أزمة اللغة العربية (4)
أزمة اللغة العربية في المغرب بين اختلالات التعددية وتعثرات الترجمة: (4)
التجربتان اليابانية والاسبانية تدلان علي ان النهوض بالترجمة هو احياء للغة اللغة العربية رأسمال المغاربة.. ولا بد ان تتجدد في متنها وتتطور أدوات البحث فيها عبد القادر الفاسي الفهري
المعجم اللغوي العربي الحديث
تتطلب إقامة معاجم عربية جديدة تدوينا جديدا للمواد والنصوص والاستشهادات اللغوية، والتحيين المواكب لما يستجد من المفردات العامة والاصطلاحية، ومعانيها وسياقاتها، الخ. ويتطلب كذلك تجديد أساليب ترتيب المواد اللغوية النصية، بما في ذلك تطوير معاجم خطية (
linear)، لا تراعي سلسلة الحروف كما ترد في الكلمة النصية (textual word)، ولكن كذلك ترتيب المواد باحتساب ما يوجد من حركات، علي أساس أنها مواقع مقطعية مثل الصوامت. فكلمة مستهدف بفتح الدال، مثلا، لا ترتب في الهاء، بل في الميم، حتي يسهل علي المبتدئ البحث عنها، كما في معجم الرائد، ولكنها أيضا تختلف عن ترتيب مستهدف بكسر الدال. فالمعجم الخطي التام يمكن من ترتيب الحركات أيضا بإعطائها موقعا في الترتيب، مثل الترتيب الأبجدي التام المعتمد في اللغات الجرمانية والرومانية، كما في a,b,c,d,e الخ، حيث aو e مرتبة ضمن الحروف.لغة عربية حديثة ميسرة تقلص الفروق مع العاميات تحتاج اللغة العربية الفصحي إلي جهد جميع المختصين للعمل علي تيسير استعمالها في الحياة العامة، وتجنب التعقيدات، وتدليل الصعوبات، وتبسيط القواعد النحوية والصرفية، وتغذيتها بالصيغ وبالمصطلحات الجديدة في حدود لغة سليمة تكون لغة وسطي قابلة للاستعمال والانتشار. ويمكن البدء في هذا الإطار بوضع كتب قواعد ميسرة في النحو والصرف.دعم مخططات
الترجمة والتأليف والترجمة الآلية، والمعالجة الآلية للغات، والبحث اللساني المقارن من أجل جني فوائد التعدد اللغوي من جهة، والنهوض باللغـة العربية في هذا المحيط المتعدد. تطوير المحتوي العربي في شبكة إنترنت وتنشيط البحوث حول اللغة العربية يتطلب تحسين المحتوي العربي في الشبكات الرقمية واعتماد خطط واضحة لتنمية مجتمع المعلومات، بما في ذلك تفعيل التطبيقات الإلكترونية، وتعزيز القدرات في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، بتكوين بنية أساسية بشرية، وإتاحة وصول الأفراد إلي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتعزيز التوجه نحو المعلومات، وتسهيل استخدام اللغة العربية في الويب.
إن اللغة العربية حظيت بفرصة تاريخية نقلتها من لغة تواصل وأدب لأفراد قلائل بقبائل الجزيرة العربية إلي لغة علم وتواصل شاملة لملايين من العرب ومن المسلمين، وكونت حولها هوية قومية اختلفت أجناسها وأديانها، وتجاربها الاقتصادية، لم يوحدها شمولا إلا اللسان الذي انبعثت منه عناصر أخري للوحدة. وليس في المنظور القريب أو البعيد أي فرصة للغة أخري يمكن أن توحد هذا العدد من البشر. ولقد أتيحت للغة العربية أن تصبح لغة علم وتقانة (ممثلة لهوية علمية وثقافية) بمعجزة القرآن والإسلام، ولن تتاح للغة أخري هذه الفرصة كذلك.
