مهزلة مصلحة "الطائفة"!!!

مهزلة مصلحة "الطائفة"!!!

سهاد عكيلة

[email protected]

هل تعلّم أهل السنّة في لبنان من تجاربهم؟

سؤالٌ مشروع يطرحه الماضي – البعيد والقريب - الذي عايشه مَن تقدّم علينا سنّاً وعايشناه، ويطرحه الواقع الأليم الذي خَبِرناه ونختبره كل يوم.

كان أهل السُّنة ولا يزالون الحلقة الأضعف بين الطوائف (إذا أردنا أن نحسبها بحسابات الطائفية البغيضة)؛ تُمَرّر من خلفهم وأمام أعينهم المؤامرات، وعلى حسابهم تُنفَّذ المشاريع، وهم ينظرون نظر المغشيّ عليه من الموت، ويفرح "متزعمو" هذه "الطائفة" بأن يكونوا حجارة الشطرنج التي يحرّكها أسيادهم المتنفِّذون اللاعبون على الساحات المحلية والإقليمية والدولية بحسب مصالحهم ولا يحرِّكون ساكناً، بل ينصرف كلٌّ إلى مصالحه ودنياه ومُتَعه... وفي كل مرة تُعاد الكَرّة ويعودون! مع أنّ في منهجنا مهارة دلَّنا عليها حبيبنا وقائدنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم هي مهارة "التعلم من الأخطاء" فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يُلدَغ المؤمن من جُحرٍ مرتين" رواه الإمام الجليل البخاري في صحيحه، وتَعلّمنا أيضاً من تراثنا الشعبي أنّ: (الذي يجرِّب المجرَّب: عقله مخرّب)، ويبدو أن الكثيرين من "أهل السُّنة" في لبنان – إلا مَن رحم الله – مصرّون دائماً على تجربة هذا ال "المجرّب"، مستمرئون أن يسوقهم هؤلاء كيفما شاؤوا وأن يتحكّموا برقابهم ويتحدثوا باسمهم تحت مِظلة "مصلحة الطائفة" و"وحدة الطائفة"... مع أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر هؤلاء في سياق حديثه عن انقلاب الموازين في آخر الزمان: "سيأتي على الناس سنواتٌ خدّاعات: يُصَدّق فيها الكاذب ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتَمَنُ فيها الخائن ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرُّوَيْبضة"، قالوا: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: "الرجل التافه يتكلم في أمر العامة". والرُّوَيْبضات عندنا لم يتكلموا فقط بل ساسوا وبسطوا نفوذهم بما يملكون من مالٍ وسلطان:

خنافسُ الأرض تجري في أعِنَّتِها             وسابحُ  الخيل مربوطٌ إلى  الوتدِ

وأكرمُ الأُسْدِ محبوسٌ ومُضطَهَدٌ               وأحقرُ الدُّودِ يسعى غير مضطهدِ

وأتفهُ الناس  يقضي في مصالحهمْ              حكمَ الرُّوَيْبضةِ المذكورِ في السنَدِ

دار الزمانُ على الإنسانِ وانقلبَتْ                كلُّ  الموازين  واختلَّتْ  بمُستندِ

هذه الطائفية "المهزلة" التي أُشرِبتها عقول وقلوب الكثيرين من "أهل السُّنة" الذين ما فهموا من سُنِّيَّتهم غير هذا التغني الأعمى بأمجاد أسيادنا أبي بكر وعمر وخالد إغاظةً للمخالفين ليس إلا... دون أن يفقهوا بأن هؤلاء هم القادة الحقيقيون لهذه الأمة الذين ينبغي أن نجدِّد سيرتهم فينا ونسير حيث ساروا. وقد سمعنا مَن يسُبّ عليّاً رضي الله عنه بالطبع مقابل مَن يسبّ عمر رضي الله عنه وهما بريئان من هؤلاء وأولئك... وحسبُنا الله ونِعمَ الوكيل!

حتى أصبحت دعوى مصلحة "الطائفة": (المقدّس) الذي تتهاوى عند أعتابه المبادئ، وتتشعّب بالناس المسالك، وتنقلب في حسِّهم الموازين، وينخدع بعض أصحاب العقيدة بتلك الشعارات، ويظنّون أنهم بتقرُّبهم من هؤلاء أو هؤلاء سيحققون بعض المصالح للمسلمين، ويصدِّقون وعودهم، ويتعاونون معهم، والله يقول: (ولا تُطِعْ مَن أغفلنا قلبَه عن ذِكْرنا واتّبع هواه وكان أمره فُرُطا)... بل يقفون عند أبوابهم ويتواضعون لهم وهو تواضعٌ في غير محلّه، فهؤلاء لا يفهمون إلا لغة الاستعلاء بالإيمان والعزّة بالإسلام: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)، ولقد حذّرنا الله سبحانه من الركون لهؤلاء: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تُنصَرون)، وكذلك رسول الله الذي قال: "مَن جلس إلى غنيٍّ فتضعضع (أي تذلل) له ذهب ثلثا دينه"، وفي رواية: "فقد أسخط الله"، وفي رواية: "... وأُدخِل النار"، وقال أيضاً: "من أعطى الذِّلة من نفسه طائعاً غير مُكرَه فليس منا".

