الحداثة والميلاد الميت

الحداثة والميلاد الميت

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

(1)

   لبيت دعوة الأخ الدكتور الأديب الشاعر عبد الولي الشميري للاشتراك في ندوة الملتقى الثقافي الذي عقده على ظهر الباخرة "السرايا" الراقدة على صفحة النيل بالجزيرة، وكان موضوع الندوة ـ أو المناظرة ـ "الأصالة والحداثة" وأمام جمهور كبير من المثقفين وأساتذة الجامعة، والشعراء، والأدباء، ورجال الصحافة، وكذلك من المتشاعرين والمتأدبين، وعلى مدى ثلاث ساعات ساخنة اشتد بيننا النقاش والجدل، وكنت واحدًا من ثلاثة يناصرون الأصالة في مواجهة ثلاثة يناصرون الحداثة، ويمثلونها بل يعيشونها، وأنا في  هذا المقال لا أعرض وصفًا وتحليلاً لهذا الملتقى، فهي مهمة الإخوة الصحفيين، ولكني أعرض ـ بإيجاز شديد ـ رؤيتي التي طرحتها في هذا الملتقى، واعتمدت في عرض رؤيتي على الارتجال ـ غير المكتوب ـ انطلاقًا مما ألقاه المشاركون الآخرون، وتعليقًا عليه، موافقة وتأكيدًا، أو رفضًا ونقضًا، أو إنشاء وإبداعًا، وما أقدمه في هذا المقال لا يعتبر تكرارًا لما طرحته في المناظرة؛ لأنه لا يمثل نقلاً حرفيًا، ولكن خطوطًا عريضة لما قيل؛ ولأن عدد الذين حضروا اللقاء، وإن أربوا على خمسمائة، لا يمثلون أكثر من واحد بالمائة ممن يقرءون ما كتبته في الصحف عن الحداثة، أي أن الغالبية العظمى تتلقاه لأول مرة.

  الحداثة المقبولة

   إننا نرتكب خطأ فادحًا لو رفضنا الحداثة بإطلاق، وكذلك لو قبلنا الحداثة بإطلاق، والصحيح أن نقبل الحداثة إذا قصد بها: التجديد المتزن الذي يعتمد على ركيزتين:

الأولى: مراعاة معطيات التراث، ورصيدنا الديني والقيمي عقيدة، وفكرًا، وتاريخًا.

والثانية: الاستعانة بالأساليب الجديدة، والآليات الفنية والأدبية الحديثة التي تُـكسب الإبداع مزيدًا من القدرة والثبات والتأثير والانتشار.

   فهي إذن عملية "توفيق" عاقلة، تتفادى التحجر والجمود من ناحية، وتتفادى الطيش والاندفاع والإسراف والتطرف من ناحية أخرى، والحداثة بهذا المفهوم تعني "التجديد العاقل المنتج الذي يسعى إليه من يملك ـ بحق ـ آليات الإبداع، ومتطلبات الفن الصحيح السديد".

  الحداثة المرفوضة..

   أما الحداثة المرفوضة فهي تلك القائمة المقيمة على الساحة المصرية والعربية، ويتولى كِبْرها ـ بالنصيب الأكبر ـ من يطلق عليهم شعراء السبعينيات، ونحن نستخلص أبعاد هذه الحداثة وسماتها من مصدرين أساسيين:

الأول: أدبيات هؤلاء الحداثيين وإبداعاتهم، وخصوصًا الشعر.

والثاني: التنظيرات والتقييمات التي قدمها، ويقدمها الكتاب والنقاد الحداثيون، والذين يقفون في صف الحداثة، ويباركونها في دراسات ومقالات وكتب لعل أهمها وأضخمها كتاب: إدوارد الخراط "شعر الحداثة في مصر" ويقع في قرابة سبعمائة صفحة، وأصدرته الهيئة العامة لقصور الثقافة في ديسمبر 1999م.