إن للغة العربية الفصيحة مواطن قوة كامنة تجعلها أهلا لأن تكون لغة عصرية، بينية ودولية. إلا أن الواقعية تجعلنا نقر بأن لغتنا لا تلقي المساعدة ولا تستفيد من خطط تمكن من تفعيل هذه المواطن وتنشيطها، وتطوير ما يحتاج إلي تطوير، أو تقويم نقائص أو سد ثغرات، حتي نتمكن من رفع درجة عصريتها وتنشيطها. بل إن العداء الذي تذكيه جهات أجنبية أصبح يتلقي استجابة من جهات وأفراد داخل الوطن، تسهم في توسيعه وتبني ادعاءاته، عن وعي أو عن غير وعي، في غياب ردود فعل ناجعة، عصرية، وواقعية، من طرف المؤسسات الثقافية والسياسية، وفي جهل أو تجاهل للمعطيات التاريخية.
إن الانشغال بالاقتصاد والسياسة والقانون والأمن لا ينبغي أن يتناسي اللغة وأمنها، باعتبارها رافعة اقتصادية وتنموية، علاوة علي كونها وعاءً ثقافيا للخصوصيات الفاعلة. إن اللغة العربية مهددة في وجودها وبقائها أكثر من أي وقت مضي، وقد أراد لها خصومها أن تعاني من الإضعاف والموت البطيء، في وقت تعمل الجهات المعادية للعروبة والإسلام علي إضعاف العرب والمسلمين في جميع الواجهات، وعلي رأسها هزهم في هوياتهم وخصوصياتهم وإرادتهم العربية والإسلامية. إن الحاجة الملحة ليست إلي لغة عصرية وحسب، بل إلي تدبير عصري للتخطيط اللغوي. فاللغة قد تكون عصرية، علمية، عالمية، حية، فيقتلها التدبير الضعيف لشؤونها، وقد تكون ميتة جامدة، فيحييها من يحسن التخطيط للإحياء اللغوي.
6. المواطن المترجم ، التمايز، البينية،وحل عقدة عداء الهوية أسلفنا أن كفاية الترجمة (translation competence) تفرز القدرة علي معاينة الذوات اللغوية/الثقافية في تمايزاتها واتصالاتها أو مشتركاتها، وعلي بناء لغة/ ثقافة بينية، تتوسط التمايزات. فالمترجم يتقن لغتين متمايزتين بالأساس (وإن بمشتركاتها)، وهو ينتج لغة ثالثة تجسر بين المتمايزات. وميزته أنه لا يقف موقف الانطوائي، الذي لا يتكلم إلا لغة واحدة هي لغته، ولا موقف المهتجر الذي يهجر لغته لتسكنه لغة الآآخر، بل يتعلم لغة الآخر، إلي جانب لغته التي اكتسبها، ليعود بما فيها إلي لغة وسيطة تتصل بلغته الأولي.
ولعل من المفيد هنا استحضار بعض ملامح تجارب الترجمة الموفقة التي مرت بها الإنسانية، لتأكيد دورها كحل لإشكال التذبذب في المواقف تجاه التعدد اللغوي/الثقافي الداخلي أو الخارجي.
1. 6. التجربة العربية الإسلامية (والمغربية)
لم يبرز العلم العربي الإسلامي (المكتوب بالعربية) تاريخيا وبشكل متميز ومبدع (ابتداءا من القرن الثاني الهجري) إلا عندما شرع العلماء العرب والمسلمون، بدعم من السلطة، في نقل مختلف المعارف والعلوم المكتوبة باليونانية واللاتينية والفارسية والهندية والسريانية علي الخصوص إلي العربية، إضافة إلي تملك الموروث الثقافي الضخم لهذه الحضارات، وكذلك الثقافات القديمة من فينيقية وبابلية ومصرية قديمة، الخ. وتدَرّجَ هذا العلم من الترجمة والتقليد في الطب والفلك والزراعة والحساب، الخ، إلي الإنتاج المبدع. ولقد مثلت اللغة العربية وعاء تلاقح هذه المصادر المتعددة، وتعدد العلماء عرقا ودينا في إقامة العلم العربي (أي المكتوب بالعربية).
