أهُوَ حقا مجلس حكماء؟
عبد العزيز كحيل
من حقّ العرب والمسلمين – بل من واجبهم - أن يتوجّسوا ريبة من كلّ مبادرة دينية سياسية تصدر عن حُكّامهم في هذه الأزمنة المتأخرة ، خاصة تلك الأنظمة المستبدّة المنحازة لمخططات أعداء الأمة من جهة والمضيّقة أشدّ التضييق على مواطنيها في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصّة من جهة أخرى ، إذ لم نرَ خيرا يخرج من قصورهم ، ولا قصدوا من مشاريعهم خدمة الأمة ولا الدين ، لذلك لم يُعِرْ مسلم محبّ لأمته ودينه اهتماما لإعلان إنشاء ما سمّي " مجلس حكماء المسلمين " في دولة الإمارات بل زاده ذلك الإعلان همّا نظرا لخصوصية طبيعته الحقيقية وهوية من هم خلف إنشائه وأغلبية أعضائه المؤسسين.
*مجلس ضرار ؟ تبادر إلى الجميع من الوهلة الأولى أنه مجلس ضرار لم يتمّ إنشاؤه إلا لمضايقة الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين برئاسة الشيخ يوسف القرضاوي ، تلك الهيئة المشهورة باستقطاب العلماء المستقلين عن الحكومات والمعروفة بتأييدها المبكّر والمتواصل للحراك الشعبي ضدّ الاستبداد وللربيع العربي في جميع محطاته ، فهؤلاء " الحكماء " المجتمعون في دولة الإمارات إما وجوهٌ بارزة في المنظومة الحكومية ، مثل شيخ الأزهر – العضو البارز في حزب حسني مبارك - ومستشاره الذي يتموقع من قديم ضدّ الشيخ القرضاوي وجماعة الإخوان بسبب وبغير سبب، أو هم أسماء نكرة لا يعرفها أحد ، إلا رجلين اثنين من المغرب العربي احتار المراقبون في تواجدهما في هذا التنظيم ، هما الشيخ عبد الله بن بية والدكتور عبد الرزاق قسوم رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ، وتساءلوا هل تبارك الجمعية العريقة الثورة المضادّة على الربيع العربي والحركات الإسلامية الأصيلة وانتقلت إلى المربّع الحكومي؟
*هيئة حكومية بامتياز : دأبت الأنظمة العربية على تأسيس هيئات دينية مدجّنة أليفة تحسن الانتصار لتوجهات الحكام العلمانيين والانتقاص من معارضيهم الإسلاميين بصفة خاصة بالفتاوى الجاهزة وبثّ ثقافة التخدير ، ويبدو أنّ "مجلس الحكماء " لا يخرج عن هذا النمط ، فهو تعبير عن موقف واضح في الانحياز لانقلاب مصر العسكري على الشرعية ولاختيارات دول الخليج السنية المناهضة للمطالب الشعبية بالحرية والحقوق والحياة السياسية العصرية ، أي – بعبارة أخرى – هو رفض لما يسمونه " الإسلام السياسي " من جهة والخيار الديمقراطي من جهة أخرى ، وهذا يقتضي بالضرورة السير في ركاب الصهيونية العربية والتفاهم مع الدولة العبرية الغاصبة والتبرؤ من المقاومة والجهاد وإدانة جميع أشكالهما ، وعضوية المجلس إقرار صارخ لفساد تلك الأنظمة الخليجية المترفة المستبدة ، وهو إقرار يتدثّر بغلاف الحكمة والعقلانية والرزانة على أساس أن الشعوب المحبة للإسلام والمطالبة بالحرية دهماء متهمة بالتهوُّر والفوضوية والعبثية ، وأيّ حكمة عند " علماء " يزيّنون الباطل وينحازون إليه ويدافعون عنه و لا يبرحون مربّع شيطنة خصوم الحكام ولو كانوا دعاة ربانيين تشهد لهم الدنيا بالصلاح؟ وماذا عسى أن يحمل هذا المولود المشوّه في طياته من خير وماذا يغري فيه حتى تتبناه الأمة أو تثق فيه؟ فهي تهفو إلى الصعود وهو لا يؤمن حتى بالصمود ، وهي تنتظر الحكام الصالحين وهو نشأ تحت عباءة أمراء الطوائف المعاصرين والجنرالات أمثال السيسي وضاحي خلفان ، وهي تريد الحكومات الراشدة وهو يرى أن أنظمة الخليج ومصر تمثّل الخلافة الراشدة.
