى ماذا بالله فى أن يعود الواحد منا شابًّا شبابا دائما فلا يشكو نَصَبًا ولا أَيْنًا ويَلْقَى كل ما كان يشتهيه فى الدنيا بين يديه صافيا نقيا من كل شائبة وعلى أحسن وضع مما لا يمكننا تصوره تماما الآن بعقولنا المحصورة داخل تجارب الدنيا وظروفها؟ ورب الكعبة إن هذا لهو البطر بعينه!

إننى لا أكفِّر أحدا ممن يؤوّل نعيم الجنة مثلا ولا أفسِّقه ولا أضلِّله، ولكنى رغم ذلك أجد أن الرأى الذى أقول به أَوْجَه وأكثر إقناعا وأقرب إلى المنطق والنصوص. وقد ورد فى "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال" لابن رشد أن هذه من المسائل المختلف فيها. ورأى هذا الفيلسوف، رضى الله عنه، أن المخطئ من العلماء فى هذا الموضوع معذور، والمصيب مشكور مأجور، والمهم ألا ينكر أحد البعث، وإلا فالإنكار كُفْر لأن البعث أصل من أصول الشريعة[61]. وكان ابن حزم، رحمه الله رحمة واسعة، من القائلين ببعث الأجساد والنفوس معا[62]، ويسعدنى أن أكون فى صفوف الفريق الذى يضم هذا العالمَ العبقرىَّ الجليل.

ومع ذلك كله فإن أسد فى ترجمته لـ"صحيح البخارى" لم يحاول، فى الأحاديث التى ورد فيها ذكر شىء من نعيم الجنة أو الجن مثلا، تأويل هذا النعيم. لقد أدى مثلا الحديث الذى يقول فيه النبى عليه السلام: "بينما أنا نائم رأيتُنى فى الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر...إلخ" كما هو دون أدنى تغيير، كما أنه لم يعلق عليه فى الهامش بما يخرجه عن معناه الظاهرى[63]. ومثل ذلك ترجمته لكلمة "الجِنّ" بـ"Jinn" دون أن يستبدل بها شيئا آخر أو يجنح إلى تأويلها فى الهامش بما يخرجها عن معناها المعروف. بل إنه فى الحديث الذى وردت فيه إشارة إلى أن العظم والروث هما من طعام الجن لم يعلق ولو بكلمة واحدة تَصْرِف المعنى عن ظاهره[64]. ليس ذلك فقط، بل نراه فى موضعٍ آخرَ من هذا الكتاب يحمل على الاتجاه العصرى الذى ينكر وجود الجن وما أشبه استنادا إلى عدم إدراك الحواس لمثل هذه الأشياء، ثم يستشهد بكلام للفيلسوف برادلى يقرر فيه أن عجزنا عن إدراك شىء ما لا يصلح متكأً البتةَ لإنكار وجوده[65]. كذلك فهو لا يستبعد أن يكون نداء إبليس للرسول عليه السلام أثناء المعراج نداء حقيقيا جسديا[66].

إلا أنه للأسف يفسِّر العذاب الذى ذكرت بعضُ الأحاديث أن أبا طالب سوف يُعَذَّبه فى الآخرة، وهو غليان دماغه من ضحضاح النار الذى سيبلغ كعبيه، بأنه رمز على أن معاناته ستكون معاناة عقلية بسبب تأكده أن ابن أخيه نبى صادق وأن دينه هو الدين الصحيح، ثم عدم إيمانه به رغم ذلك[67]. ولا شك أن القول بالرمز هنا هو تأويل للعذاب الذى ورد فى الحديث النبوى الكريم، وأغلب الظن كذلك أن أسد ينظر إلى ألوان العقوبات التى شاهدها الرسول صلى الله عليه وسلم فى رحلة المعراج على أنها عقوبات غير جسدية، إذ اتخذها دليلا على أن هذا المعراج وكذلك الإسراء كان بالروح لا بالجسد[68].

الهوامش

[1] Muhammad Asad, The Road to Mecca, PP. 292- 295. وهذا الكلام يجده القارئ فى ص 308- 311 من الترجمة العربية لهذا الكتاب.

[2] Muhammad Asad, Sahih al-Bukhari- The Early Years of Islam, P. 241, n. 5.

[3] انظر الهامشين المذكورين فى ص 204، 205 من ترجمته للقرآن الكريم.

[4] انظر ص 5/ هـ 10، وص9/ هـ 26، وص 177/ هـ 34، وص 204/ هـ 10، وص 386/ هـ 31.

[5] انظر ص 206/ هـ 20، وص 375- 376/ هـ 31، 33، وص 384/ هـ 16 مثلا.

