د. محمد سليم العوا يدعو من أثينا إلى «العيش المشترك» بسلام مع غير المسلمين
د. محمد سليم العوا يدعو من أثينا
إلى «العيش المشترك» بسلام مع غير المسلمين
أمين عام الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين: مرد الحكم بين الناس في شأن الدين هو الله أثينا: عبد الستار بركاتذكر الدكتور محمد سليم العوا رئيس جمعية مصر للثقافة وأمين عام الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أنه لا يجوز أن تنسب أحكام الإسلام الخاصة بالعلاقة بين المسلمين والكتابيين إلى الحكم بكفر هؤلاء، أو تعلل به، فإن هذا ليس من شأن الناس، والقرآن ناطق في سورة الحج (الآيه: 17) بأن مرد الحكم بين الناس في شأن الدين، هو إلى الله تبارك وتعالى وحده. جاء ذلك في ندوة دينية تعتبر الاولى من نوعها، عقدت أخيرا في فندق «بريزيدنت» وسط العاصمة اليونانية أثينا، بدعوة من اتحاد الجالية المصرية. وذكر العوا في المحاضرة التي ألقاها تحت عنوان «الاسلام والعالم» أن العلاقة بين غير المسلمين وبين الله تبارك وتعالى هي العلاقة التي يتصل بها كونهم كفارا أو غير كفار، أما العلاقة بينهم وبين المسلمين حين يشتركون في وطن واحد، أو حين يتعاملون ولو لم يكن يجمع بينهم انتساب إلى وطن واحد، فإنها تحكمهم قواعد الأخوة الإنسانية حين لا يكون في القرآن أو صحيح السنة حكم خاص. وتحكمها نصوص القرآن والسنة حين يوجد مثل ذلك الحكم.
والفقه الصحيح يستصحب مع ذلك كله سوابق الحياة المستمرة بين المسلمين وغير المسلمين بما هو معروف وسجله التاريخ من مشاركتهما في صنع حضارة واحدة وفي الدفاع عنها كلما داهمتها داهمة من عدوها.
وأضاف العوا، أن لا يعكر على هذا الأصل، ما رتب عليه نتائج قول القرآن الكريم في التفريق بين اليهود والمشركين من جهة وبين النصارى من جهة أخرى: «لتجدن أشد الناس عداوة للذين أمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون»، فإن هذا النص القرآني الكريم إذا أوجب مزيد رعاية لاتباع عيسى عليه السلام لا يوجب ـ ولا يجيز ـ الانتقاص من حقوق غيرهم من أهل الكتاب مما قرره القرآن الكريم أو أمرت به أو أشارت إليه السنة النبوية.
وحري بالعلماء والدعاة والعاملين في صفوف الحركة الإسلامية المعاصرة أن يتذكروا حين يكون الحديث مع أهل دارنا من أهل الكتاب، بوجه خاص، ومع أهل الكتاب بوجه عام، قول الله تعالى:"وقولوا للناس حسنا" (البقرة:83)، وقول الله تعالى:"وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون" (العنكبوت: 46).
بامتثال هذه النصوص والقول بمثل ما نطقت به مما يطيب القلوب ويوثق العلاقات بين المختلفين دينا مع بقاء هذا الاختلاف ـ أو برغم بقائه ـ تسود روح الأخوة الإنسانية ويتعاون الخلق في عمارة الأرض ويصبح العيش الواحد حقيقة واقعة.
جاء في محاضرة الدكتور العوا، أن الهدف هو محاولة تأصيل النظرة الاسلامية إلى العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب تأصيلا يمكن، في ديار الاسلام، من العيش الواحد بين المسلمين وغيرهم، ويمكن في غير ديار الإسلام من العيش المشترك بين أولئك وهؤلاء.
ففي الحالة الأولى يستهدف ذلك التأصيل تيسير «العيش الواحد» الذي يعني المشاركة في الحياة داخل الوطن، وحمل همومه والسعي في تخليصه منها، والإسهام في تقدمه ونمائه والرضا بما يحققه أبناؤه له من نجاحات في أي مجال، والعمل يدا واحدة على تخليصه من نقائصه وزيادة كمالاته.
هذا العيش الواحد يعني فيما يعنيه أن الصديق صديق لأهل الوطن كافة مسلميهم وغير المسلمين، وأن العدو عدو لهم أجمعين. وأن الخيرات في الوطن حق للجميع، بقدر ما تشمل المعاناة لأهله بلا استثناء.
