قضايا لغوية(8)

قضايا لغوية(8)

في جذور الكلمات

(التّاء والثّاء)

د. عبدالكريم مدلج

في لغتنا العربية كلمات قد يصعب على بعض الدارسين معرفة جذورها للوقوف على معانيها في المعاجم, وذلك بسبب بعض التغييرات التي طرأت على أصل كلّ كلمةٍ منها, فتغير شكل بنيتها, وأشكل معرفة جذرها, وهذا التغيير مردّه حدوث إعلالٍ أو إبدالٍ أو قلبٍ مكانيٍ في الكلمة. وسأذكر بعض هذه الكلمات, مبينًا جذرها وبعض معانيها, ومرتّبًا إياها بحسب أصولها وفق الترتيب الألفبائي.

اتّبع = (تبع): تبع الشيء تبعًا وتباعًا في الأفعال, وتبعت الشيء تبوعًا, سرت في إثره, واتبعه وأتبعه وتتبّعه قفاه وتطلبه متّبعًا له, وكذلك تتبّعه وتتبّعته تتبّعًا, قال القطامي:

                        وَخيرُ الأمرِ ما استقبلتَ منه       وليس بأن تَتَبـعَهُ اتِّباعا

وضع الاتباع موضع التّتبّع مجازًا, قال سيبويه: تتبّعه اتباعًا؛ لأن تتبّعت في معنى اتّبعت, وتبعت القوم تَبَعًا وتَباعةً بالفتح إذا مشيت خلفهم, أو مروا بك فمضيت معهم, وفي حديث الدعاء "تَابِع بَينَنَا وبَينَهم عَلَى الخَيرَات" أي: اجعلنا نتبعهم على ما هم عليه, وأتبعه الشيء جعله له تابعًا, وقيل: أتبع الرجل سبقه فلحقه, وتبعه تبعًا واتبعه مرَّ به فمضى معه, وقال تعالى في صفة ذي القرنين: ] ثُمَّ اتَّبَعَ سَبَبًا [ [الكهف 92]. بتشديد التاء ومعناها تبع, وكان أبو عمرو بن العلاء يقرؤها بتشديد التاء وهي قراءة أهل المدينة وكان الكسائي يقرؤها ] ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا [  بقطع الألف, أي: لحق وأدرك. واستتبعه طلب إليه أن يتبعه, والتابع التالي, والجمع تبع وتباع وتبعة, والتَّبَع اسم للجمع ونظيره خادِم وخَدَم وطالِبٌ وطلَب وغائِب وغيب وسالف وسلَف وراصد ورصد ورائح وروح وفارط وفرط وحارس وحرس وعاس وعسس وقافل من سفره وقفل وخائل وخول وخابل وخَبَل وهو الشيطان.

التّراقي = (ترق): الترق شبيه بالدرج, قال الأعشى:

                وَمـارِدٌ مِن غُـواةِ الجِـنِّ يَحرُسُها       ذو نيقَـةٍ مُسـتَعِدٌّ  دونَها تَـرَقَـا

دونها يعني دون الدرة, والتَّـرقُوَتَان العظـمان المشرفان بين ثغرة النحر والعاتق تكون للناس وغيرهم, والتَّـرْقُوَة (فَعْـلُوَة), ولا تقل: تُرْقُوة بالضم, وقيل: هي عظم وصل بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين, وجمعها التراقي, وترقاه أصاب ترقوته, وترقيته أيضًا ترقاةً أصبت ترقوته, وفي حديث الخوارج: "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم وتراقيهم" والمعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله ولا يقبلها, فكأنها لم تجاوز حلوقهم وقيل: المعنى لا يعملون بالقرآن ولا يثابون على قراءته ولا يحصل لهم غير القراءة, ويُقال: لَو ملأه إلى عَرْقُـوَتِهِ لَتَـرَقَّتْ رُوحُه إلى تَرْقُـوَتِهِ, والتِّـريَاق بكسر التاء معروف فارسي معرَّب, هو دواء السموم لغة في الدرياق, والعرب تسمّي الخمر ترياقًا وترياقةً؛ لأنها تذهب بالهمّ ومنه قول الشّاعر:

                   سَـقَتْنـي بِصَـهْبَاءَ دِرْيَـاقَـةٍ        مَتَـى مَـا تُلَيِّـنْ عِظَـامِي تَلِـنْ

وفي الحديث: "إن في عجوة العالية ترياقا" والترياق ما يستعمل لدفع السم من الأدوية والمعاجين, ويقال: درياق بالدال أيضًا.

