إسرائيل في غفلة أصحاب الحق
إسرائيل في غفلة أصحاب الحق
د.مصطفى يوسف اللداوي *
في غمرة انشغال الفلسطينيين في همومهم ومشاكلهم الداخلية، وانقساماتهم السياسية، وتنافسهم الحزبي، وحساباتهم الفئوية الضيقة، وفي ظل الضائقة الاقتصادية التي يعيشها الفلسطينيون، والظروف الاجتماعية السيئة التي يعاني منها أغلبهم، وفي ظل الأسى الذي خيم على جموع العرب والمسلمين نتيجة تفاقم حالة الانقسام بين الفلسطينيين، وتشتت كلمتهم، وضياع هيبتهم، وجمود مقاومتهم، وتراجع بريق مقاومتهم، وفي ظل التراشق الاعتقالي بين شطري الوطن، الذي تسبب في تغييب المئات من أبناء شعبنا في غياهب سجون الأهل، ومعتقلات رفاق السلاح، حيث يروي المعتقلون قصصاً غريبة عن أشكال التعذيب والإهانة، فضلاً عن أجساد المعتقلين التي تشهد على عنف أساليب التحقيق ووحشيتها، وقد تسبب التحقيق القاسي في سجون أبناء الوطن في سقوط عشرات الشهداء نتيجة التعذيب الشديد، وترك التعذيب آثاراً بينة على الأجساد، دونتها وسجلتها وسائل الإعلام ولجان حقوق الإنسان، بعد أن تركت في نفوس الفلسطينيين جرحاً غائراً يصعب الشفاء منه، كما يتعذر نسيانه، ولكن السجون مع غزارة الدم الفلسطيني النازف فيها مازالت تستوعب المزيد، وتقول هل من مزيد.
وفي غمرة انشغال قادة الدول العربية في مشاكلهم الداخلية، وفي سباقهم وتنافسهم نحو نيل الرضى الأمريكي المحال، وفي التقرب من إسرائيل، ومحاولة اقتراح الحلول والبدائل لها، لتخرجها من مأزقها، ومن حالة العزلة الدولية التي تعاني منها نتيجة حكومتها اليمينية المتشددة، وفي ظل عجز الدول العربية عن فرضِ حلٍ على الأطراف الفلسطينية المتصارعة، وعجزها عن رفع الحصار المفروض على قطاع غزة، للتخفيف عن سكانه، خاصة في ظل شهر رمضان الفضيل، وعلى أبواب عيد الفطر السعيد، حيث تتضاعف المعاناة، وتشتد الحاجة، التي جعلت من الحاجة الفلسطينية هماً طاغياً، ومعاناةً دائمة، تكاد تنسيهم همهم الأكبر، وقضيتهم الأساس.
في غمرة هذه الهموم المكفهرة كالليل البهيم، وفي غفلةٍ عميقة من أصحاب الحق، تنشط إسرائيل في جوانب الدنيا الأربع، تبنى علاقاتٍ جديدة، وتعزز القديم منها، وتعقد أحلافاً وتحاول أن تقوض علاقات آخرين مع دولٍ كبرى، وتقتحم حصون العرب التاريخية، وحدائقها الخلفية، وتعبث بمقدراتها الإستراتيجية، وتحاول تجيير خيرات المنطقة لصالحها، فقام وزير خارجيتها أفيغودور ليبرمان باجتياح أفريقيا، وزيارة بعض دولها، وتهديد العرب في بوابتهم الجنوبية، وأعلن من عواصمها عزمه على شطب القضية الفلسطينية من القاموس السياسي، وأكد على قدرة إسرائيل على التعايش مع الأزمة، كتعايش المريض مع مرضه، فهي ليست في حاجةٍ إلى سلامٍ أو مفاوضات سلامٍ مع الدول العربية، واصطحب معه عشرات التجار والخبراء والضباط السابقين، ليستنزف خيرات أفريقيا، ويحرم العرب من عمقهم الإستراتيجي التاريخي، مستغلاً حاجة الدول الأفريقية، والضائقة الاقتصادية التي تعيشها.
وتنتهز إسرائيل غفلة العرب وأصحاب الحق الفلسطينيين المختصمين فيما بينهم، لتنشط بنهمٍ كبير في قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، لتبني المزيد من المستوطناتِ فيها، وتوسع القديم منها، ولتزج بمئاتِ المستوطنين الجدد فيها، وتعلن عن مناقصاتٍ عدة لشركاتٍ مختلفة لبناء المزيد من الوحدات السكينة بحجة الاستجابة للنمو الطبيعي للمستوطنات، وتكاد تهدد الأرض الفلسطينية بأكملها، فقد أدت سياسات إسرائيل الاستيطانية إلى ضياع مساحاتٍ كبيرة من الأرض الفلسطينية، ولم يقتصر الاستيطان الإسرائيلي على الضفة الغربية وحسب، بل امتد بضراوةٍ شديدة نحو القدس العربية، ليستولي على مساحاتٍ أكبر من الأراضي العربية، ويطرد مئات المقدسيين من بيوتهم، ويصادر ممتلكاتهم، ويضيق عليهم، ويهدم عشرات البيوت المقدسية بحجة مخالفة قوانين البلدية، في الوقت الذي تسمح بحرية، بل تسهل، لليهود بناء وتوسعة وصيانة منازلهم، ولا تكترث إسرائيل بالمواقف الدولية المنددة بعملية الاستيطان، والرافضة لسياسة توسيعها أو بناء المزيد منها.