وفي الحالة الثانية، حالة العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، وهم ينتمون إلى حضارات شتى وبلاد تعيش ثقافات متنوعة، فإن ذلك التأصيل يكون متجها إلى إنشاء مفهوم «العيش المشترك» وترسيخه، والعيش المشترك يعني قبول الطرفين بفكرة اتساع الدنيا وفضل الله ونعمه فيها لخلق الله كافة، وأن التعاون على استثمار خيراتها وإعمارها هو الغاية الجامعة للناس أجمعين من دون تمييز بينهم في ذلك، بسبب الدين أو المذهب أو الطائفة داخل الدين.
ومن سنن الله في الاجتماع البشري أن يتجاوز فيه أهل مختلف الملل، كما يتجاوز أهل مختلف الالسنة والالوان، وهم جميعا أخوة لأب وأم، وأن تباعدوا بمعاني الأخوة الانسانية طول الأمد بين الأصول والفروع، وهذه الأخوة الإنسانية هي الأساس الذي تقوم عليه علاقات الناس إذا اختلفت بهم أو باعدت بينهم روابط الحياة الأخرى من قرابة أو مواطنة أو دين، ويقول الله تعالي :"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى وجعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"(سورة الحجرات :13)، ليس المقصود بالتعارف هنا هو ذلك المعنى الساذج المتمثل في أن يعرف الواحد اسم الآخر ونسبه، أو يعرف ان هناك أمما وشعوبا، ولكن هو العيش الواحد في الوطن الواحد بين المختلفين دينا، وليشمل معنى العيش المشترك في الأرض كلها ـ وإن اختلفت البلدان والأوطان ـ بين أهل مختلف الأديان.
أهل كل دين يرون غير المؤمنين بدينهم كفارا. بل ان بعض المذاهب والطوائف في الدين الواحد لا يقرون بالإيمان لبعض أهل الطوائف والمذاهب الاخرى داخل الدين نفسه. وهذه خصيصة من خصائص العقائد الدينية، ولا بأس بهذه الخصيصة، إذا لم يكن لها أثر سلبي على العلاقات الانسانية بين الناس، لا سيما بين أهل الاديان المختلفة من أبناء الوطن الواحد. بل اننا ندعو أبناء كل دين إلى التمسك بعروته والثبات عليه لئلا تجالتهم شياطين الإلحاد العالمي الذي لا تقر عنه إلا إذا كفر الناس جميعا بأديانهم ومعتقداتهم.
أمر الكفر والايمان موكول إلى الله تعالى وحده، وأن الحساب على الكفر عقاب وعلى الايمان ثواب مؤجل كله إلى يوم القيامة، وأن الحكمة بين مختلف الاديان لا تكون في هذه الدنيا ولا هو من اختصاص سلطاتها دينية كانت أم مدنية، وليس لأهل عقيدة دينية أن يجاوزوا الفتنة في الدين والإكراه على تغييره مع أهل العقائد الاخرى ولو على سبيل الدعوة الدينية، فإن الدعوة الدينية لا تكون إلا كما قال القرآن الكريم: "أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين" (النحل: 125).
وقد وضع القرآن نفسه دستور العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين ـ أيا كانت ديانتهم ـ في قوله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم و تقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم و ظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون" الممتحنة: (8 ـ 90)
والمسلم مطالب بالبر والقسط وغير مسموح له بهما فقط بدليل قوله تعالى "إن الله يحب المقسطين"، كما مطلوب من المسلم ألا يتخذ أولئك الذين يحاربونه بسبب الدين ويخرجونه من داره (وطنه) أو يساعدون على ذلك أولياء. والولاية هي النصرة، والنهي عن اتخاذهم أولياء ليس بوصفهم شركاء وطن أو جيران سكن أو زملاء عمل أو رفاق دراسة أو أصدقاء حياة، ولكنه عن توليهم، أي مناصرتهم، بوصفهم جماعة معادية لجماعة المسلمين تحاربها بنفسها أو تمالئ عليها أعداءها المحاربين لها.
وأوضح العوا في حديثه أن هذا النهي تتضح في أن العلاقة التي يجب أن تكون بين المسلم اليوم ـ أيا كان موطنه ـ وبين اليهود الصهاينة الذين يحتلون الأرض العربية في فلسطين ويقتلون أهلها ويشردونهم بإخراجهم من ديارهم بغير حق، فهؤلاء بالرغم من الضرورات التي تحيط بتصرف بعض الحكومات ـ تجب معاداتهم، وإعلان البغض تجاههم والوقوف موقف الإنكار لكل ما يفعلون. ولا يجوز أن نعقد معهم الصلات التجارية والاقتصادية والثقافية التي تعرف في المصطلح السياسي المعاصر باسم )التطبيع)، فإن ذلك كله ـ مهما صغر حجمه ـ من الموالاة المحرمة بنصوص القرآن الكريم.
أما اليهود الذين لا يعيشون بين هؤلاء المحتلين، من يهود عرب وغيرهم، والذين لا يؤيدون صنيعتهم ـ وهم موجودون ونشطون في كثير من بلاد الدنيا سوى فلسطين المحتلة ـ فنحن لا نعاديهم ولا نحاربهم ولا نمتنع عن التعامل المعتاد معهم إذا دعت إليها ظروف الحياة.
وذكر العوا أن لا يجوز للمسلم أن يقعد ـ مجرد قعود ـ مع المستهزئ بدينه و لو كان منتسبا إليه، ولا يجوز له، من باب أولى، اتخاذ المخالفين في الدين أولياء ـ والكلمة تعني أصدقاء أو ندماء ـ إذا أتوا الخطيئة نفسها.
أما الصلة مع المسالمين، فتنحسر في أن غير المسلم الذي لا يحارب المسلمين، ولا ينحاز إلى محاربيهم، ولا يسلك مسلك السفهاء فيهزأ من دينهم و يتخذه لعبا، مودته مندوب إليها في القرآن، و قد تكون هذه الصلة واجبة شرعا، وتكون الصلة الطيبة المستمرة المتكررة مظاهرها، بينه وبين المسلم، فريضة دينية على المسلم.
وهذا شأن الزوجة الكتابية وأهلها هم أخوال المسلم وجدته وجده.. وهكذا، وكلهم من ذوي الأرحام الذين صلتهم فريضة، وقطيعتهم معصية، ومودتهم قربة يراد بها وجه الله، وهجرانهم إثم يوجب سخطه وغضبه.
وفي ختام الندوة قدم الدكتور العوا النصح إلى المسلمين المهاجرين الذين يعيشون في بلدان غير بلدانهم من بلاد أوروبا وغيرها، مشددا على أن أحكام الإسلام تنطبق على المسلمين أينما كانوا، سواء كانوا في دار يغلب الإسلام على أهلها أم كانوا أقلية أو أفرادا في دار غالبية أهلها غير مسلمين.
موضحا أنه لا يجوز لأحد أن يقبل أو يعمل بالفتوى التي تذهب إلى انحسار بعض أحكام الإسلام العملية على الافراد، ما داموا يعيشون في دار لا يغلب عليها الاسلام. لأن هذا القول هدم للدين كله بتسويغ إهمال بعضه. وقد عاب الله تعالى في محكم كتابه على اليهود أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض. ولا يجوز لأحد أن يستحل أموال غير المسلمين في دارهم بزعم أنها دار حرب. ومن كان هذا رأيه فلا يحل له العيش فيها لأن ما أدى إلى الحرام فهو حرام. والمسلم مسؤول عن الوفاء بعهده، وقد دخل تلك الدار مشترطا عليه أن لا يخالف قوانينها ونظمها، فإما أن يعمل بعهده ويفي به وإلا أن يغادرها. وليس له أن يحل فيها الحرام أو يحرم الحلال.
وأشار الدكتور العوا إلى أنه رأى في بعض بلاد الغرب شبابا من المسلمين يستبيحون أن يحتالوا لاستخدام وسائل المواصلات العامة، ووسائل الاتصالات من هواتف وغيرها، ومواقف السيارات ذات الأجر، وأمثالها من الخدمات، من دون أن يدفعوا مقابلا لذلك كله.وايضا هناك بعض اللاجئين يسجلون أنفسهم لدى السلطات المحلية في عدة عناوين لكي يحصلوا على المعونات المخصصة للاجئين مرات عدة، مستغلين في ذلك تصديق تلك السلطات لكل من يتقدم إليها باعتباره لاجئا سياسيا. موضحا أن هذا كله وأمثاله من أكل المال بالباطل منهي شرعا. ولا يحل منه شيء، وفاعله آثم إثما صريحا لا تأويل له. وقد شارك في الندوة مئات المسلمين من الجاليات العربية المقيمة في أثينا، بحضور سفيرة مصر لدى اليونان الدكتورة ماجدة شاهين، وعدد من سفراء وقناصل الدول العربية والاسلامية المعتمدين لدى اليونان، ورئيس اتحاد الجالية المصرية في اليونان محمد السمنودي ومجلس إدارة الجالية الذين قدموا الدعوة للدكتور العوا بتكرار حضوره إلى أثينا.