الترهات = (تره): فيه ذكر الترهات وهي كناية عن الأباطيل, واحدها تُرَّه وتُرَّهة بضم التاء وفتح الراء المشددة, والترهات البواطل من الأمور, وأنشد رؤبة:

 وحقة ليست بقول التره

وأنشد ابن بري:

 ذاك الذي وأبيك يعرف مالك والحق يدفع ترهات الباطل

 واستعير في الباطل فقيل الترهات البسابس, والترهات الصحاصح, وهو من أسماء الباطل, وربما جاء مضافًا, وقوم يقولون: تره والجمع تراريه وأنشدوا:

 ردوا بني الأعرج إبلي من كثب قبل التراريه وبعد المطلب

تارة = (تور ـ تير): التور من الأواني مذكر, قيل: هو عربي, وقيل: دخيل, وهو إناء صغير من صفرٍ أو حجارةٍ كالإجانة, معروف تذكره العرب, تشرب فيه, وقد يتوضأ منه, وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يتوضَّأ بالتَّوْرِ, والتور الرسول بين القوم, وسُمِّي كذلك؛ لأنّه يتردّد ويدور بين العشَّاق, وهو عربي صحيح, قال الشاعر:

                         وَالتَّـوْرُ فِيمَا بَينَنَا مُعْمَـلُ       يَرضَى بِهِ المَأتِيُّ وِالمُرْسِـلُ

والتَّـورَةُ الجَارِية التي تُرسَل بين العشَّاق, والتَّـارة الحين والمَـرَّة, وألِفُها واو, وجمعها: تارات, وتير, قال العجاج:

حَتّـى إِذا  ما مِـرجَـلُ  القَـومِ أَفَـر

بِالغـليِ أَحـمَـوهُ وَأَخـبَـوهُ التِيَـر

قال ابن الأعرابي: تأرة مهموز فلما كثر استعمالهم لها تركوا همزها, قال أبو منصور وقال غيره جمع تأرة تئر مهموزة, قال: ومنه يقال: أتأرت النظر إليه, أي: أدمته تارة بعد تارة, وأترت الشيء جئت به تارة أخرى, أي: مَـرَّةً بعد مَـرَّةٍ, وفي التهذيب قوله: أتأرت النظر إذا حددته, قال: بهمز الألفين غير ممدودة, ثم قال: ومن ترك الهمز قال: أترت إليه النظر والرمي أتير تارة, وأترت إليه الرمي إذا رميته تارةً بعد تارةٍ, فهو متارٌ, والتائر المداوم على العمل بعد فتور, وحكي يا تارات فلان, قال حسان:

                      لَتَسـمَعُنَّ وَشـيكاً في دِيارِكُمُ       اللَهُ أَكبَـرُ يا تاراتِ عُثمَـانَا

وتير الرجل أصيب التار منه, هكذا جاء على صيغة ما لم يسم فاعله, قال ابن هرمة:

                  حيـيٌّ تَقـيٌّ ساكِنُ القَـولِ وادِعٌ       إِذا لَم يُتـرَ شَهمٌ إِذا تيـرَ مانِـعُ

وتاراء من مساجد سيدنا رسول الله بين المدينة, وقيل:

                ومَا الدَّهْـرُ إِلاَّ تَـارَتَـانِ فَمِنْهُـمَا       أَمُـوتُ وأُخْـرَى أَبْتَغِي العَيْشَ أَكْدَحُ

أراد فمنهما تارة أموتها أي أموت فيها.