ولا عبرة بعد بيان الله ورسوله بما يلبِّس به الشيطان على بعض العاملين للإسلام من "فقه الضرورة" و"ضغط الواقع" و"تغليب المصالح" وتحقيق بعضها، لأنّ دفع المفاسد مقدَّمٌ في فقهنا على جَلْب المصالح؛ ففي اصطفاف أصحاب الدعوات مع هؤلاء إبرازٌ لهم وتأييدٌ لبرنامجهم ولمنهجهم مع ما فيه من معاداة صريحة للدين، مما يلبِّس على العامة أمرهم، ويوهم بصلاح هؤلاء وجواز اتِّباعهم وإقرارهم على باطلهم... فتختلط عندهم المفاهيم وتُغبَّش العقيدة الصافية وتنحرف فِطرهم مع الأهواء والمصالح. وفي ذلك خدمةٌ مجّانية لأعداء الدين الذين ينادون بفصله عن الحياة، وإضفاءٌ للشرعية على سياساتهم، وهذا عَيْن ما يرمون إليه من سعيهم لاحتواء الإسلاميين تحت لوائهم.

والأشد على نفوس المؤمنين من ذلك كله أن تُشرى ذمم المنتسبين للعلم ممن يُقال عنهم "مشايخ"، وأن يصبحوا المتحدِّثين الرسميين باسمهم والوكلاء الحصريين لتجارتهم البائرة، في حين ينبغي للعلماء في محنة غياب الهوية أن يعملوا على تعديل المسار لا الإغراق في حَرْفه عن جادة الحق، والأوْلى بهم وبسائر العاملين للإسلام أن يأخذوا بأيدي الناس وينتشلوهم مما هم فيه من ضياع وتخبط وتشرذم، وأن يُعمِلوا الآيات والأحاديث ويُسقِطوها على أرض الواقع؛ وإلا فما الفائدة من حفظها وتدريسها؟ وعندنا من الأمثلة المُخزية المعايَنة من أحوال "علماء السلطان" ما يُغني عن الخبر؛ في الوقت الذي كان فيه لعلمائنا وقادتنا صَوْلات وجَوْلات في تعاملهم مع هؤلاء:

نشأ خلافٌ واشتدّ بين الأخوين سلطان الشام الملك إسماعيل، وسلطان مصر نجم الدين أيوب. وفي سنة 638ه أوجس إسماعيل خيفة من نجم الدين، فاستعان بالصليبيين أعداء الإسلام، وتحالف معهم على قتال أخيه... فهبّ الإمام الحرّ الشيخ (العِزّ بن عبد السلام) واقفاً بوجه الخيانة والخائنين، وأفتى بتحريم بيع السلاح لهم، وشدد في الإنكار على السلطان وفِعلته المنكَرة وخيانته الفظيعة للأمة الإسلامية، فاعتقله ثم أفرج عنه. فذهب العز إلى القدس. ثم جاء الملك إسماعيل وملوك الفِرِنْج بعساكرهم وجيوشهم إلى بيت المقدس يقصدون الديار المصرية، فسيّر إسماعيل بعض خواصّه إلى الشيخ بمِنْديله، وقال له: تدفع منديلي إلى الشيخ وتتلطف به غاية التلطف وتستتر له، وتَعِده بالعودة إلى مناصبه على أحسن حال، فإن وافقكَ تدخُلُ به عليّ، وإن خالفك اعتقله في خَيْمته إلى جانب خَيْمتي. فلما اجتمع الرسول بالشيخ شرع في مسايسته وملاينته ثم قال له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه زيادة، أن تنكسر للسلطان وتُقبّل يده لا غير! فقال الشيخ: "والله يا مسكين ما أرضاه أن يُقبّل يدي فضلاً عن أن أقبّل يده! يا قوم أنتم في واد وأنا في واد! الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به". فقال الرسول: يا شيخ قد رُسم لي أن توافق على ما يُطلب منك، وإلا اعتقلتك. فقال الشيخ: "افعلوا ما بدا لكم". فأخذه واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان. وكان الشيخ يقرأ القرآن في معتقله والسلطان يسمعه. فقال يوماً لملوك الفرنج: تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم. قال هذا أكبر قسوس المسلمين، قد حبستُه لإنكاره عليّ تسليمي لكم حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه ثم أخرجتُه فجاء إلى القدس، وقد جدّدتُ حبسه واعتقاله لأجلكم. فقالت له ملوك الفرنج: لو كان هذا قسّيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها!*

أمَّا الذين كتاب الله منهجُهُمْ         فهُمْ منابرُ  إشعاعٍ بلا  مَدَدِ

ما ضرَّهم أبداً إسفاف مَن سفهوا      أو ضرَّهم أبداً عقلٌ بدون يدِ

هم الكرام وإنْ ضِيْمُوا وإنْ ظُلِموا       رغم الصَّغارِ ورغمَ الحقدِ للأبدِ

وهكذا، لم تؤتَ الأمة الإسلامية في تاريخها إلا من داخلها: فهل يتكرر للخيانة المعاصرة عالِمٌ كالعِزّ بن عبد السلام؟

إنّ على أهل السُّنة – والإسلاميين خاصة – أن يعوا الدرس فيكفّوا عن المراهنة على أصحاب المصالح الضيِّقة الذين عرفناهم في (7 أيار)، ورأينا الترجمة العملية "لانتفاشةٍ" فارغة لدى بعضهم، وعُدوان يُخفي أحقاداً وهمجية لدى البعض المقابل! وأن يكون شأنهم معهم: محاسبتهم على تفريطهم بحقوق المسلمين، والاعتداء على الأبرياء، والاستخفاف بالدم الحرام؛ فأعطى الفريقان صورة سيئة بَشِعة عن المسلمين! والله الهادي إلى سواء السبيل.

* وردت في (الطبقات الكبرى) للسُّبكي وفي (السلوك) للمقريزي – باختصار.