لقد عرف تاريخ العرب والمسلمين، مشارقة ومغاربة، مرحلة زاهرة برز فيها العلم العربي الإسلامي ابتداء من القرن الثاني علي الخصوص، فتملك العلم اليوناني والهندي والفارسي وغيره، وتأثر به، ثم نما وأبدع، بعد أن أصبحت اللغة العربية اللغة التي تكتب بها مختلف العلوم وتلقـــــن، ويترجـــــم إليها كل ما يحتاج إليه من الغير، وتنتج بها المعارف المطورة أو الجديدة، ويترجم منها إلي لغة الغير، الخ.
عاد العلم العربي الإسلامي كونيا، متعدد المصادر والمنابع والتطورات والامتدادات، ثمرة حركة ترجمة كثيفة، علمية وفلسفية، وتقاليد علمية متنوعة الأصول واللغات (بما فيها السريانية والسنسكريتية والعبرية)، وديانات مختلفة (إسلامية ومسيحية ويهودية، الخ)، حركة دعمتها السلطة، ودفعها البحث العلمي، وتولدت عنها مكتبة تتناسب وعالَم الحقبة، حركة غدت موحدة تحت قبة الحضارة الإسلامية الواسعة، لغتها العلمية هي العربية، تقرأ بها ترجمات الإنتاج العلمي الكلاسيكي والأبحاث الجديدة في ذات الآن، في سمرقند وغرناطة وبغداد ودمشق والقاهرة وفاس وغيرها. وكان المسلم الذي يكتب بلغة فارسية لغة/اما يقوم بنقل مؤلفه إلي العربية، التي لم تعد لغة لشعب واحد، بل أصبحت لغة عدد من الشعوب، ولا لغة لثقافة واحدة، بل لكل المعارف، فتحت معابر غير مسبوقة، وسهلت الاتصال بين المراكز العلمية المنتشرة بين الصين والأندلس، والتبادل بين العلماء.
وتكثفت التنقلات العلمية، والمكاتبات بين العلماء، لنشر العلم التعاون، وأصبح العلم اللاتيني يتوقف علي الترجمات من العربية إلي اللاتينية. كونية العلم العربي الإسلامي واكبها تعدد اللغات المنقول منها، وإتقانها، والترجمة إلي العربية بكثافة، وتعدد ديانات العلماء الذين كتبوا بالعربية، وتعدد مصادر المعارف، وتكامل المعارف من تنجيم وفلك ورياضيات وبصريات وجغرافيا وكيمياء، الخ.
لقد مورس الطب العربي ابتداء من منتصف القرن الثاني بطرق بالغة التنوع في مناطق شديدة الاختلاف، من شمال إفريقيا والأندلس والهند الغربية وآسيا الصغري وأراضي النيل، الخ، وتنوعت طرق الطبابة، ولو أن النظريات الموروثة من العالم الهلينستي بالخصوص، مثلت القاعدة للممارسة الطبية العلمية والتعليمية. الخدمات الطبية تنوعت حسب الأنظمة الغذائية، والصيام، ودفن الأموات عند الطوائف الدينية، والظروف المناخية، الخ. وامتزجت الأديان واللغات عند الأطباء كما عند المرضي، وامتزجت المصادر اليونانية بالفارسية والهندية والعربية، ونُطِق بالفارسية والسريانية والعبرية والتركية والأمازيغية، كما بالعربية، وإن كانت العربية قد تحولت إلي لغة ناقلة للعلوم، وأضحي الإسلام هو الدين الغالب.