والتير الحاجز بين الحائطين فارسي معرب, والتيار الموج وخص بعضهم به موج البحر, والتيار (فَيْعَال) من تار يتور مثل القيام من قام يقوم, غير أن فعله ممات, ويقال: قطع عرقًا تيارًا, أي: سريع الجرية, وفَعَلَ ذلك تارةً بعد تارةٍ, أي: مرةً بعد مرةٍ, والجمع تارات وتير, كما قالوا: قامات وقيم.

اثّاقل = (ثقل): الثقل نقيض الخفة, والثقل مصدر الثقيل, تقول: ثقل الشيء ثقلاً وثقالةً فهو ثقيل, والجمع ثقال, والثقل رجحان الثقيل, والثِّقل: الحمل الثقيل, والجمع: أثقال, مثل: حِمْل وأحْمَال. وقوله تعالى   ] وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا [ [الزلزلة 2]. أثقالها: كنوزها وموتاها, وقيل: أثقالها: أجساد بني آدم, وقيل معناه ما فيها من كنوز الذهب والفضة. والثقل: الذنب, وفي التنزيل: ] وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِم [ [العنكبوت13]. يعني أوزارهم وأوزار من أضلوا وهي الآثام وقوله تعالى: ] وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [ [فاطر 18].  أي: إن دعت نفس داعية أثقلتها ذنوبها إلى حملها, أي: إلى ذنوبها ليحمل عنها شيئًا من الذنوب لم تجد ذلك وإن كان المدعو ذا قربى منها. واستثقله رآه ثقيلاً, وأثقلت المرأة فهي مثقل ثقل حملها في بطنها, وفي التنزيل العزيز: ] فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا [ [الأعراف 189].  أي: صارت ذات ثقل, كما تقول: أتمرنا, أي: صرنا ذوي تمرٍ. وقوله عز وجل: ] إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [ [المزمل 5].  يعني الوحي الذي أنزله الله عليه, جعله ثقيلاً من جهة عظم قدره وجلالة خطره, وأنه ليس بسفساف الكلام الذي يستخف به, فكل شيءٍ نفيسٍ وعِلقٍ خطيرٍ فهو ثقل وثقيل وثاقل, وليس معنى قوله: ] قَوْلاً ثَقِيلاً [  بمعنى الثقيل الذي يستثقله الناس فيتبرمون به وجاء في التفسير أنه ثقل العمل به؛ لأن الحرام والحلال والصلاة والصيام وجميع ما أمر الله به أن يعمل لا يؤديه أحد إلا بتكلف يثقل. وفي التنزيل العزيز: ] يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَل [ [لقمان 16]. المثقال في الأصل مقدار من الوزن أي شيء كان من قليل أو كثير, وهو واحد مثاقيل الذهب. و ثقل الشيء يثقله بيده ثقلاً راز ثقله, وثقلت الشاة أيضًا أثقلها ثقلاً رزنتها وذلك إذا رفعتها لتنظر ما ثقلها من خفتها, وتثاقل عنه ثقل وفي التنزيل العزيز: ] اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ [ [التوبة 38]. وعداه بـ(إلى)؛ لأن فيه معنى ملتم, وثقل إلى الأرض أخلد إليها واطمأن فيها. وتثاقل القوم استنهضوا لنجدة فلم ينهضوا إليها, والتثاقل التباطؤ من التحامل في الوطء يقال: لأطأنه وطء المتثاقل, وثَقِلة القوم بكسر القاف أثقالهم, وثقل الرجل ثقلاً فهو ثقيل وثاقل اشتد مرضه. يقال: أصبح فلان ثاقلاً, أي: أثقله المرض, قال لبيد:

                     رَأَيتُ التُقى وَالحَمدَ خَيرَ تِجارَةٍ       رَباحاً إِذا ما المَرءُ أَصبَحَ ثاقِلا