   ويدخل في هذا النطاق ـ كذلك ـ ما يبوح به الشعراء الحداثيون في ندوات، ولقاءات، ومقالات يشرحون فيها وجهتهم، وأبعاد مذهبهم، ومنهجهم الفني. ولعل الغموض الشديد الكثيف الذي يستعصي على أي عقل أهم سمات "القصيدة الحداثية" وأفدح عيوبها، وأذكر ـ بهذه المناسبة ـ أن أحد "الشعراء الحداثيين" قرأ عليّ  القصيدة التي يعتز بها، فلما أبديت له عجزي عن فهمها، ظهرت على وجهه أمارات السعادة، وقال: شهادتك هذه تدل على أنني  ـ وُفقت إلى أقصى حد ـ في نظم هذه القصيدة؛ لأن الهدف ليس "الإفهام" ولكن الغاية التي نجحتُ في تحقيقها هي أن قصيدتي "خلعتك" من جو "الصحو المكشوف" إلى جو "العبير الغامض" (!!).

   كما أذكر أنني وزعت على طلاب السنة النهائية بالجامعة قصيدة "مشهورة" لحداثي، وطلبت منهم أن يكتبوا مضمونها في إيجاز شديد، أو ـ على الأقل ـ الفكرة الرئيسية فيها, فعجزوا جميعًا.

   ويذكر من حضروا الملتقى الأخير "بالسرايا" أنني عرضت عدة أسطر من قصيدة حداثية على "شاعر حداثي" مشهور، وطلبت أن يكتب لي فكرتها الرئيسية في سطرين أو أكثر، فأتاني ـ بعد انتهاء اللقاء ـ مبديًا أسفه وعجزه عن فهم المكتوب.

وكل أولئك كان ردًا عمليًا عما ينقض اتهام زملينا "الناقد الحداثي الجامعي الكبير" لنا بأن "انغلاق" القصيدة الحداثية لا يرجع إلى غموضها، ولكن يرجع إلى "عجزنا" عن الفهم، أو لقراءتنا لها "قراءة رديئة".

  الغموض الخلاق ؟؟!!!  

   ولكن الأستاذ إدوارد الخراط ـ ومعه حداثيون آخرون ـ يعترفون بهذا الغموض، غير أنهم يصفونه "بالغموض الخلاق" فالشاعر الحداثي ـ على حد قولهم ـ "يحاول أن يحقق صورة عن العالم مكتنزة الدلالة، وممتلئة بمعان لا تستنفدها الأزمان، وهو حين يدخل عتامة الغموض والتركيب، فإنما يفعل ذلك وعيًا بضرورة أن تكون قصيدته علامة تدل على العالم وتفعل فيه".

ومعذرة ـ أيها القارئ ـ هل فهمت شيئًا؟ أنا شخصيًا لم أفهم شيئًا!! إنه التمادي في التمادي، والغموض المركب بالغموض، فكيف يكون هذا الغموض، "خلاقًا" يا عالم؟!!

  غموض.. غموض.. غموض

   فالغموض الكثيف المعتم ليس في القصيدة الحداثية فحسب، ولكنه ـ أيضًا ـ يثقل مقولاتهم التنظيرية والنقدية، ومن هذه المقولات، وما أكثرها!!

ـ اللغة ليست إخبارية، ولكنها تكاد تكون مكتفية بذاتها.

ـ القصيدة لا تصور الواقع، ولكنها هي الواقع نفسه.

ـ المتلقى مشارك مبدع، مثل الشاعر نفسه.

ـ الشكل مضمون أيضًا، إنه أيضًا يقول..

ـ ويقول "إدوارد الخراط": "الحداثة عندي هي القيمة التي تتوفر في كتابات الصوفية القدامى من النفَّـرى والجنيد، وابن الفارض، وابن العربي".

وهي كلمات يرتكز عليها الحداثيون، وكثيرًا ما يسوقونها في مقام الدفاع عن غموضهم، كأنهم يريدون أن يقولوا: إن هؤلاء دخلوا التاريخ، واشتهروا على الرغم من غموضهم، فلماذا تخصوننا بالملام والهجوم لغموضنا؟!