وإذا كانت مدينة جنديسابور في الجنوب الغربي لفارس قد مثلت مركز تعليم ومركز استشفاء يضم مدرسة للطب أمنت ترجمة نصوص يونانية، وربما سنسكريتية إلي الفارسية والسريانية، وضمت أحسن الأطباء، فإن العصر العباسي الأول شهد تشجيع انتقال الأطباء منها إلي بغداد، التي أنشئت فيها بداية القرن الثالث مؤسسة بيت الحكمة . شيدت لها مكتبة خاصة، وحددت مهمتها في ترجمة النصوص العلمية، وأرسلت بعثة إلي القسطنطينية للحصول علي المؤلفات، وأصبح علي رأس المؤسسة نصراني، يوحنا بن ماسويه، ترجم كثيرا من المؤلفات، وشملت كتاباته موجزا في الطب. واشتهر تلميذ له نصراني أيضا هو حنين بن اسحق، الذي ترجم إلي العربية والسريانية جميع المقالات المعروفة في عصره في الطب، ونصف كتابات أرسطو، و95 من مؤلفات جالينوس إلي السريانية، و34 مؤلفا إلي العربية. وفي القرن الثالث، أنجزت المراجع الطبية الكاملة علي يد أبي بكر الرازي (الذي درس الفلسفة والكيمياء والموسيقي قبل الطب) مثل الجدري والحصبة والحاوي في الطب، وعلي يد ابن سينا فيما بعد أنجز القانون في الطب الذي ظل يدرس مرجعا في جامعات أوروبية إلي حدود القرن السادس عشر. واشتهر من أعضاء بيت الحكمة الخوارزمي الرياضي والفلكي الذي ظهر له كتاب الجبر والمقابلة، فكان مصدر الإلهام للرياضيين بالعربية والفارسية واللاتينية ولغات أوروبا حتي القرن 18. وتميز بين الفزيائيين الرازي والبيروني والخازن وابن سينا وابن رشد وابن ميمون وغيرهم، الذين طوروا أو انتقدوا عددا من أفكار أرسطو وبتوليمي، الخ. وتمثل تأثر الغرب بالعلم العربي في مئات الألفاظ في الفلك والطب والفزياء والجغرافيا والرياضيات التي اقترضتها اللغات الغربية، وكذلك في عدد من المؤلفات العربية الملتننة في تلك اللغات، والتي لم تحفظ الأيام منها الصيغة العربية أحيانا، وبقيت اللاتينية أو العبرية أو الإسبانية. ونهج العلم العربي في الأندلس نهجا مماثلا، تجلي في التقليد الفلكي والتنجيمي والزراعي والطبي اللاتيني، ثم وقع تعريب الثقافة الأندلسية في الطب والفلك والرياضيات ابتداء من القرن العاشر الميلادي، في الجوامع والبيوت الخاصة، قبل ظهور المدارس. ووصل العلم الأندلسي إلي مستواه الإنتاجي والإبداعي ابتداء من القرن 11، في الزراعة، والاسطرلابات الشاملة، وتطور العلوم الرياضية، وازدهار الكيمياء والتقنيات والميكانيكا، الخ.
وفي كل هذا كان العرب والمسلمون يتعلمون لغات الغير، ويترجمون عنها إلي لغتهم، ولم يكونوا يعلِّمون بلغة الغير، شأنهم في هذا شأن الدول الصغيرة والكبيرة التي تثمن لغتها. ففي فنلندا، أنشئت كلية الطب بالفنلندية لأغلبية كبيرة وأخري بالسويدية لأقلية صغيرة. وأرسلت اليابان البعثات إلي أوروبا وأمريكا، كما فعل ّذلك محمد علي قبلها، لتعود إلي بلدها وتعلم باليابانية ما تعلمته بالإنكليزية أو غيرها. تملكت علم غيرها بلغته، وثمنت لغتها بالتعليم بها. وها هي دول إفريقية مثل السنغال والنيجر وبركينافاسو رسمت الفرنسية وأرادت تملك العلم بها، ولكن اللغة تملكتها، ولم تــتملك العلم والتقدم.
2. 6. التجربة اليابانية
حدّد قرب اليابان من آسيا وابتعادها عن الغرب، إلي جانب الظروف التاريخية، الممارسة والمواقف من الترجمة. وكانت الحاجة أولا إلي المعلومات، قبل الاهتمام بالحضارة الغربية في ذاتها، وإن نتج عن هذا إدخال أفكار جديدة، وصيغ أدبية غير معهودة، وعبارات وتراكيب نحوية غير تقليدية. كل ذلك كان له تأثير بالغ في بعث ثقافة ولغة جديدتين متفاعلتين.