أي: ثقيلاً من المرض قد أدنفه وأشرف على الموت, والمثقل الذي قد أثقله المرض, والمستثقل الثقيل من الناس, والمستثقل الذي أثقله النوم, وهي الثقلة, والثقلان الجن والإنس, وفي التنزيل العزيز: ] سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ [  [الرحمن 31]. وقال: لكم لأن الثقلين وإن كان بلفظ التثنية فمعناه الجمع, وروي عن النبي أنه قال في آخر عمره: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي" فجعلهما كتاب الله عز وجل وعترته, وسميا ثقلين؛ لأن الأخذ بهما ثقيل والعمل بهما ثقيل. وأصل الثقل أن العرب تقول لكل شيءٍ نفيس خطير مصون ثقل فسماهما ثقلين إعظامًا لقدرهما وتفخيمًا لشأنهما. وسمى الله تعالى الجن والإنس الثقلين سمّيا ثقلين لتفضيل الله تعالى إياهما على سائر الحيوان المخلوق في الأرض بالتمييز والعقل الذي خصاهما  به قال ابن الأنباري: قيل للجن والإنس الثقلان؛ لأنهما كالثقل للأرض وعليها. وفي حديث سؤال القبر يسمعها من بين المشرق والمغرب إلا الثقلين, الثقلان الإنس والجن؛ لأنهما قطان الأرض.

اثنان = (ثنى): ثَنَى الشَّيء ثنيًا ردَّ بعضه على بعضٍ, وقد تثنّى وانثنى, وأثناؤه ومثانيه قواه وطاقاته, واحدها ثني. وأثناء الحية مطاويها إذا تحوت, وثني الحية انثناؤها, وهو أيضًا ما تعوج منها إذا تثنت, والجمع أثناء, وأثناء الوادي معاطفه وأجراعه, والثني من الوادي والجبل منقطعه, ومثاني الوادي ومحانيه معاطفه, وثنيت الشيء ثنيًا عطفته, وثناه أي: كفَّه, ويقال: جاء ثانيًا من عنانه و ثنيته أيضًا صرفته عن حاجته وكذلك إذا صرت له ثانيا وثنيته تثنية أي جعلته اثنين, وأثناء الوشاح ما انثنى منه, ومنه قوله:

                   إِذا ما الثُرَيّا في السَماءِ تَعَرَّضَت       تَعَرُّضَ أَثناءِ الوِشاحِ المُفَصَّلِ

و الاثنان ضعف الواحد, والمؤنث الثنتان تاؤه مبدلة من ياء ويدل على أنه من الياء أنه من ثنيت لأن الاثنين قد ثني أحدهما إلى صاحبه وأصله ثني, يدلك على ذلك جمعهم إياه على أثناء بمنزلة أبناء وآخاء, وتقول للمؤنث اثنتان وإن شئت ثنتان؛ لأن الألف إنما اجتلبت لسكون الثاء فلما تحركت سقطت. فألفه ألف وصل وقد قطعها الشاعر على التوهم فقال:

                      أَلا لا أَرى اِثنَين أَحسَنَ شيمَةً       عَلى حَدَثانِ الدَهرِ مِنّي وَمِن جُملِ

والثني ضم واحد إلى واحد, والثني الاسم, وأصل الثني الكف و ثنى الشيء جعله اثنين. وجاء القوم مثنى مثنى, أي: اثنين اثنين, ومثنى معدول من اثنين اثنين, والاثنان من أيام الأسبوع؛ لأن الأوّل عندهم الأحد والجمع أثناء. ويوم الاثنين لا يثنى ولا يجمع لأنه مثنى. وقوله عز وجل:  ] وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [ [الحجر 87]. المثاني من القرآن ما ثني مرةً بعد مرةٍ, وقيل: فاتحة الكتاب وهي سبع آيات قيل لها: مثان لأنها يثنى بها في كل ركعة من ركعات الصلاة وتعاد في كل ركعة, وقيل غير ذلك. والثنى هو أن تؤخذ ناقتان في الصدقة مكان واحدةٍ. والمثناة حبل من صوف أو شعر, وقيل: هو الحبل من أي شيء كان.