يشتهون الحصاد بلا حرث!!!
زهير سالم*
قبل مائة عام مضت كانت الشام ولاية عثمانية. أي أن تركية وسورية كانتا جزء من إمبراطورية واحدة هي الإمبراطورية العثمانية. كانت حلب واسطنبول وأزمير تشكل لآلئ التاج العثماني. في عشرينات القرن الماضي حدث الانهيار الإسلامي الكبير، وكان حظ اسطنبول المسلمة من هذا الانهيار أكبر من حظ دمشق وحلب وأخواتهما السوريات...
تابعنا في الحرب الكمالية على الإسلام في تركية سياسات استئصالية شمولية شردت الآلاف من علماء الخلافة الإسلامية نذكر منهم الشيخ مصطفى صبري صاحب كتاب موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، والشيخ محمد زاهد الكوثري صاحب المقالات، والشيخ طنطاوي جوهري صاحب جواهر القرآن. وهؤلاء جميعا نزلوا مصر المحروسة وأقاموا فيها. وكان بيننا في حلب وفي دمشق لفيف من هؤلاء العلماء، كان الأمر سهلا قبل أن تتصلب قوانين الجنسية والإقامة بين أبناء الأمة الواحدة، ألا تعجب اليوم أن يُلمز ابن الشام في مصر بأنه أجنبي أو العكس!!!
في تركية الكمالية انقلبت كل كلمة ( لا ) ينطق بها عالم إلى حبل مشنقة يعلق عليه، كما يشبه أديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي ( راجع في وحي القلم كفر الذبابة وسر القبعة )
وامتدت الحرب الكمالية على الإسلام حتى وصلت إلى القبعة على رأس الرجل و(اليشمق) على رأس المرأة ، ثم امتد إلى حرف القرآن فأهدر مدبر تلك الحرب ومسعرها باسم الحداثة تراثا للمعرفة التركية عمره ألف عام، وأمعن أكثر ليصادر كلمة الله أكبر على شفاه عرائس اسطنبول الرشيقات. كانت الغاية والهدف إبعاد تركية إنسانها وبنيانها عن الإسلام وما يمثله من حضارة ومكانة وعلاقات.
وكان الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي واحدا من علماء المسلمين، هل يصح لي أن أقول إنه كان كردياً أو تركياً أو عربياً؟! أو أنه كان كل هؤلاء في رجل واحد، وبديع الزمان العربي ليس صاحب الخطبة الشامية تلك العصماء التي ألقاها على منبر الأموي فقط، والتي تضمنت خطة عمل لحركة المسلم المعاصر فقط، بل هو صاحب (المثنوي العربي) المنوه بالمثنوي الفارسي لمولانا جلال الدين المولوي بكل ما في الديوانيين من جلال وجمال.
كانت بداية بديع الزمان منفتحة على العلم والمعرفة، ثم خاض جهادا طويلا في بلاد القفقاس، أوقعه في الأسر وانتهى به إلى سبيريا عند الروس مدافعاً عن حمى الإسلام، ثم تنقل بعد تخلصه من الأسر إلى سجون تركية الكمالية العلمانية ، رغم أنه رفض دائما أن يرفع السيف على بني أمته، هكذا كان بديع الزمان الكردي يتحدث عن الترك والعرب إنهم أبناء أمته، في سجون الديمقراطية العلمانية كتب العالم المسلم المسالم رسائل النور مؤسسا لحركة الإسلام الحديث في تركية الحديثة، في ظل الذئب الأغبر وخلفائه، الذين جاهدوا مثل البلاشفة والصليبيين ليسدوا كل المنافذ على حركة الإسلام. كتب بديع الزمان وأسس وتحرك وحرّك تحت وطأة الاستئصال والإقصاء والاضطهاد العلماني ا ليؤسس في النصف الأول من القرن الماضي للإسلام الحديث في تركية الحديثة، قاعدة حيوية ولتتقدم هذه التجربة في تجلياتها حتى تسلمنا أخيرا إلى أداء حزب العدالة والتنمية والذي ستظل دائما بحاجة إلى المراجعة وإلى التقويم وإلى التأكد من سلامة القصد وصوابية المسير.
نجاح التجربة النورية أو التنويرية في تركية بوأت تركية المكانة التي هي فيها اليوم. وأخرجت تركية من حالة الانهيار الاجتماعي والاقتصادي التي كان يمرّغها فيها لا نقول العلمانيون بل نقول غيلان الاستبداد العلماني وجراد الفساد الاقتصادي بضروبه وأشكاله.