كان الاتصال بين الصين واليابان قائما، حتي قبل القرن الأول الميلادي. وفي القرن الثالث، أدخل الخطاطون الكوريون الكتابة الصينية لليابان، التي لم تكن لها كتابة. وبعد ثلاثة قرون أصبحت النخبة تستعملها. وقد استعملت الحروف الصينية أحيانا لكتابة الكلمات اليابانية صوتيا، وأحيانا أخري لاقتراض المعاني. و أثرت الصين علي الحياة الثقافية والدينية والفكرية خلال ثلاثة عشر قرنا، بدءا من تاريخ تبني نظامها الخطي إلي حدود فتح اليابان الغرب سنة 1854، عبر العلماء والرهبان والطلبة الذين ولًّدوا تبادل أفكار أدت إلي تغيرات كثيرة في المؤسسات اليابانية والمجتمع. وقد ابتدع اليابانيون نظام مواضعات kundoku kambun، مكنهم من قراءة النصـــوص الصينية دون ترجمتها. وهكذا كان هـــناك وسيلتان للقراءة والكتابة في اليابان: الصينـــية، التي كانت تستعمل في الأعمال العلمية، واليابانية في الأدب أساسا. وكانت هناك صينية مُيَبنة ويابانية مُصَينة . وبدءا من القرن السادس عشر، بدأت حركة ترجمة هامة من الصينية ضمت أساسا كتبا أدبية.
وفي حركة ثانية، في القرن السادس عشر، أدي وصول البرتغاليين بغية نشر المسيحية إلي ترجمة أعمال مسيحية، مما أدي إلي مشكل في إيجاد مقابلات لكلمات مثل الإله و الملاك و جهنم ، الخ، وحدث خلط في المعاني. وقد انتبه أحد الحكام إلي التمسيح الذي يخل بالاستقرار ، فأوقف قدوم التجار والمبشرين. وقد دخل الهولنديون اليابان ابتداء من القرن السابع عشر وكونوا قاعدة للمترجمين التي انكبت علي ترجمة وثائق في التبادل التجاري والنصوص الطبية. ثم ترجمت بعد ذلك كتبا في الفلك والتنجيم، ونظرية كوبرنيك، وأدخلت المعرفة الغربية ثقافتها، كما ألفت كتبا تعني بمشاكل الترجمة. واتجه العمل إلي ترجمة المعاجم والموسوعات. وتوسعت الترجمات من الصينية والهولندية ابتداء من القرن التاسع عشر. واتجه الاهتمام إلي تعلم اللغات، ضمنها الإنكليزية والروسية والفرنسية. وفي سنة 1854، تم توقيع اتفاق تجاري ودبلوماسي مع الولايات المتحدة.
وبدءا بعهد الميجي (1868 ـ 1912)، الذي شهد إنهاء نفوذ الحكام، استرجاع سلطة الإمبراطور، تم فتح البلاد في وجه الحداثة. وأقبل كثير من اليابانيين علي تعلم اللغات، واستيراد كثير من المؤلفات الإنكليزية والفرنسية والروسية والألمانية بهدف التعلم من الغرب، وتمت عدد من الترجمات التعليمية، وترجمة مداخل الفكر والمؤسسات الغربية، وبرزت الحاجة إلي مفردات كثيرة تعبر عن المفاهيم الغربية، وتيسر اللغة، وتنير الكُتاب بقيم حديثة، وعلائق اجتماعية جديدة. وقد شهدت هذه الفترة أيضا ترجمة العديد من المؤلفات السياسية، مما أوحي لعدد من الكتاب اليابانيين أن ينتجوا مؤلفاتهم السياسية الأولي. وقد مثل عهد الميجي فترة ذهبية كذلك بالنسبة لترجمة الأعمال الأدبية، مثل Jules erne وRobinson Crusoe وغيرهما، وكذلك الأعمال الشعرية التي مهدت لقيام شعر ياباني عصري. وواكب هذا العمل ترجمة كتب عن الترجمة والتأليف عنها. وقد ظهر اهتمام بالأدب الغربي لذاته، ولمعرفة مشاعر الأوروبيين، ومن ذلك الاهتمام بأعمال شكسبير. وفي كل هذا، أصبح الأدب الياباني متأثرا بالأدب الغربي. وقد ترجم الإنجيل في صيغ متعددة، وترجمت أعمال مسيحية أخري. ونقلت أعمال نقدية مثل الحركة الرمزية في الأدب في 1913، وأنطلوجيات أدبية، الخ. وهكذا نقلت جل الأعمال الأدبية إلي اليابانية قبل 1920. وظهرت بعد ذلك تيارات في الترجمة اتجهت إلي أعمال ماركس ولينين وإنجلز، مما أثر في الحركة الأدبية البروليتارية، وظهر تيار سريالي، وتيار يترجم الآداب الأمريكية. إلا أن فترة الحرب العالمية الثانية شهدت ترجمة سيرة موسوليني وMein Kampf لهتلر، الخ. واستمرت ترجمة الشعر الصيني. وبزغ مع نهاية الحرب عهد ذهبي جديد للترجمة لم يسبقه في حجمه إلا عهد الميجي. وتم منع عدد من الكتب التي تنتقد الولايات المتحدة، أو تثني علي المقاومة الصينية ضد اليابانيين.
