مراجعة محتويات ومناهج تعليمنا الديني
مراجعة محتويات ومناهج تعليمنا الديني
سعيد بنسعيد العلوي *
يدور في الساحة العربية الإسلامية حديث كثير حول محتوى التعليم الديني ومناهج ذلك التعليم في مدارس التعليم الإعدادي والثانوي وربما شمل ذلك الحديث في امتداده المعاهد المتوسطة والعليا. وما أكثر ما نقرأ في صحفنا السيارة ونشاهد في بعض الندوات التلفزية، ونسمع في مجالس المثقفين دعوة إلى ضرورة ذلك الإصلاح واقتراحات، صريحة ومباشرة حيناً قليلاً، وضمنية غير مباشرة أحياناً عديدة.
كل تلك الأحاديث تستهدف تمثل صورة للاسلام يكون بها تعبير عن أوجه التسامح، والقول بتكريم الإنسان والاعتراف بحقوق معلومة للطفل وللمرأة، والدعوة إلى إعمال العقل، وإقرار مكانة المعرفة والحوار، وبالتالي إقرار كل ما يكون به الدين الإسلامي بعيداً عن الوجه البئيس الذي يقدمه به دعاة الغلو والتطرف وأنصار العنف وإراقة الدماء، وهذا من جهة أولى مثلما يكون الإسلام، وقد تم إدراكه على حقيقة معارضة للصورة الاختزالية الفقيرة التي تصيره إليها وسائل الإعلام في بعض دول الغرب الأوروبي وفي الولايات المتحدة، وهذا من جهة ثانية. والملاحظة العامة هي أن هذه الأحاديث، الكثيرة التداول، تقترن في الأذهان بقضية التجديد الديني إجمالاً. وإذا كنا قد بيَّنا في بداية هذه السلسلة من المقالات (في الحلقة الثانية تحديداً) ضرورة تحديد شروط الشرعية في الحديث في التجديد الديني حتى لا يكون هنالك خلط شديد (ولا تكون هناك فتنة)، فإن هذه الضرورة يستدعيها حديث إصلاح برامج محتويات التعليم الديني في عالمنا الإسلامية. وبعبارة أخرى، فإن المعتل يداخل الصحيح في هذا القول ويختلط ولذلك يكون من الضروري لقضية التجديد الديني ومن اللازم لمحاولة القول فيه بان يحدد المعيار بدقة، وأن تعين الشروط التي يجب أن تكون للمتكلم بصفة واضحة وصريحة معاً.
لا يخفى أن في كل دعوات الإصلاح التي حملها قادة الفكر ورجال الدولة الفاعلون قولاً في مراجعة التعليم الديني (برامجه ومناهجه ونظمه عامة). نجد الأمثلة على ذلك في نصوص العدد الكثير من مفكري «عصر النهضة» مثلما نجده في محاولات الملوك الذين اقترن اسمهم بإرادة واضحة في إحداث سياسة دينية واضحة وفي اعتبار لزوم تلك السياسة (الخطة الشاملة) لمنظومة الإصلاح العامة التي يرى ذلك الملك أو الحاكم نفسه متصدياً لها.
وقد لا تكون في حاجة إلى التذكير بأن علماء الإسلام المنتسبين إلى هذه المرحلة التي ندعوها «عصر النهضة» أو «اليقظة» أو «الانبعاث» (وكل من المصطلحات الثلاثة هذه يشير إلى تصور محدد وإلى منظومة فكرية ـ سياسية ـ اجتماعية تتفاوت في التماسك والانسجام أو عدهما) وجهوا سهام النقد إلى التعليم المنتشر في «عهود الانحطاط» فكان نقدهم لاذعاً لكتب الملخصات، والشروح، والتعليقات، والحواشي على النحو الذي نجده، على سبيل المثال، في المؤلفات التي تدور حول «مختصر خليل» في الفقه المالكي في منطقة المغرب العربي الكبير وفي مصر ـ بل إن المنطلق فيها هو أرض الكنانة وعلماء الأزهر في تلك العهود. لذلك يمكننا القول، في سهولة ويسر، إن من الطبيعي اليوم ومن المنطقي تماماً أن يستدعى خطاب التجديد في الدين ووجوبه خطاب لزوم مراجعة درس التربية الإسلامية في نظمنا التعليمية ـ في المراحل المختلفة من التعليم وأن تستدعي كل مرحلة منها مقتضيات تتصل بها.