   وأنا أقول: إن التشبيه هنا مع الفارق الكبير جدًّا، فقد قرأنا ما كتبه هؤلاء جميعًا، وفهمناه، بما فيه من إشارات وإلماعات، وخفايا، بل إني كنت ـ وما زلت ـ أحفظ قطعًا من "المواقف والمخاطبات" لمحمد بن عبد الجبار النفري، ولكني أقرأ "أشياء" الحداثيين فلا أفهم، وآمل ألا يعتقد القارئ أنني أدعو ـ صراحة أو ضمنًا ـ إلى أن يكون الشعر مسطحًا مبسوطًا، سهل المأخذ، مباشر الأسلوب، فهذه سمة النثر، ورحم الله "أبا إسحاق الصابي" الذي قال: "إن طريق الإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه؛ لأن الترسل هو ما وضح معناه، وأعطاك سماعُه من أول وهلة ما تضمنته ألفاظه، وأفخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه".

وهذا الغموض الذي أشار إليه "الصابيّ" هو الغموض الخلاق حقًا.

1 ـ لأنه يحمي القصيدة من التسطيح والتبذل والمباشرية.

2 ـ ولأنه لا يحول بين المتلقي والفهم، بل يدفعه إلى كد ذهنه، وإعمال فكره حتى يفهم القصيدة ويتفاعل معها، فهو يعني العمق، وتجنب التسطيح والابتذال.

   فهذا إذن هو "الغموض الحميد" أما غموض الحداثة "فغموض خبيث" يهرب إليه الحداثي بسبب الإفلاس الفكري، أو عدم وضوح الفكرة في ذهنه، أو لضعفه في اللغة والأداء التعبيري.

غموض يحكم على القصيدة ابتداء بالإعدام، أو يحكم بأنها ولدت ميتة؛ لأنها لا تجد طريقها إلى عقول الأحياء.

ولم يكن "الغموض المعتم" هو "المسمار" الوحيد في نعش القصيدة الحداثية، ومنطق الحداثيين تنظيرًا ونقدًا، بل هناك "مسامير" و "مسامير" نتناولها بالحديث – إن شاء الله - في حدود ما طرحته في لقاء "السرايا" , لا اتخطاه .

(2)

