المتسلِّقون
-1
د. عبد الله السوري
لا أقصد تسلق الجبال، فهو رياضة محمودة، تنمي البدن والإرادة والصبر، وإنما أقصد تسلق البشـر لإخوانهم البشر، وتسلق شخص ما لأسرة أو جماعة أو قبيلة أو حزب معين فيصعدون على أكتاف البشر، ويبنون من جماجمهم قصوراً لأنفسهم ولأولادهم من بعدهم ...
تخرجت من دار المعلمين أواخرعام (1965)، وبعد عامين في محافظة الحسكة، وصلت إلى قريتي لأعمل فيها سنة واحدة مازالت يتيمة حتى الآن، كانت قريتي عبئاً على مديرية التربية، لأن طريقها غير مسفلت، بل يكون في الشتاء طيناً لايتجاوزه إلا الدواب والمشاة، لذلك كانت مديرية التربية تشقى في تأمين معلمين لها، ولما وصل اسمي منقولاً من محافظة الحسكة، وطلبت قريتي؛ فرح الإداريون في التربية لأنني كفيتهم عناء البحث عمن يقبل بهذه القرية، وكان افتتاح المدرسة الابتدائية في قريتي في العام الذي تخرجت فيه من دار المعلمين، وذهبت فيه للخدمة في محافظة الحسكة حسب النظام السائد يومذاك ...
وعين معي زميــلي (ر) يرحمـه الله، الذي تخرج معي من دار المعلمين، وقد عشنا معاً فيها بضع سنوات، وكان ( ناصرياً ) بل من كبار الناصريين، لاقى عنتاً ومشقة من الأمن والبعثيين والحرس الوطني عندما كان في دار المعلمين، وكان شرساُ في صراعه معهم، ولأنني ابن القرية كلفت بإدارة المدرسة ... وبالغت في إكرام زميلي والاهتمام به والعناية بطعامه ونومه، ولم يبخل علي أن صارحني فقال لي :
ــ لقد تزوجت وعما قريب يأتي المولود وبدأت أشعر بالمسؤولية، لذلك لم أعد كما كنت تعرفني في دار المعلمين، أريد أن أعيش وصرت بعثياً ...
كان مختار القرية قد شكل حلقة بعثية على الورق، يوهم بها شعبة ريف الحزب أن قريتنا فيها حلقة حزبية وهو ( المختار يرحمه الله ) مسؤول تلك الحلقة ...
ولكن زميلي ( يرحمه الله ) أراد أن يفتح مكتباً يرفرف عليه علم الحزب، وحاول أن يكون ذلك في مبنى المدرسة ( النموذجي ) حيث فيه غرفة شاغرة ... وكان البعثيون ضعفاء، فراجعت المفتش المسؤول عن قريتنا، وهو الذي كلفني بالإدارة، أشيب الشعر على أبواب التقاعد، مناهض للبعثيين يومذاك ... فقال لي : خذ أمراً مني وأنا مسؤول عنه لايجوز أن يفتتح مكتب للحزب في المدرسة، وبلغ زميلك نيابة عني، وصارحت زميلي وأكدت عليه ذلك، فكف عما أراد ...
وأبلغ زميلي شــعبة حزب البعث سراً يقول : لايمكن افتتاح مكتب للحزب في هذه القرية مادام الأستاذ ( عبد الله ) فيها ...
انتهى العام الدراسي، وحصلت المدرسة على جائزة بسبب نجاح طلاب الصف السادس كلهم، بدرجات ممتازة وجيدة جداً، وسـر المفتش ( الأشيب ) المسؤول عن المدرسة، الذي زارني مرة واحدة في العام الدراسي؛جلس يوماً كاملاً امتحن جميع التلاميذ كتابياً بالحساب والإملاء ... ومتوسط الدرجة التي حصلوا عليها وضعها درجة كفاية لي، هكذا كان هؤلاء يرحمهم الله، وكنا نسميهم ( عصمليين ) رحم الله العثمانيين وزمانهم ....
وجاء العام التالي وإذا بي منقول إلى قرية للنصارى في منطقة مقطوعة عن المواصلات، علماً أنني لم أطلب نقلاً لأنني أعمل في قريتي، والشاهد فيها أن مكتب الحزب يشاطر إدارة المدرسة في غرفة واحدة ...
لم أغضب في البداية لأنني تصورت أن النصارى متحضرون، ولما وصلت القرية آلمني أن الدراجة العادية لم تصل معي، لذلك تركتها قبل القرية ببضع كيلات، كما أنني وجدت تخلفاً وفقراً ومرضاً وجهلاً يكفي منطقة كاملة، وأهم من ذلك كله وجدت مكتب الحزب يشاطر إدارة المدرسة غرفة واحدة ...لذلك ــ وكنا يومها لانخاف ــ، قلت لهم : اذهبوا إلى مدير التربية وقولوا له : الأستاذ عبد الله رأى القرية ولم تعجبه وقال لنا لن يأتي ولن يداوم فيها ...وقدمت شكوى إلى نقيب المعلمين، البعثي لكنه سقط من الغربال ــ كما يكرر ذلك البعثيون يومذاكــ، وصار ضدهم، فدخل معي عند مدير التربية يدافع عن حقي في قريتي، وقد نالت المدرسة جائزة لتفوقها في ذلك العام، عندئذ قال المدير : يا أستاذ عبد الله اطلب أي قرية غير قريتك، فأنا لا أستطيع مخالفة أمر شــعبة الحـزب التي نقلتك من قـريتك، وفعلاً طـلبت قـريــة قريبـة جداً على المدينة ( 5 كلم فقط )، كانوا يرضون بها ابن المدينة الذي تعذر إدخاله في مدارس المدينة، وطلبتها كنوع من التعجيز، ولكن المدير وافق فوراً واحسست أنه كان متألماً يشعر بالظلم الذي وقع علي. ولدى خروجنا من مكتب مدير التربية قابلت المفتش الأشيب فهمس في أذني متألماً : ( زميلك كتب عنك تقريرًا يقول لايمكن افتتاح مكتب للحزب وعبد الله موجود في القرية ) ...
وهكذا كما ترون تسلق زميلي غفر الله له، وسامحه، تسلق على أكتافي وألحق بي ضرراً كي يسجل له أنه مهتم ومناضل من أجل حزب البعث ....
وفي الأسبوع الأول من اكتوبر (1980) كنت أستعد لمغادرة سوريا، قابلته في الشارع، فأمسك بي وألح علي أن أسامحه وعيناه ملأى بالدموع، ويومها سامحته بلساني فقط، وبعد مدة بلغني خبر وفـاته فســامحته من قلبي كله وأدعو الله أن يغفر له ...
كما أدعو الله أن يهدي المتسلقين،فيكفوا عن إيذاء الناس، وخاصة أنهم يؤذون زملاءهم، وأنصحهم أن يخلصوا عملهم لله، ويتحرروا من عبادة أهوائهم، وطغيان شهواتهم، ولا يلحقوا ضرراً بإنسان من أجل دنيا فانية ...
والحمد لله رب العالمين