وحيث إننا، في الفقرة الأولى، قد استعرنا من النحاة تعبير «الصحيح والمعتل» فإننا نقول إن المعتل في حديث إصلاح برامج التعليم الديني (وهو حديث يقتضي، كما أشرنا إلى ذلك وكما يقدره القارئ الكريم فهو مما لا يخفى على فطنة اللبيب) أن يكون ذلك الحديث من غير المعني بالأمر (على النهج الذي رسمناه في الحلقة الثانية من هذه الأحاديث وأجبنا به عن السؤال عمن تكون له شرعية القول في التجديد الديني. (كما نقول إن المعتل، بل الذي يفتقد شروط الصحة كلها، ويفتقر إلى مقومات الشرعية جميعها بل إن أدناها شأناً غير متوافر لديه هو ذاك الحديث الذي يأتي من خارج دائرة الإسلام وأهله.
وفي عبارة صريحة وواضحة، كما اشترطنا ذلك على أنفسنا فإن الولايات المتحدة، إذ تقول في لزوم إصلاح برامج التعليم الديني ومناهجه في البلدان العربية (أو في العالم الإسلامي عامة) فإنها تفتقد، بطبيعة الأمر، مقومات الشرعية في ذلك القول وتفتقر إلى شروط الصحة والمعقولية، ومن ثم فإن قولها يكون قولاً فاسداً، كما يقول المناطقة، وقولاً معتلاً إذ العلة، في المعنى الذي يعني المرض وفقدان الصحة والعافية كما يقول النحاة ـ وبالتالي فهو قول محموم، وهذيان لا يستقيم في أذن عاقل وهو، بالجملة، مساس بمبدأ السيادة الذي يتفق علماء الفكر السياسي، ورجال الفقه الدستوري المعاصر على أنه أحد مقومات الدولة في القانون الدولي العام ومن ثم ركن مكين من أركان الدولة لا يكون في الإخلال به إلا مساسا بكيان الدولة (أو الدول) المقصودة بالخطاب وإرادة واضحة في الإساءة إليها.
إذا تقررت هذه القاعدة (ونحسب أن الأمر كذلك)، فإننا نجيز لأنفسنا أن نقول في معرض الإسهام باقتراح في موضوع مراجعة مناهج ومحتويات تعليمنا الديني إن هذه المراجعة من مستلزمات التجديد الديني الذي نحن في مسيس الحاجة إليه في عالمنا المعاصر ـ وإن من الأفضل، مائة مرة، أن تكون الدعوة منا نحن المسلمين اقتناعاً وتدبيراً ما دمنا نؤمن بإمكان الجمع السعيد بين الإسلام وبين الانتساب، إلى العالم المعاصر من أن نكون في حال الاضطرار إليها، بعيداً عن قناعتنا وخارجاً عن تدبيرنا، وبعيداً عن نظرنا إلى الاقتران بين التجديد الديني والتحديث السياسي. ومتى سلمنا بهذه الحقيقة الأولية والبسيطة فإن الطريق يكون واضحاً.
وإذا كان من المتعذر عملياً ومن العسير واقعياً (نقول هذا في صراحة وصدق) أن تكون تلك المراجعة في تقرير جماعي من أهل الإسلام (من البلاد الإسلامية مع اختلاف مذاهبها ومعطياتها المحلية ـ وأود التشديد على الكلمة الأخيرة) فإن من المقبول، بل من المطلوب أن تكون المبادرة فردية من الدولة ـ فإليها يرجع التنظيم والتقدير ـ في كل بلد من البلدان الإسلامية على حدة.
الحق أن المراجعة تلك، في مقتضياتها الراهنة وفي ضوء الإيمان بإمكان تجديد حقيقي في الدين على الشرط الذي نذكره فنؤكده (الاقتران بين التجديد الديني والتحديث السياسي)، إن من شأن تلك المراجعة أن تذكرنا بالمعنى العميق الذي يكون الدين بموجبه مقترناً بالحياة، ويكون وجودنا تبعاً لذلك وجوداً إيجابياً فاعلاً.
* كاتب مغربي متخصص بالفكر الإسلامي