    أعتقد أنني لم أبالغ, ولم أسرف حينما وصفت قيام الحداثة بأنه ميلاد ميت, وهو وصف وراءه حيثيتان قويتان واضحتان: الأولي: أنها كيان غريب وافد غير أصيل أصرّ قوم - لأسباب لا يتسع المقام لذكرها - علي أن يعيش في أرض يرفضه فيها ترابـها الطيب, ومناخها المعتدل, وهوائها النقي.
والثانية: أنها تحمل في كيانها بذور فنائها, كالوليد الذي ولد ممسوخ المظهر والمخبر, مختل الأجهزة, فقير الدم, مشوه الأعضاء.
  الغموض المظلم!!
    وقد ذكرت
- فيما سبق - أنني في مناقشة هذه الحداثة أعتمد علي مصدرين أساسيين:
الأول: أدبيات الحداثيين وخصوصا الشعر.
والثاني: مقولات النقاد الذين يناصرون الحداثة, وكذلك مقولات شعراء الحداثة في عرض وجهة نظرهم, والدفاع عن مسلكهم الفني.
وما أقدمه ليس دراسة أكاديمية عن الحداثة, ولكنه وجهة نظر طرحتها في
" الملتقي الثقافي " الذي عقده الدكتور عبدالولي الشميري علي ظهر السفينة «السرايا». وقد ذكرت  أن الغموض المظلم الذي هيمن علي القصيدة الحداثية كان مسمارا حادا بشعا دق في نعش الحداثة, حتي إن المتخصصين في الأدب والنقد من أمثالنا عجزوا عن فهمها.
    وقد رفضنا - في الملتقي - مقولة الدكتور صلاح فضل بأن ذلك لا يرجع إلي طبيعة القصيدة الحداثية, ولكن إلي تواضع «إمكانات الفهم» عند المتلقي, مما يقوده  إلي «القراءة الرديئة». كما رفضنا بشدة وصف إدوار الخراط هذا الغموض بأنه «غموض» خلاق.
  الوضوح الداعر..
    ولكني - حتي أكون منصفا - أقر وأعترف أن هناك عددا كبيرا من القصائد الحداثية الواضحة التي لا يستعصي فهمها علي القارئ العادي, ولكنها للأسف تمثل عدوانا صارخا علي الأخلاقيات والحياء والذوق السليم. وأعتقد أن أي إنسان رزقه الله الحد الأدني من الذوق والرجولة والتعفف سيصاب بالدوار والغثيان, وهو يقرأ «لشاعر حداثي» مشهور في قصيدة له مشهورة أصوات ا لجنس الداعر المكونة من «الهمزة والحاء الساكنة» و«الهمزة والحاء المشددة المضمومة والواو والهاء» . واندمج هذا «الحداثي جدا», فأخذ يكرر «أصواته» هذه في استطابة, وتلذذ حقير.
    ولن يملك القارئ السويّ نفسه من «القيء» وهو يقرأ لواحد آخر من الحداثيين جدا عندما يتحدث إلي حبيبته طالبا منها أن تذيب الفجور في كأسها, وتغرف العهر, وتسقي رحمها خمرا, لكي تنجب وليدا اسمه «سكر» بضم السين وتسكين الكاف:
ذوبي الفُـجْر بكأسي واشربي
واغرفي العُـهر, وها كأسي اسكبي
وارصدي الشهوة من حيث أتتْ
أنت رحم الخمرِ
فالسُّكْـرَ انجبي!
   ويقول:
يا سيدتي - يا حبي الآخر والأول
أصبحت من الكافر أكفَـرْ
حبك علمني الإلحاد
   ويقول عنها:
وماذا لو أضيعها
كمن قد ضيع اللهَ!!
    وبأسلوب دعاري واضح جدا, يحكي واحد منهم في إحدي قصائده عن تجربة «لُـواطية» كان هو ضحيتها. وإلي هنا أمسك عن عرض مزيد من شواهد هذا المستنقع الحداثي, مع أن تحت يدي - وأنا أكتب هذا المقال - «ركامات» أشد سقوطا وسفولا مما قدمت . كما أني لن أعرض نصوصا حداثية تتفجر بالكفر البواح, والعدوان علي الله والنبوات, والكتب المنزلة, كما أني حرصت علي إيراد الشواهد السابقة بدون نسبتها إلي «مبدعيها» (!!) حتي لا أتهم بالإثارة وتحريض الجماهير عليهم, كما يحلو للحداثيين أن يدعوا.
  اعتراضات مرفوضة..
   
