بانتظار السيناريو الأخطر: ما العمل؟

بانتظار السيناريو الأخطر:

ما العمل؟

د.أحمد محمد كنعان

لقد ظلت "الخلافة العثمانية" على مدى عدة قرون تحمي حوزة الإسلام والمسلمين ، لاسيما في المنطقة العربية التي تضم أغلبية مسلمة ، بل كان للخلافة اليد الطولى في أوروبا ومعظم دول العالم القديم ، فكان الجميع يحسبون لدولة الخلافة ألف حساب ، ولهذا ما إن بدأت تلوح بوادر المرض على العثمانيين ( الرجل المريض كما أشاعوا ) حتى بدأت دول أوروبا الاستعمارية تخطط وتدبر للإجهاز على ما تبقى من دولتهم وسلطانهم ، وكان من أولويات هذه الدول إنهاء الوجود العثماني في المنطقة العربية ووضع هذه المنطقة الاستراتيجية تحت الهيمنة ، خشية أن تنهض وتعيد سيرة الخلافة الإسلامية من جديد .

وهكذا بدأ المشروع الأوروبي بإشعال الحرب العالمية الأولى (1914 ــ 1918) التي أنهت الوجود العثماني في المنطقة العربية ، ثم جاء "مصطفى كمال أتاتورك" ليكمل الخطة ، فأعلن إنهاء الخلافة رسمياً في عام 1924 ، وعمل جهده على محو كل أثر للإسلام والعرب في تركيا ، وجعل البلاد تنكفئ على نفسها وتدخل مرحلة من العطالة والتخلف استمرت زهاء ثمانين عاماً .

إلا أن الأيام دول كما يقولون ، فالرجل المريض لم يعد اليوم مريضاً ، فقد بدأت تركيا تستعيد صحتها وقوتها بفضل الله تعالى ، ثم بفضل ثلة من المخلصين الذين نذروا أنفسهم ليعيدوا تركيا إلى مجدها التليد ، ودورها الريادي في دعم قضايا العرب والإسلام والمسلمين والمستضعفين في الأرض ، وقد استطاعت بالفعل خلال زمن قياسي قصير جداً أن تنهض مجدداً لتصبح في مركز متقدم بين الدول ، وعلى سبيل المثال بعد أن كانت تركيا ترزح تحت ديون صندوق النقد الدولي أصبحت اليوم تقرض الصندوق بالمليارات ، وبعد أن كانت تستورد كل شيء باتت تصدر منتجاتها المتنوعة إلى 200 دولة ، وارتفع دخل الفرد فيها 4 أضعاف خلال 10 سنوات فقط ، وصار عندها مصانع ضخمة تنتج مختلف أنواع الصناعات الخفيفة والثقيلة .

ولا شك بأن هذا المشهد الذي أصبحت تركيا تمثله اليوم يثير لدى الساسة الغربيين مخاوف شتى ، ويعيد إلى ذاكرتهم صورة المجد الغابر الذي كانت عليه تركيا في يوم من الأيام ، وإن أخشى ما نخشاه أن يعيد هؤلاء الساسة مشروعهم السابق من جديد فيعملوا على إضعاف تركيا وإجهاض نهضتها القوية الراهنة ، تمهيداً للخلاص من خطرها المحتمل على مشاريعهم الاستعمارية في المنطقة .

وبالفعل فقد شهدنا خلال السنوات القليلة الماضية بوادر تنبئ بوجود هذه النية المبيتة لدى الغرب ، وليس عنا ببعيد محاولات الانقلابات الفاشلة العديدة التي أقدم عليها بقايا العسكر القديم ، وكذلك مشاهد المظاهرات والتخريب في "ميدان تقسيم" وغيرها من ميادين اسطنبول ، ما يجعلنا نرى بوادر سيناريو خطير ، بل ربما كان السيناريو الخطر ، الذي يخطط له اليوم ساسة الغرب ومن ورائهم الصهاينة لضرب تركيا الواعدة ، ونرى أن خطوات هذا السيناريو قد بدأت بالفعل وأنه يمضي على النحو الآتي :

1- إنهاك الدول العربية المجاورة لتركيا ، وتدميرها ، تمهيداً لتحويلها الى دول فاشلة حتى لا تستطيع تقديم أي دعم لتركيا عندما يحين الوقت ويبدأ المخطط للضربة القاضية ، وقد بدأت هذه الخطوة أولاً بإخراج مصر من الساحة بانقلاب السيسي ، ثم ما يحصل اليوم في كل من سورية والعراق اللتين على وشك أن تصبحا دولتين فاشلتين لا تستطيعان تقديم أي عون لتركيا فيما لو احتاجت ذلك في محنتها المتوقعة .

