القراءة، في خطاب مثير

أحمد بنميمون

[email protected]

هل يصلح أن نستعمل منطق المفكر المغربي (عبد السلام بن عبد العالي) في حكمنا على خطاب الرئيس اللبناني  الذي جاء بمضمون مستغرب  صدوره، عن رجل سياسة عربي في مرحلتنا الراهنة،  حيث يعاني النظام العرب من ضحالة وفقر فكريين،  يحتاج إلى أقنعة كثيرة لإخفائهما، أو في أحسن الحالات إلى أقوى أجهزة الحجاج وأنجعها لدفعهما عنه، إذ لا يخجل رجل السياسة العربي من تهمة الخواء، وانعدام الوزن الثقافيين بالنسبة إلى شخصه، في أي مستوى من المسئولية كان، فما معنى أن نسمع من أحدهم كلاما يتوجه به إلى الشباب (أن يقرأوا  ما يشاءون) وأن يعتبروا  أنه (إذا لم تكن الكلمة في أساس البناء فعبثا يتعب البناءون) والحقيقة أنني قد تلقيت ما دوخني من شدة إعجابي بصياغة هذه العبارة الأخيرة التي لعبت بي لعب الخمرة  بشاربها، وجعلتني أنتشي  إلى درجة قاربت فقداني الصواب ، لولا أنني تذكرت أن المتكلم رئيس عربي، وقد زادني الأمر حيرة مع إمعان هذا الخطاب وهو يدعو الشباب إلى قراءة ما يشاءون ، في التأكيد على أن أمر اختيار نوعية القراءة هو قرار هذا الشباب نفسه، (فلا حرية تنمو و تعاش إذا كان هناك حِجْرٌ ورقابة على التفكير والتعبير،) يا سلام، أفيعي رجل السياسة العربي إذن مثل هذا الأمر ويأمر به؟ لا تستعجل أيها القارئ الكريم ، فلا يزال في كلمة  رجل السياسة العربي هذا، في نفس المناسبة ما يزيدنا إدهاشا ، إن لم أقل  إرباكا،ففي نفس هذه الكلمة، نقرأ أيضاً له وهو يستدرك في خطابه الشباب (ولكن  مسئوليتكم هي أن تنمٌّوا ملكة التمييز، حتى لا يقودَكم الفكر المتطرف خلف قراءاته المظلمة، فتحسنوا الاختيار...)  فهل نصدق أسماعنا ونقتنع بإيمان رجل السياسة العربي بأفعال الكلام  المباشرة الموجهة منه إلى شباب شعبه،أو بالأحرى أمته، ونستنتج منه قوة إنجازية حرفية، أو قوة إنجازية مستلزمة؟ فإن الفعل الكلامي يأتينا وقد تلفظ رجل السياسة بأصوات مركبة سليمة التركيب النحوي، خاضعة  لنظام إنتاج الدلالة في لغتنا العربية الجميلة  التي تملك قوة إيقاعية لا تضاهيها أية لغة، باعتبار أنها كانت في الماضي لا تعتمد في استقبالها إلا على الأذن التي منها يذهب الصوت نحو الذهن ،الذي يدرك المعاني، فأكسب هذا لغتنا  ملامح موسيقية رائقة، فرجل السياسة في هذا الخطاب قد أنجز فعلا تكلميا تمثل في ما استعمله من أفعال أمر صريحة ومباشرة  على وجه الاستعلاء والإلزام ، كما ينبغي أن تدل عليه طبيعة  منصب المتكلم ووظيفته، مثلتها صيغ الإنجاز وقرائن الكلام في سياق تواصل مع مخاطبيه، إذ لا سياق أكثر إيحاء بهذا من علاقة الحاكم ( رئيس الدولة) بمحكوميه (من الشباب . كفئة مستهدفة بهذه الكلمات) خاصة وقد تبين أن سياق التواصل الذي يوجه أفعال الكلام في مناسبة هذا الخطاب، هو التحذير من أضرار القراءة  التي لا تستند إلى حس نقدي، أو إلى ما عبر عنه الخطاب بـ (ملكة التمييز) وهو الوقوع في شراك القراءات المظلمة،  التي يقف من ورائها الفكر المتطرف،  إذ أن علاقة التطرف بالقراءة المظلمة هي علاقة النتيجة بالسبب.