في غفلةٍ من أصحاب الحق المختصمين تنشغل إسرائيل في استهداف أطراف قطاع غزة، وتغير كل يومٍ على شرايين الحياة فيها، فتهدم بعض الأنفاق وتقتل من فيها، وتفسد الطعام والدواء الذي ينقل عبرها، كما تطلق العنان لفوهات دباباتها التي تستهدف كل هدفٍ متحرك على حدود قطاع غزة، وتنشغل أكثر في الضفة الغربية، وتنشط دورياتها وأجهزتها الأمنية في كل مدن وقرى الضفة الغربية، فتداهم البيوت، وتعتقل كل يوم عشرات الفلسطينيين، لتزيد في أعداد المعتقلين التي فاقت الأحد عشر ألف معتقل، وتستغل الغفلة الفلسطينية، وانشغال العرب بالخلاف الفلسطيني، في إحكام الحصار على قطاع غزة، فلا تسمحُ لمريضٍ بالمغادرة للعلاج، ولا لطالبٍ للسفر لاستكمال تعليمه، ولا لعاملٍ ليبحث عن قوت أولاده، ولكن هذا الأمر ما كان ليتم لولا موافقة الحكومة المصرية على ممارسة بعض الضغوط على سكان قطاع غزة، لفرض حلولٍ ومواقف ترى أهمية استجابة حماس لها، إذ يصعب أن نحمل إسرائيل وحدها مسؤولية الحصار المطبق المفروض على قطاع غزة، إذ أن إسرائيل تتحمل المسؤولية الكاملة عن إغلاق كل المعابر الأخرى التي تربط قطاع غزة ببقية أطراف الوطن، ولكن بوابة رفح، بوابةٌ عربية فلسطينية مصرية، والقرار فيها قرارٌ سيادي مصري.
في غفلةٍ من أصحاب الحق من الفلسطينيين المختصمين تحاول إسرائيل أن تمارس القرصنة في أعالي البحار، فتعترض سفناً عربية، وتجبرها على تغيير مسارها، وتخضعها للتفتيش والتدقيق، وتعترض سفناً أخرى، وتتهمها بأنها تحمل أسلحة وصواريخ لدولٍ معادية لها، وتحاول أن تخلق وقائع إتهامية وتحريضية مختلفة، وتحملها إلى روسيا لتطلب منها أن تتخلى عن محاولات تسليح بعض الدول العربية وغيرها من الدول المعادية لإسرائيل، وفي ظل الغفلة العربية والفلسطينية أيضاً تنشط أجهزتها الأمنية وأساطيلها البحرية، فتستهدف قوافل عربية، تتهمها بأنها تحمل السلاح إلى فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، فتقتل أفرادها، وتدمر ما تحمله القوافل، وتضيع أدلة الاتهام، ويعجز العرب عن اتهام إسرائيل وتحميلها المسؤولية.
العرب منشغلون، والفلسطينيون منقسمون، والضائقة الفلسطينية في ازدياد، وإسرائيل يقظةٌ ونشطة، والمجتمع الدولي صامتٌ وعاجز، والزمن لا يعمل لصالحنا بالقدر الذي يخدم إسرائيل، التي تتأهب لمساكنة المرض والتعايش معه، ولا حل لهذه المشكلة، ولا تجاوز لهذه الأزمة إلا بيقظةٍ فلسطينية وطنية، تنطلق من الحرص على المصلحة الوطنية، فتفرض حلاً وطنياً، وتقدم فيها لنفسها ولأهلها تنازلاتٍ "مؤلمة" ، تفرح به أهلها، وتدخل به المسرة إلى بيوتها، وتفرض البهجة والسعادة على أسرنا الفلسطينية المعنَّاة على أعتاب عيد الفطر السعيد، ولا نسمح لإسرائيل بأن تستغل مشاكلنا وهمومنا، لتطبق أجندتها التي تخطط لها منذ سنوات، إذ أنها قد حققت في سني ما بعد أوسلو، وسني الخصومة الفلسطينية ما عجزت عن تحقيقه خلال سنوات الاحتلال الطويلة، وهلم إلى وحدةٍ وطنية، واصطفافٍ داخلي، وتشدد تجاه العدو الإسرائيلي، لنفرض على أجندة حوارنا معه حول جنديه الأسير، شروطنا الوطنية، لنجعل شمس الحرية تشرق على كل معتقلينا الأبطال، وليتمكن آسرانا من معانقة أبنائهم من جديد، وتقبيل أيدي أمهاتهم اللاتي أنجبن لهذه الأمة رجالاً نباهي بهم الدنيا، ونفاخر بعزهم كل بني البشر.
*كاتبٌ وباحثٌ فلسطيني