2- يبدو أن مخطط "الفوضى الخلاقة" الذي هندسه دهاقنة الساسة الغربيين سوف يواصل تدميره لما تبقى من الدول العربية التي قد تفكر بالوقوف إلى جانب تركيا إذا ما لزم الأمر ، فإذا ما زلزلت الفوضى الخلاقة هذه الدول ــ وهو ما تشير إليه الدلائل كلها ــ فإن تركيا تمسي عندئذ مكشوفة تماماً ، لا سند لها ولا معين .

3- ولعل أخطر ما في هذا السيناريو المحتمل أن ساسة الغرب عملوا خلال سنوات ماضية ومازالوا يعملون بجد على تقوية إيران ــ العدو التاريخي لتركيا ــ وبسط نفوذ الإيرانيين على مساحات واسعة في المنطقة العربية المتاخمة لتركيا ، من أجل شل حركة هذه المنطقة ومنعها من تقديم أية معونة لتركيا إذا ما وقعت الواقعة ، مستغلين في ذلك طبيعة إيران الحاقدة على المنطقة ، فمن المعلوم تاريخياً أن إيران منذ أمد بعيد تتلمظ وتتأهب وتتحين الفرصة للانتقام من العرب والمسلمين ، وأولهم تركيا ، ما يجعلنا نتوقع أن تكون إيران هي رأس الحربة في هذه المؤامرة التي تحاك خيوطها اليوم لا بليل ، بل تحت ضوء النهار ، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .

4- إن الحقد التاريخي الذي يحرك إيران ، ويدفعها لتسير عمياء على غير هدى في هذه المؤامرة الغربية ، لن تنجو من الكارثة كما يخيل لآياتها العظمى ، فالواضح أن هذا السيناريو الذي خططه دهاة الغرب بكل إحكام وخبث ينطوي على ضربة مزدوجة تحتوي الطرفين ، تركيا وإيران ، وتقضي عليهما في آن معاً ، فهل تعي إيران ما يراد بها .. بل بنا معاً ؟!

5- إذا ما سار السيناريو على هذه الصورة ووصلنا إلى المشهد الأخير من مشاهد الفوضى الخلاقة ، فإننا سوف نصحو عما قريب على منطقة مدمرة تماماً ، تحيط بالكيان الصهيوني ، الذي سيجد نفسه عندئذ القوة الأكبر بل القوة الأوحد في المنطقة ، وبهذا تكون الفوضى الخلاقة قد أثمرت للغرب وللصهاينة كل ما تمنوه ، وأثمرت لنا كل الحنظل الذي كسبته أيدينا بمواقفنا السلبية وفشلنا حتى اليوم من الوصول إلى مشروع عربي إسلامي قادر على مواجهة الفوضى الخلاقة وأخواتها اللواتي يبدو أنهن قادمات في ليالي حوالك قد تلقي بالعرب والمسلمين إلى غياهب التاريخ .

واليوم ونحن نرى الحالة العربية التي تعيش حالة من التمزق والشتات ، أعتقد أن تركيا بوضعها الفاعل المتقدم الراهن هي الأولى والأقدر على رعاية هذا المشروع ، الذي إن نجحنا بتحقيقه قبل فوات الأوان نجونا مما تبقى من المشاريع الاستعمارية التي ما فتئت تحاك ضدنا ، ونجت تركيا التي باتت اليوم تمثل الأمل الكبير ، وأكاد أقول الوحيد ، للعالمين العربي والإسلامي ، بعد أن تخلى عنا وعنها القريب والبعيد .