[6] انظر ص 733- 734/ هـ 24- 25، وص 752/ هـ 31.

[7] الكهف/ 50.

[8] الأعراف/ 7، وص 76.

[9] الحجر/ 27.

[10] النحل/ 50. ومثله قوله تعالى عنهم أيضا: "لا يسبقونه بالقول، وهم بأمره يعملون" (الأنبياء/ 27)، "لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون" (التحريم/ 6).

[11] البقرة/ 26.

[12] انظر ترجمة أسد للقرآن/ ص 9/ هـ 16.

[13] طه/ 2- 3.

[14] الشعراء/ 77.

[15] الزخرف/ 26- 27.

[16] الانشقاق/ 22- 25.

[17] انظر ص 44/ هـ 52.

[18] ص 666/ هـ 1.

[19] انظر ص 692/ هـ 67.

[20] وهذا الاعتقاد هو مرحلة أخرى من المراحل التى كان يتطور خلالها تصورى للملائكة والشياطين.

[21] الموضع السابق

[22] انظر ص 909/ هـ 16.

[23] غافر/ 49، والملك/ 8.

[24] التحريم/ 6.

[25] وهى الحواس السبع الخارجية، إلى جانب حاسة إدراك المكان وحاسة الجوع والعطش وغيرهما من الإحساسات الداخلية، وهو كلام لا رأس له ولا ذيل كما ترى.

[26] Malik Ghulam Farid, The Holy Qur'an, P. 1281, n. 3169.

[27] الأحقاف/ 29- 32.

[28] الجن/ 1 وما بعدها.

[29] انظر ص 775 فى ترجمة الآية 29 من سورة "الأحقاف"، وهـ 39 الخاص بالآية المذكورة.

[30] الحجر/ 18، والصافات/ 10، والجن/ 8- 9، والملك/ 5.

[31] ص 899 فى ترجمة الآية المذكورة، وهـ 3 فى التعليق عليها. والمراد بـ "القدرات السحرية الخفية" التنجيم والسحر وقراءة الطالع وادعاء معرفة الغيب...إلخ.

[32] Malik Ghulam Farid, The Holy Qur'an, P. 1080, n. 733..

[33] المرجع السابق/ ص 1267/ هـ 3137.

[34] السابق/ ص 1268/ هـ 3142.

[35] انظر مثلا ص 444/ هـ41، وص 686/ هـ 23، وص 972/ هـ 3.

[36] ص827/ هـ 26 .

[37] ص 938/ هـ 8.

[38] ص 939/ هـ 14.

[39] انظر ص 904/ هـ 7.

[40] ص 948/ هـ 2.

[41] يس/ 79.

[42] القيامة/ 3- 4.

[43] طه/ 55.

[44] يس/ 51.

[45] الانفطار/ 4- 5.

[46] الإسراء/ 49- 50.

[47] النور/ 24.

[48] يس/ 66.

[49] الجاثية/ 28.

[50] إبراهيم/ 15- 16.

[51] الحج/ 21.

[52] النساء/ 56.

[53] الصافات/ 64- 67.

[54] الزخرف/ 71.

[55] يس/ 56.

[56] الواقعة/ 15- 23.

[57] كما جاء فى الآية 25 من سورة "يونس"، والآية 46 من سورة الحجر، والآية 34 من سورة "ق".

[58] كما جاء فى الآية 15 من سورة "آل عمران"، والآية 72 من سورة "التوبة"، والآية 20 من سورة "الحديد".

[59] كما جاء فى الآية 43 من سورة "الأعراف"، والآية 47 من سورة "الحجر".

[60] يقول أسد نفسه إن النصرانية تنظر إلى عالم المادة على أنه شيطانى فى أساسه، بينما عالم الروح إلهى خير، أما الإسلام فلا يفرق بين مطالب الجسد ومطالب الروح (محمد أسد/ الإسلام على مفترق الطرق/ ترجمة د. عمر فروخ/ دار العلم للملايين/ 28، 30).

[61] انظر ابن رشد/ فَصْل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال/ تحقيق محمد عمارة/ ط 2/ دار المعارف/ 49- 50.

[62] انظر كتابه "الفِصَل فى الملل والأهوال والنِّحَل"/ 4/ 80- 81.

[63] ص 40. وانظر كذلك الحديث الذى يتحدث عن بيت القصب الذى سيكون لخديجة، رضى الله عنها، فى الجنة (ص129- 130).

[64] ص 163- 164. وهذا الاختلاف هو من الأمور التى تلفت النظر.

[65] ص 163/ هـ 3.

[66] ص 185.

[67] ص 184/ هـ 2.

[68] ص 185.