*تساؤلات مشروعة : هل عُرفت سياسة أبو ظبي بالانتصار لقضايا الإسلام والمسلمين حتى تؤسّس هذا المجلس ابتغاء لوجه الله ؟ ما موقفها من القضية الفلسطينية ؟ أليست عداوتها لفصائل المقاومة – وخاصة حماس – شيئا مشهورا بينما تربطها بالصهاينة علاقة وُدّ حميمية ؟ ألم تحوّل دبي إلى ماخور عالمي حلّ محلّ بانكوك كعاصمة كونية للدعارة ؟ هل أنكر عليهم شيخ الأزهر وزملاؤه في المجلس هذه الانتهاكات الصارخة لحرمات الله ؟ ألا يعلم " علماء " المجلس أن الإمارات فتحت معتقلات رهيبة لكلّ صاحب رأي حرّ مهما كان مسعاه سلميا وذلك منذ مدة طويلة ، وقد عمّ فيها الاعتقال بالشبهة والتعسّف والمحاكمات الصارخة الظلم ؟ كلّ ذلك تتناوله المنظمات الحقوقية العربية والعالمية بالتنبيه والتنديد ، فهل سمع أعضاء المجلس بهذا وهل يقدرون على إنصاف المظلومين أم أنهم يؤيدون كلّ ذلك كما أيدوا انقلاب مصر وما تلاه من مذابح ؟ هل يظنون أن الشعوب العربية لا تعرفهم أو ستنسى مخازيهم ؟ وما يقال عن الإمارات ينسحب بالضرورة على السعودية والكويت وعمان التي تشكلّ مع عسكر مصر " محور الاعتدال " الذي يضحي بالدين والشرف والموارد الوطنية من أجل البقاء في السلطة وإرضاء الصهاينة و" المجتمع الدولي " ، هل سيعرّي المجلس الموصوف بالحكمة " الصهيونية العربية " المتبجّحة أم انه مباركُها باسم الإسلام ؟
*مستقبل المجلس : أعتقد أنه وُلد ميّتا لأنه لا يستحق الحياة أصلا ، وهو ضدّ منطق الأحداث ، فهو رهان خطأ لأن الساحة العربية في حاجة إلى منبّهات لا إلى مزيد من المنوّمات ، لكنّ الحماقة أعيت من يداويها ، واتهام المجلس بسوء التسديد أمرٌ متيقّن لديّ ، لكني أخشى سوء النية لدى أكثر أعضائه ، فما بال بعض الأفاضل يحسنون الظنّ به وينظمّون إليه وهو ليس على حاله نُكرٌ؟ نحن نأمل التحرّر من عبودية الطغاة ، ومن الواضح أن مؤسّسيه يقنّنون الطغيان ويمدّونه بالمسوّغ الديني لتبقى الشعوب مجرد عبيد بلا أغلال في سجن كبير، ربما فيه الرفاهية الحلال والحرام ولكن ليس فيه إسلام ولا كرامة إنسانية.
إنّ رجال الدين – بالمفهوم الكهنوتي – الذين يتشكّل منهم هذا المسخ من الهيئات أبعدُ الناس عن الحكمة المعروفة في لغة العرب وفي الاصطلاح الشرعي ، ولو كان لهم منها نصيب لوقفوا في وجه انقلاب مصر بدل تأييده ضمن جبهة هجينة فيها الكنيسة وغلاة العلمانيين ورموز الفساد ، ولن يكونوا أهلا للنصيحة والبيان وهم أنصار السلامة والاستلقاء ، يعدّون الاستبداد قدرا مقدورا بل جزاء للأمة المارقة العصيّة ، فكيف نثق بهم ؟ إننا نحب العلماء إذا كانت لهم عقول وضمائر في آن واحد ، ونحبهم عندما يكون انتماؤهم وولاؤهم للأمة فإذا صار انتماؤهم وولاؤهم للأنظمة الاستبدادية على حساب الإسلام والشعوب فإننا نتبرّأ منهم كما أُمرنا شرعا.