ويعترض الثلاثي المدافعون عن الحداثة, - وخصوصا الدكتور صلاح فضل - علي ما سقناه من شواهد لا أخلاقية من شعر الحداثة باعتراضين:
الأول: أن ما قدم من نصوص تدين شعر الحداثة إنما اقتطعت, وفصلت عن سياقها, و من ثم يسقط الاستدلال بها, لأنها لا تمثل رؤية كاملة.
والثاني: أن الأدب شئ, والأخلاق شئ آخر, فلكل منهما مجاله ونطاقة, ومن ثم كان للمبدع الحق في أن يقول ويكتب ما يشاء دون حجر علي حريته. ولو أخذنا «بالمعيار الخلقي» للحكم علي الإبداع لأسقطنا تسعين في المائة من تراثنا الشعري.
والأخذ بهذا المعيار سيصيب أدبنا بالضيق والضعف والتأزم والتقزم. والدليل التاريخي علي صحة هذا الحكم أن الشعر أصيب «بالضعف واللين» بظهور الإسلام, والتزام الشعراء بقواعده ومبادئه قولا وسلوكا
.
   إنـها حـجج ساقطة
    وعن الاعتراض الأول أقول: هل يطلب منا - نحن «الأصاليين» - أن نقرأ علي الحاضرين دواوين حداثية كاملة حتي نثبت حكمنا? علي أن زميلي «الأصالي» الدكتور كمال نشأت قرأ من «النماذج» ما يكفي وزيادة. و معروف أنه يـكفي - منهجيا - للتدليل علي ظاهرة أو حكم - انتقاء بعض النصوص بشرط أن تكون قاطعة الدلالة بلا تعسف وافتعال. وهي قاعدة يعرفها المبتدئون في دراسة مناهج البحث.
    أما الاعتراض الثاني: فهو الأخطر, لأنه غاص بالمغالطات والأحكام العارية من الصحة, بعضها صريح, وبعضها ضمني..
1- فليس صحيحا أن أغلب شعرنا التراثي - حتي الجاهلي منه -  يتعارض مع القيم الدينية والأخلاقية.. وأقول - علي مسئوليتي - إن الشعر الجاهلي - وهو الذي عاش في عصر وثني - لو عرضناه علي ميزان الإسلام لاكتشفنا أن ما يتعارض منه, مع القيم الخلقية لا يزيد علي خمسة في المائة, كما أن ذكر الشرك والأوثان فيه نادر جدا. ومن الشعراء الجاهليين من أرصد شعره كله للحكم والقيم الإنسانية العليا كأمية ابن أبي الصلت.
2- وقد يرفع بعضهم في وجهنا ورقة شاعر كأبي نواس, وأقول: حتي هذه الورقة لاتصلح دليلا في صف اعتراض الدكتور صلاح فضل, لأن شعر أبي نواس في الخمريات والغلاميات لا يمثل كل شعره, وللأسف شغل أغلب النقاد القدامي والمحدثين بهذه «الفاكهة المحرمة», فغضوا النظر عن طردياته و«وصفياته» وقصائده التوبية وهي عشرات من قصائده تتدفق بالإيمان والتوبة
والزهد وذكر الله.
كما أن مؤرخي الأدب ونقاده اهتموا بشعراء القصور والعواصم كبغداد ودمشق, وأغفلوا عشرات من شعراء القري والصحراء والكفور لم تفسدهم مغريات الدنيا ومفاسدها, مثل يحيي بن المبارك اليزيدي, وكلثوم بن عمرو العتابي, وابن الخبازة, وسلمة بن عياش
...
وغيرهم.
    وإذا كان في تاريخنا الأدبي شاعر كأبي نواس له نوعان من الشعر: نوع متهتك يمثل الشذوذ والسقوط اللاأخلاقي. ونوع أبدعه استجابة لصوت الفطرة الإنسانية السوية السليمة, فلماذا يصر الحداثيون علي ستر النوع الثاني, بل محوه بالنوع الأول? أليس من الواجب - ونحن نبني شبابنا علي أسس سليمة قويمة, ونربي فيه حاسة التذوق الجمالي النقي - أن نعوده, وندربه علي معايشة «الأدب النظيف» بعيدا عن إبداع الدعارة والمستنقعات?
    وليس معني ذلك أن نحرق هذا «التراث الأدبي اللاأخلاقي» وننسفه نسفا, بل علينا أن نحافظ عليه كمادة للدارسين والباحثين المتخصصين, دون أن نروج له في مدارسنا وصحفنا.
والدعوة إلي أخلاقية الأدب لا تعني التضحية بالجماليات الفنية تصويرا وتعبيرا في سبيل المضمون, بل هي دعوة إلي التكامل السديد السوي في المضمون والشكل بكل جمالياته.
3- والادعاء بأن الشعر ضعف ولان بظهور الإسلام وأخذ الشعراء أنفسهم به قولا وفعلا أكذوبة راجت طويلا ومازال لها سوق.

   وإنما هي أكذوبة تعتمد علي خطأ منهجي وهو الحكم علي الشعر الإسلامي - لا بذاته ولذاته - ولكن قياسا علي الشعر الجاهلي, وأغفل من أصدروا هذا الحكم حقيقة بدهية وهي أن لكل عصر حساباته, ومعاييره ومواصفاته, والمطلوب من الشعر أن يكون تمثيلا صادقا لطبيعة العصر الذي يعيشه بكل أبعاده وامتداداته. وقد استطاع الإسلام أن يحول الطاقة الشعرية عند الشعراء إلي الطريق السوي: طريق النور والخير والتقوي والتسامح, وهو ما يسميه علماء النفس في عصرنا الحاضر باعلاء الغريزة والسمو بها, (SUBLIMATION) : فالفخر لم يعد بالأنساب والأحساب ولكن بالدين والتقوي والقيم, وشعر العدوان والإغارة والقتال تحول إلي الجهاد في سبيل الله, واختفي الغزل الفاحش والهجاء السافل, وظهر شعر الدعوة والدفاع عن العقيدة. وأمد الإسلام الشعراء بصور وأساليب جديدة من القرآن والسنة , مما يطول شرحه. فأين الضعف واللين يا دكتور صلاح??!!
  مسامير ... مسامير
   
كان الغموض المظلم هو المسمار الأول في نعش الحداثة والقصيدة الحداثية. وكان «السقوط الجنسي الداعر» هو المسمار الثاني, ومازال هناك مسامير ومسامير أشرنا إليها في الدفاع عن «الأصالة» في ملتقي السرايا. وقد آن لنا أن نعرضها في السطور الآتية , متوخين الإيجاز .

(3)

     هناك حقيقة يدركها حتي العوام من الناس, وهي أن الإنسان - بل الحيوان - يستريح, ويميل, ويستجيب بفطرته لكل ما هو منغوم منتظم: فالأم ترقًّص رضيعها وتدلّله بكلمات منغومة, وهو يفرح ويسعد بذلك. وفي الأدب العربي شعر كثير من «أدب ترقيص الأطفال». ونري الأطفال في بيوتنا -حتي الرضَّع منهم- يتمايلون ويهتزون للموسيقي التي تصل إلي آذانهم.
وقد أدرك البدوي من قديم بفطرته أن الإبل تنسي متاعبها - وهي تقطع آلاف الأميال في الصحراء - بموسيقي «الحُداء», وهو الشعر الذي يتغني به, ويتابعه فيه رفاق القافلة علي وقع خطوات الإبل.
    وأثبت عالم هندي - بتجربة أجراها علي قطعة أرض مزروعة قمحًا - أن المزروعات يزيد إنتاجها, ويسرع نموها بعزف الموسيقي!! هذه الحقيقة أغفلها «شعراء الحداثة», فكان من حسناتهم - كما يقول إدوار الخراط - الثورة علي
" أوزان الخليل, وتدمير التفعلية الوثنية المقدسة " أي الانسلاخ التام من البحور الشعرية ومن «تفعيلة» الشعر الحر». وهذا يعني - في إيجاز - الانسلاخ الكامل من «الموسيقي» مع أنها الفيصل الأساسي بين الشعر والنثر.
    ولكن «الحداثيين» يزعمون أنهم - بعد أن نسفوا «الموسيقي السلفية الوثنية المقدسة» المتمثلة في البحور والتفعيلة - أتوا ببديل «شاف كاف» من وجهة نظرهم, وهو الجناس الناقص» وتكرار حرف معين في بنية عدد من الكلمات كتكرار حرف السين في «قصيدة» (!?) أحد كبارهم:
أرمي لكم قافية طرية سهلة الهضم
وأستل سينية سما وسيفًا وسهمًا
أوسوس لكم. وأسوسكم بسخطي..».
    وهو عبث لغوي لا يعجز عن مثله الأطفال والعوام, وهو يذكرني بصاحب مطعم سمك في بلدنا «المنزلة» بمحافظة الدقهلية بمصر , كنت أضحك وأنا أراه - وكنت طفلاً - يطرد قطة شقية تضايقه «بخطف» سمكة, صارخًا فيها «بسْ بسّك داء السل, دا السمك غالي».وكان ذا لثغة , فكان ينطق الجملة هكذا " بث بثك داء الثل دا الثمك غالي " .  ولم يدر الحداثيون أنهم بهذا «اللعب اللغوي» نسفوا ادعاءهم بأنهم «نسفوا السلفي القديم», وأتوا بالجديد الفائق» مع أنهم مسبوقون إليه بأحاديث ابن دريد ومقامات الهمذاني والحريري, ولكن علي نحو أرفع وأرقي. فالحريري مثلاً يكرر حرف اللام في العبارة الآتية من المقامة البغدادية «لم يزل أهلي وبعلي يحلون الصدر, ويسيرون القلب, ويمطون الظهر, ويولون اليد..», ومن ألعابه اللغوية الفذة: الأبيات «العواطل» وكلها غير منقوطة, والأبيات «العرائس» وكلها منقوطة وأنواع ثمانية أخري لا يتسع لشرحها المقام.
       هذا هو شعر الحداثة: إغراق في الغموض والركاكة. وعدوان علي الدين والقيم واللغة والتراث وموسيقي الشعر. أما ما سموه بقصيدة «النثر» فنكبة أخري نختم بها هذه الحلقات
 .