كانت نقطة بداية بديع الزمان أكثر صعوبة من أي حالة إسلامية أخرى، كانت القوانين الكمالية أشد صرامة، وكان الرقيب الخارجي أشد حذرا وخوفا. ومع ذلك نجح قوم وتعثر آخرون!!! حريا بنا أن نبحث عن السر.
تجربة بديع الزمان بتجلياتها المختلفة مرشحة اليوم لترسم طريق الخروج لأمة الإسلام في كل مكان. تجربة شعارها ليكن الدعاة إلى الله عشب الأرض، ينبتون على كل كف من الطين نضرةً وحياةً. دعاة لا يخافون غيلان التصحر ولا يرهبون جراد الفساد، لا يقعدهم يأس ولا يستفزهم طمع، إرادتهم البناء وديدنهم العمل.
حجم الانهيار الذي زلزل البنيان الإسلامي في تركية كان أقوى منه في أي قطر آخر، ولكن النهوض من العثار كان في تركية الأبلغ والأوضح.
لقد كان لدى بديع الزمان وتلامذته الكثير الذي يتشكون منه، أو يبكون عليه. الأرامل والثكالى وحدهن فقط هن اللائي أو اللواتي يقضين العمر ندبا ونواحا. وإذا كنت غير قادر على فرض شروط اللعبة أو تحسينها فالعب، العب ولا تنتظر ولا تتعلل، في كل مكان ضيق سعة للاعب أو عامل واثق، العب أو اعمل إن كنت واثقا حقا بربك ثم بمنهجك ثم بنفسك، العب حتى على شروط الآخرين. (وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) هكذا تجنون النجاة.
تلك هي خلاصة التجربة النورية، العب، أو اعمل ولا تنتظر المطر أو الصحو ولا تخف الحر ولا البرد. ولعب أبناء الإسلام في تركية أو عملوا على شروط الآخرين المجحفة وانتصروا... !!!
كثيرا ما يُظهر البعض إعجاباً شديداً بالتجربة الإسلامية قي تركية. ويتغزلون طويلاً بحصادها ورجالاتها. ولكن دون أن يتوقفوا عند مقدماتها وفصولها وعند الأثمان الأليمة التي دفعها و ما يزال يدفعها مسلمو تركية الراشدون منذ ما يقرب من قرن. هؤلاء المسلمون الذين عاشوا عصرهم وعرفوا كيف يجددون من خلاله أهدافهم ليعبروا إلى مقاصدهم، و عرفوا وسائلهم لينجزوا وعودهم. مسلمون لا تنقصهم الحمية ولكنهم أدركوا أن الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب، والذي يقود انفعاله ولا ينقاد له.
وأهم من كل ما سبق مسلمون أدركوا أن عبد الحميد رحمه الله لم يعد في يلدز. وأن جريرا التميمي صاحب إن العيون التي في طرفها حور لم يعد قادراً على أن يرفع رأسه ليقول مشيراً إلى ابن مروان:
هذا ابن عمي في دمشق خليفة لو شئت سـاقكم إليّ قطينا
رجال أنشدوا مع ابن زيدون صاحب
أضحى التنائي بديلا من تدانينا وناب عن طيب لقيانـا تجافينـا
أنشدوا معه قوله:
ما على ظنيَ باس يجرح الدهر وياسو
وكذا الدهر إذا ما عـز ناس ذل ناس
حقائق رفض كثيرون استيعابها والتعامل معها فأوردوا أهليهم الموارد.
بعض الذين يظهرون الإعجاب الشديد بالتجربة التركية المتقدمة ما أسرع ما يعلنون النكير الشديد عند أي محاولة لمقاربتها. قوم يعجبهم حصاد من غير زرع، ونجاح من غير جهد:
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
ازدواجية بين النظري والعملي تجعل العقول مطايا للنفوس.وتنسى أنه لا بد دون الشهد من إبر النحل. وأن النصر الذي حققه حزب العدالة ليس وليد لحظة، وليس ناتج توجه الأمنية، أو الإرادة بكلمة كن فيكون. إنه ناتج مقدمات وحسابات سليمة وجهد وصبر وكظم للغيظ وحسن تأت إنه نتاج قرن من الحركة المبصرة الرشيدة.
(*) مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية