أفكار في الإصلاح والتغيير (6)

أفكار في الإصلاح والتغيير (6)

التدرّج والتخصُّص

د.فواز القاسم / سورية

[email protected]

إن من يرزقه الله نعمة التذوق للمنهج القرآني العظيم والمنهج النبوي الشريف ، يلحظ جلياً اعتمادهما على قانون ( التدرج ) و ( المرحليّة ) في الإصلاح والتغيير ، فلقد أنشأ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، أفضل جماعة في الوجود ، وبنى أعظم  دولة في التاريخ الإسلامي، كل ذلك في غضون ربع قرن . 

ولقد أدى غياب فهم وتطبيق هذا القانون في عصرنا الراهن ، إلى حدوث مفسدتين عظيمتين على الأقل :

أولاهما : مفسدة اليأس والسلبية ، بسبب الخلل في فهم وتفسير بعض النصوص القرآنية ، مثل (( لا يكلِّف الله نفساً إلا وسعها )). فلقد احتج بعض السلبيين بهذه الآية وأمثالها من النصوص الشريفة ، وسوّغوا كسلهم وسلبيّتهم ، بحجّة طول الطريق ، ووعورته ، وبعد الشُّقَّة ، وكثرة العقبات ، وقلة الإمكانات ... فاستسلموا لليأس ، وانصرفوا عن العمل.!!!

والثانية : مفسدة التعسّف والاستعجال ، حيث فهم البعض الآخر من قوله تعالى : (( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟)) أنهم يجب أن ( يأخذوا الإسلام جملة ، أو يدعوه جملة ) !  

متجاهلين منهج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، الذي فرَّق بين : ( الإيمان بالكلّ ) نعم ، ولكن ( العمل بالممكن) .

وبين هذه المفاهيم القاصرة والمغلوطة ، ضاعت الأوقات ، ونفدت الأعمار ، وبقيت الأمة تراوح مكانها ...

فلا نحن طبَّقنا الكلَّ ، ولا حافظنا على الجزءَ .

ولا أصلحنا النفوس ، ولا ربينا الأجيال ، ولا حسَّنا المعاش ، ولا طوَّرنا الاقتصاد ، ولا حرّرنا البلاد .

ولا وحَّدنا الأمة و أقمنا الولايات الإسلامية المتحدة ... ولا حتى حافظنا على مجتمعاتنا ، وعرفنا كيف نربي أبناءنا .!!!

وبقينا نتراشق بالتهم ، وتعبنا من الجدل العقيم ، وقرفنا من الشعارات البراقة ، واليافطات العريضة ، واكتوينا بنار الخلافات والانشقاقات والشرذمات ، وانسحبنا واحداً بعد الآخر ، من ساحة العمل العام .

بينما أمتنا تتمزَّق ، وشعوبنا تُهان ، وحرماتنا تُداس ، وأعراضنا تُنْتَهك .

وكل ذلك ، بسبب غياب القادة القدوة ، والمجددين الربانيين ، وأولي الالباب من صفوفنا ، وتغييب فكرة ( التدرُّج ) من مناهجنا ، وتعطيل قانون ( المرحليّة ) في تطبيقاتنا .

فلقد حُقِّرت في أذهاننا هذه القوانين ، ودعينا إلى القفز من فوق الأسوار ، وأغلبنا لم يقفز من فوق عتبة بيته ، فكانت النتيجة أن تكسَّرت أرجلنا ، وتحطَّمت عظامنا ، وتهشَّمت رؤوسنا ، وصار الفشل والتخبّط قدرنا .

وانتهى أغلب العاملين منّا ، إما إلى اليأس والإحباط والسلبية ، أو إلى التردي في مهاوي التطرف الذميم ، والسقوط في مستنقعات الحروب الأهلية المقيتة .

أخيراً … إذا كانت لي من كلمة أختم بها هذه الدراسة ، فإنني أقول : بأنني لست يائساً _ شهد الله _ من أمتي ، ولست ناقماً _علم الله _ على دعوتي ، ولست حاقداً _ وأيم الله _ على إخوتي ، ولست قانطاً _ بفضل الله _ من رحمة ربي …

ولكنَّها زفرات قلب مترع بالمرارة أرسلها ، وصرخات ضمير مثقل بالهموم أطلقها ، وآهات وجدان يرفض الذلَّ ، ولا ينام على ضيم . 

وها أنذا ، أقدّم هذه الأفكار ، وأقدم بين يديها كل ما وهبني الله من طهر وإخلاص ، رافعاً يديَّ إلى السماء ، شاخصاً ببصري في الفضاء ، متوسلاً ، ضارعاً ، ذليلاً ، إلى رحمن السماوات والأرض ورحيمهما ، الذي يحي الأرض بعد موتها ، ويحي العظام وهي رميم ، أن يهيء لهذه الأمة ، من الرجال الشرفاء ، والدعاة الأصلاء ، والقادة العظماء ، والمجدِّدين القدوة ، ليأخذوا بأيديها ، وأيدي أبنائها ، إلى آفاق العزَّة ، وقمم المجد.

ولي أمل كبير ، بعد فضل الله  وكرمه ، بجهود الخيِّرين والمخلصين، من أبناء أمتي ، وهم كثر والحمد لله  .

ولي أمل خاص _ بعد فضل الله _  بطلائع الأمة المجاهدة في العراق وفلسطين وغيرها من ساحات الأمة المجاهدة ، في أن تكون _ بفضل الله وتوفيقه _ المشعل الذي يهدي الأمة في ليلها البهيم ، والقدوة التي تقود العرب والمسلمين ، لإعادة دورهم القيادي والريادي ، بعد كلِّ ذلك الانقطاع الطويل . بسم الله الرحمن الرحيم

(( ويسألونك متى هو !؟ قل : عسى أن يكون قريباً )). صدق الله العظيم