( 4)

     من الصعب وضع تعريف جامع مانع لما يسمي «قصيدة النثر». وإن كان المتاح هو التعرف علي أبعادها من مواصفات النصوص المعروضة التي يدعي مبدعوها أنها تمثل «قصيدة النثر».
ومن أوضح ما سجله الرافضون لها, وما أكثرهم!! ما تتمتع به من فوضي وانقلاب وتمرد عشوائي, وتنكر لكل مفاهيم البناء والشكل, وبخاصة البناء الموسيقي. واهمال الموسيقي معناه - كما يقول الدكتور محمد عبد المطلب - الإيغال في النثرية, وهي نثرية رديئة, لأنها استباحت كل محرم, وأهدرت مجموعة القيم الموروثة والمستحدثة, ورفضت التوصيل, وتجاهلت المتلقي تجاهلا تاما, ولم تقم اعتبارا لاحتياجاته الجمالية.
      وفي كتابها «قصيدة النثر من بودلير إلي أيامنا» تؤكد «سوزان برنار» أنه يوجد في قصيدة النثر - في آن واحد - قوة فوضوية مدمرة تميل إلي رفض الأشكال الموجودة, وقوة منظمة تميل إلي وحدة شاعرية.
ومصطلح قصيدة النثر نفسه يشير إلي هذه الثنائية: إذ إن من يكتب بالنثر يتمرد علي التقاليد العروضية والأسلوبية.. ومن يكتب قصيدة يرمي إلي خلق شكل منظم, مغلق علي نفسه, ومنفصل عن الزمان. ص157.
  إنـها جنس وافد
      والمعروف أن «قصيدة النثر» جنس وافد أطلقته, وتبنته مجلة «شعر», وهو ترجمة للمصطلح الفرنسي
Poeme en Prose . وإن كان لها - كما يري بعض النقاد - حضور سابق علي مرحلة الحداثة, تحت مصطلح ثنائي أيضا هو «الشعر المنثور» أو «النثر الشعري», ولكن الحداثيين فضلوا مصطلح «قصيدة النثر» الذي وفد علينا, مع مجموع ما وفد من ظواهر الحداثة في الإبداع والنقد.
   ولسنا في مقام تتبع ما أرسته التنظيرات من ملامح «قصيدة النثر», فذلك ما لا يتسع له المقام, ونري أن النماذج المتوافرة يمكن أن تبوح بكثير من هذه الملامح, من ذلك ما كتبه «أدونيس» تحت عنوان «تكوين»:
اخرج إلي الأرض أيها الطفل
خرج
هبط من الحرف
أ ح د= د ح أ الأرض
دائما يصنع طريقا لا تقود إلي مكان
أ ن أ
منفية بقوة الحضور
كالهواء
وهي هي
كل شيء يتغير ويتبقي
أ ن أ = أ ن أ.. إلخ.
  عبثيات...عبثيات
        وهذا الكلام المثقل بهذه الرموز, وهذه الحروف, وهذا الغموض والانغلاق والابهام, محروم تماما من «الشعرية» في معناه وفحواه, وموسيقاه, وقوالبه اللفظية الغريبة.
    وعن «دفنت
ُ الأم» يقول الحداثي حلمي سالم:
هذه أمي علي باب وسط الدار
دلا لها بادي في حسرها غطاء الرأس
ومدينتها في الابتسامة
لكن نصفها الأسفل
- من الضلوع حتي البانٍتُوفًل-
متآكل
يلزمني أن أراها واقفة
لأنني عدت من دفنها
قبل أن يتاح لي أن أفرد أصابعها!
  