إن أفعال الكلام موجهة  ـ بكل صيغها التواصلية، المباشرة وغير المباشرة، بقوتها الإنجازية الحرفية أو المستلزمة ـ إلى الشباب العربي كافة ، إذا اعتبرنا ما تسعى بيروت إلى استعادته في المحيط العربي من دورها  الثقافي الذي يتجلى في مكانتها كمطبعة للكتاب العربي الذي توجد قاعدته العريضة خارج لبنان، في البلاد العربية التي يتهددها التطرف والإرهاب،وتعشش فيها الأصولية، إما لأنها لا تقرأ ، أو أنها إذا قرأت أخضعت قراءتها لتأويلات  نصية ، طالما أسهمت في دفعها إلى مهاوي التطرف نفسه ، وألقت بها بين براثن العنف الإرهاب. وقد كان حلم رجل سياسة سامي المنصب، أن يشهد يوما يقرأ فيه المواطن في بلده القرآن بنفسه دون تدخل من مؤول أو موجه.   

ثمّ هل يمكن الاقتناع بجدية رجل السياسة العربي ، حتى ولو كان لبنانيا في هذه المرة ، فيما أنجزه أثناء تلفظه من أمر بالقراءة ، على النحو الذي وصفه، وإلى أي حد كان صادقا متجاوبا مع الغرض من كلامه ، مخلص النية  يتطلع إلى أن يحدث  كلامه بالفعل أثرا في مخاطبيه، إنني استطيع أن أثبت الأثر الأول لفعله التكلمي في هذا التأثير الذي تجاوز  حدود الاستحسان إلى الإدهاش العميق عندي أولا ، وفي نفوس فئات أخرى تؤرقها  هذه الرغبة الحارقة في أن ترى جماهير شعوبنا تقرأ ، وقبل ذلك أن نرى مسئولينا بصفة خاصة، وعلى اختلاف مناصبهم في السلطة والقيادة  عامةً،يقرأون، وألا تعيرنا قيادة العدو بأن الرؤساء العرب لا يقرأون ،وعندها سنؤمن ، كل الإيمان بأن الفعل التكلمي الذي جاء في خطاب إعلان بيروت عاصمة عالمية للكتاب هو فعل صادق، وحتى ذلك الحين سنظل على مذهب مفكرنا المغربي عبد السلام بن عبد العالي في رؤيته إلى ظاهرة الكتاب المقاولين الذين  يكتبون للرؤساء خطبهم ، حسب المناسبات، ولقد أدركت بالملموس أن هنالك مفكرا أو أديبا متمرسا يقبع وراء هذا الخطاب ، وإن كان  وضع خطاب مثل هذا على لسان رئيس  دولة عربية ، كائنا من كان، في مناسبة عابرة يفرغه من كل محتوى ، بدلالة  السياقات  التواصلية المعروفة في علاقات  القوى المتحكمة في  حركتنا الاجتماعية والثقافية. ورغم ذلك ( فمن غير اللائق إذن محاسبة رجل السياسة في هذه الحال كشخص أخلاقي، عن درجة اقتناعه بما يريد من الآخرين أن يقتنعوا به) لأننا مقتنعون كل الاقتناع ( بأن الكلام لا يمكن أن يقنع من يتوجه إليه إلا إن هو صدر عمن هو مقتنع به، وهكذا فلا نفصل في ذهننا السياسة عن الأخلاق) أستدعي عبارات المفكر المغربي بن عبد العالي ، بعد أن ذُهلت لخطاب السياسي العربي ، حتى وأنا أعرف أن من كتبه ليس الرجل الذي تلفظ بأفعال كلامه ، لأن في ذلك الخطاب روح لبنان التي عبر عنها عمر فاخوري  وسلمى الصائغ وأنطون الجميل ، وظهرت في شعر الحنين لدى المهجريين الذين كانوا قد غادروا لبنان دون أن يغادرهم ،في النصف الأول من القرن العشرين، ثم هذا الكشف المضيء  الذي يرفع مشاعل على الطريق للشباب ، حتى لا يسقطوا في كمائن القراءات الظلامية التي تصنع منهم قنابل موقوتة ، لا تنتظر إلا الساعة، غافلة عن الحياة الدنيا. إنه هو أيضا كشف تنويري مثير مفارق ، لأنه طارئ بالفعل غير منتظر ، كما أن ما نراه من وقوع شبابنا  في فبضة الفكر الظلامي أمر لم يكن في احتمالات جيلنا قبل السبعينات، التي شهدت تحولات كبرى ساقت هذا الشباب إلى التطرف ، وقد ساهم رجل السياسة في دفعه إليها ، فقبل أن تعظوا وترشدوا اقرأوا التاريخ يبد لكم حقائق  ما ساهمتم في  دفنه من طاقات الشباب وقدراته ، وما دفنتم في أساس أفعالكم من كلمات وشهداء، وكم حولتم عمل البنائين إلى عبث.