وغلب الأدب الأمريكي علي الأدب الأوروبي في الترجمة. وبدأت العناية بالأدب الشفوي، وانتقلت الترجمة إلي نظريات التسيير الأمريكية واقتصادها الريادي. وتضم حتي الآن أحسن مبيعات الكتب كتبٌ مترجمة عن الإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية.
وواكب حركات الترجمة إنتاجٌ في الدراسات الترجمية نظرية وتطبيقا، وتنظيم للمهنة عبر عدد من الاتحادات للمترجمين التي يعد أعضاؤها بالألوف.
ففي الدرس الياباني مثال ناصع وكلاسيكي لنجاح الترجمة في تحويل ثقافة مة ومصيرها عبر مراحل متباينة، وعبر التثاقف الذي يحافظ علي الهوية ويطورها، دون أن يرحل إلي لغة الغير.
3.6. التجربة الإسبانية في إسبانيا
تنوع ثقافي ولغوي بين الكستيان والباسك والكتلان والكلسيان علي الخصوص، إلي جانب الأركون، والليون، والأستورياس. هذه اللغات ذات الأصل الروماني (Romance) خاصة، كانت مستعملة إلي جانب العربية والعبرية واللاتينية في إسبانيا القرون الوسطي. وأدي هذا التنوع إلي النهوض بالترجمة وإلي قمعها في نفس الوقت. فقد تمت الترجمة إلي لغات كثيرة في البداية، ثم حصل تفضيل الكاستيان ابتداء من أواخر القرن الخامس عشر. وبدأ قمع التنوع اللغوي امتد إلي موت فرنكو سنة 1975، وأدي إلي فرض الكاستيان كلغة رسمية وطنية للأسبان. وعاد التنوع بعد ذلك إلي إسبانيا.
امتد الحكم الإسلامي من 711 إلي القرن الثالث عشر الميلادي، وسقطت غرناطة في يد المسيحيين سنة 1492. وقد كانت هذه الفترة مرحلة للتعايش والتأثير المتبادل والمثاقفة عبر العربية واللغات الرومانية. وقد توفرت في الأندلس أرقي معرفة في ذلك الوقت، بفضل الترجمات من الإغريقية (في القرن التاسع)، شارك فيها مترجمون يهود ومسيحيون بالأساس. وقد بدأت الترجمات من العربية إلي اللاتينية (ابتداء من القرن الثاني عشر)، بدءا بالتنجيم والفلك والرياضيات، ومرورا بالقرآن والتفاسير، فالفلسفة، بما في ذلك أرسطو وابن رشد. واشتهر من المترجمين المكونون في مدرسة طليطلة. وقد شاب هذه الترجمات تحريفات ومحاولة تمسيح بعض النصوص.