  إنها «سطور» وعبارات لا يربط بينها ضبط فكري أو شعوري, مع جرأة علي حرمة اللغة العربية باستعمال كلمة أجنبية مثل «البانتوفل», وانغلاق في المعني. ومثل هذا «التشكيل» المشْكِل لا يشد إليه القارئ, ولا يهز منه فكرا, أو شعورا.
       ويجمع «القصنثريون» - أي دعاة قصيدة النثر - إلي الغموض وانغلاق المعني - غثاثة الصور, ودمامة الخيال إلي درجة خدش الحياء, وإثارة الغثيان أحيانا, وأغلبه خيال جزئي تفسيري غريب, لا يصنع لوحة فنية, أو صورة كلية متكاملة. وذلك ما نراه في السطور الآتية, وهي بعنوان «فقط», من ديوان جرجس شكري «بلا مقابل أسقط أسفل حذائي»:
أتحسس وجهي, وأدخن تبغا رديئا
وبملل
أغلق النافذة
علي نصف قمر, وليل مر
وخيانة يوم
وعفونة آخر
لأصحو بسروال بللته الكوابيس
مع فتاة بغير ملامح
ويسقط كل الوقت
بين الصمت واللاشيء.
  خلاصة المثالب ....
       والنماذج التي قدمناها تبين - ولا شك - عما يثقل ما يسمي بقصيدة النثر من مثالب, وما يسجل عليها من مآخذ:
1- فهي تجنح إلي الغموض والانغلاق, وكأن الكلمات فيها رموز مبهمة توجه إلي لا شيء.
2- وهي خالية تماما من الموسيقي, وهي أهم ما يفرق بين الشعر والنثر.
3- وهي تفتقر إلي الترابط الفكري والشعوري بين أجزائها, مما يقطع بأنها لم تنطق من تجربة شعورية ناضجة صادقة, بل تنطلق من حرص أصحابها علي التغليق والتغميض, معتقدين أن هذا يمثل لونا من التفوق الفني.
4- وهي تتمرد علي المواريث الدينية والخلقية, وعلي القيم الفكرية والأدبية.
5- وهي تتوسع في الاشتقاقات اللغوية بلا ضوابط, وتدمر اللغة, وتخرج علي قواعدها, وتوظف الرموز الرياضية والهندسية, والألفاظ العامية والأجنبية, مما يفقدها تحقيق التناسب اللغوي في الأداء التعبيري.
فالواحدة من هذا اللون تتسع لألفاظ فصيحة, ومشتقات علي غير قياس, وكلمات عامية, وكلمات أجنبية, وأشكال ورموز هندسية وجبرية.
     وهذا التنافر اللغوي يعد من أهم الأسباب التي تفقدها تكاملها وتماسكها, بحيث لا يؤثر في طبيعتها حذف جزئية من جزئياتها. إنها - كما يقول الأستاذ سامي مهدي - شظايا متناثرة لا يجمعها جامع, وركام من الألفاظ والصور لا ينتظمه خيط موضوعي, ولا ينظمه نظام. فلا عجب أن تولد ميتة, شأنها شأن كل «إبداعات» الحداثيين
  .