وابتداء من 1250، ترجمت عدد من النصوص العلمية من العربية إلي القشتالية كلبنة لبناء أمة حول قشتالة. ثم وقعت بعد ذلك ترجمات إلي اللغات المنافسة، خاصة منها الكاتلان، ولكن أيضا الكاليسية والأركونية. وتمت هذه الترجمات بدعم من الأمراء أولا، فالنبلاء. وابتداء من 1492، شهدت إسبانيا توحدا حول قشتالة الكاتوليكية، وتم طرد الأقليات المناوئة من اليهود والبروتستنت، واليسوعيين، ومناصري نابليون، والديمقراطيين والجمهوريين. وشهدت سنة 1492 تأليف أول نحو للدارجة القشتالية، الذي كتب مؤلفه Antonio de ebrija للملكة Isabel أن اللغة تصاحب الإمبراطورية . وقد تحولت إسبانيا في القرنين السادس والسابع عشر إلي أكبر قوة سياسية في أوروبا، وفرضت القشتالية علي مستعمراتها، وتفوقت هذه اللغة علي الإنكليزية والفرنسية. وانضاف هذا التفوق إلي انتشار الإيطالية لسحق التنوع اللغوي. وتحول فعل الترجمة traducir إلي فعل إديولوجي إمبريالي. وفي القرن السابع عشر، امتد العصر الذهبي للأدب الإسباني، وتمت الترجمات من اللاتينية والإيطالية والفرنسية. إلا أن النقاء القشتالي أصبحت تهدده الفرنسية، بمثلها الثورية، أواسط القرن الثامن عشر وما بعدها، واقترنت ترجمة Voltaire، وMoliٹre، وDiderot، وRoueau، الخ بتدهور نفوذ إسبانيا، وتوالت الترجمات من الفرنسية بعد ذلك.
وتشير جل الأبحاث أن إسبانيا من بين ثلاثة أو أربعة البلدان التي تترجم أكثر من غيرها، من الإنكليزية والفرنسية خاصة، متجاوزة المعدل العام لدول أوروبا الغربية (25 %). فتجربة إسبانيا لا تمثــــل فقط نموذجــــا للتفاعل الثقافي والعلمي عبر الترجمة في الفترة الإسلامية وما بعد الإسلامية، بل تمـــــثل نموذجا للتخطيط اللغوي عبر الترجمة.
4. 6. الترجمة،
الاختيارات اللغوية،وشروط العناية برزت في المغرب وفي العالم العربي مواقف معادية أو مهمشة لدور الترجمة، تترجم في حذف عدد من شعب الترجمة أو التخصص فيها، أو تدريسها كمادة، أو التركيز علي رداءة الترجمات، وخلخلتها لنظام اللغة وتعابيرها ومعانيها، أو كونها لا تفي بالمضامين الأصلية، ولا يمكن الاستعاضة عن قراءة النص الأصلي بها، إن توخينا الدقة في المعني والتكوين المختص. هذا إضافة إلي كون التأليف في موضوع جديد وارد من الغرب غالبا ما يكون أيسر للفهم علي القارئ من النص المترجم.
وينضاف إلي هذا صعوبة وضعف المصطلح المترجم، وعدم توحيده، الخ. وهناك صعوبة أكبر في النهوض بالترجمة/التعريب في وقت أصبحت فيه نخبة النفوذ السياسي ونخبة ثقافية تابعة لها تفضل القراءة بلغة الغير، وتكون أبناءها بلغة الغير وحدها، الخ، مما يجعل السياسة اللغوية، وخاصة منها التعليمية، ذات تأثير مباشر علي المواقف من الترجمة. وتنضاف إلي هذه الصعوبات أن المترجمين (ترجمة بشرية أو إلكترونية) لا يقدرون، قدر غيرهم من المترجمين المحترفين في البلدان الراقية، علي رفع تحديات الترجمة. ولعل هذه العوامل مجتمعة هي التي تجعل الترجمة في بلداننا تتسم بالشح والركود والفوضي، وتجعل حصة المترجمات 4 سنويا لكل مليون شخص، مقابل 519 في المجر، أو 920 في إسبانيا، ناهيك عن الجودة المطلوبة.إن هذه الصعوبات قائمة دون شك، وهي دائرية. فلا يمكن أن نتصور عناية بالترجمة وتأهيلها، دون عناية وتأهيل للغة العربية، بل ورفع العداء عنها، ونبذ المخططات التي تهدف إلي إحلال لغات أجنبية محلها، بل وعاميات، في إطار ثقافة التنوع وحقوق المجموعات اللغوية، الخ. وليس من شك في أن التأليف باللغة العربية تأليفا/مترجما ، بمعني أنه ينقل معارف باللغة العربية بمراعاة مضامين ومجازات وثقافة اللغة المنقول منها، قد يؤدي خدمة للغة العربية لا تقل عن خدمة الترجمة.
ولا شك أن تملك اللغات الأجنبية القوية حتمية ثقافية أيضا. إلا أن هذه الوسائل لا تشكك في كون الترجمة وسيلة ضرورية لتعميم المعلومات ونشر ثقافة الآخر في صفوف عموم القوي المنتجة وعموم أفراد المجتمع الذي يتوخي الإشراك والتنمية والديمقراطية. والبلدان الأكثر تقدما هي البلدان التي تترجم أكثر. نذكر منها اليابان وإسبانيا وفرنسا والولايات المتحدة وألمانيا وإسرائيل. وليس تعلم اللغات الأجنبية، وهو ضروري، بديلا للترجمة. فالإنسان لا يتعلم إلا عددا محدودا من اللغات، التي يراوح عددها 6000 لغة، والفعل فردي، ولكن الترجمة منتوج للجماعة. وقد دلت تجارب متعددة علي أن النهوض بالترجمة هو أيضا نهوض باللغة، إلي جانب النهوض بالمعرفة والثقافة، وإتاحة الفرص للإبداع باللغة المستهدفة.
فما أحوجنا إلي مشروع ثقافي شامل يرفد من القيم العربية/الإسلامية والمغربية ومن القيم الكونية، ويتجنب أن تصبح ثقافتنا ثقافة مبتعدة عن ثقافة العصر، أو معرفة العصر وتقنياته. وبذلك نبتعد بأنفسنا عن الشر الذي أراد آخرٌ أن يسمنا به، ونحن متعددون، وإن شاركت بعض ذواتنا في نشره فينا. ونحن، كغيرنا، قد اجتمع فينا الأنا و الآخر ، لأن الثقافة أصلها الانفتاح والتعدد.
7. خاتمة
إن اللغة العربية في المغرب رأسمال للمغاربة لا تأهيل لهم بدون تأهيلها والنهوض بها، والنهوض بكافة ألسن الهوية، إضافة إلي تملك اللغات والثقافات الكونية. إن اللغة العربية لا بد أن تتجدد في متنها وتتطور أدوات البحث فيها وأدوات تعليمها، ويتجدد تكوين مدرسيها، وتنهض بنهوض المكونات الأساسية في أي خطة لغوية. فلا تقدم بدون تثمن الذات، والتعارف والحوار مع الآخر، وتقوية التثقف والترجمة. ولا بد من مأسسة لغوية في مستوي التحديات، تتيح المجال لإنتاج الأعمال المختصة اللائقة، وتضافر جهود العلماء المغاربة البارزين وأقرانهم في بلدان أخري، شرقيين وغربيين. إن الأعمال الفردية المشتتة وأعمال مؤسسات لغوية صغيرة، وإن تميزت، وأعمال غير مقارنة وغير معَيرة دوليا، لا تكفي لبلوغ الهدف المنشود، لكون التحديات المطروحة تتطلب طول النفس الجماعي، وتكامل المعارف والتقنيات، ووسائل التشبيك والاتصال، ومواكبة أحدث الدراسات والأبحاث والمنتوجات، والقدرة المتواصلة علي التجديد، والعمل الدؤوب كما وكيفا، والقدرة علي المقارنة والتحليل المتجددين. وهذا برنامج لا يقوي عليه خبراء غير مجتمعين وغير مواكبين، أو مؤسسة صغيرة. إن أكاديمية محمد الســــــادس للغة العربية بهياكلها وبرامجها تمثل المخرج الموفق لبداية حل أزمة اللغة التي يعاني منها المغاربة، ولا تقدم بدون تجاوزها.
انتهت