لغة الويكا والفرخة والديكا

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

يقولون " إن كلام الملوك يجب أن يكون ملك الكلام " ، وما يقال للملوك يجب أن يكون لائقا بمقامهم .

أما كلام السوقة فلا يجول إلا في مخاض السفلة والهبوط ... هذه صفتهم السائدة . فإذا خاطبوا الملوك أو تحدثوا عنهم فيجب أن يكون الخطاب لائقا بالملوك ... صاعدا إلى مقامهم ، لا هابطا بالأداء إلى ما السوقة عليه من طوابع .

 ونفتح كتاب " الموشح " للمرزباني ( ت 384 ه) لنجده قد أبرز هذه الحقيقة عمليا في نقده لقصيدة البحتري التى يهجو فيها الخليفة العباسي المستعين بالله ومن أبياتها :

أعـاذلـتي على أسماءَ iiظلما
مـتـى عـاودتِني فيها iiبلوم
لأسلح حين يمسي من حُبارى


وإجـراء  الدموع لها iiالغزار
فـبـت  ضـجيعة للمستعار
وأقضم حين يصبح من iiحمار

( الحبارى = طائر معروف بكثرة الإفرازات النتنة .

وأقضم من حمار = كثير القضم والأكل والعض حتى فاق الحمار في ذلك ) .

وجاء في الموشح صفحة 513  514 " :

 " وهذه الأبيات من أقبح الهجاء ، وأضعفه لفظا ، وأسمجه معنى ؛ وهي أيضا خارجة على طريقة الخلفاء والملوك المألوفة ، وهي بهجاء سفلة الناس ورعاعهم أشبه ، مع ما جمعت من سخافة اللفظ ، وهلهلة النسج ، والبعد من الصواب ... " .

 **********

 وقد عرضت من قبل لممتاز القط رئيس تحرير أخبار اليوم الذي كان يكتب في ملحقها عمودا بالعامية الهابطة جدا ، ثم تاب وأناب وأقلع عن هذا الخبث المخزي . إلى أن فاجأنا الأستاذ فاروق جويدة في أهرام الجمعة ( 10 / 4 / 2009 ) بمقال طويل تحت عنوان " لا نستحق هذا الوطن " وهو يعرض للقراء فضيحة كسيحة مقززة عمياء ، نقتطف منها الفقرات الأتية :

 ( - فتحي سرور يا ويكا‏..‏ الكل يحبك حب الفرخة للديكا

 - أما حبك للقانون فهو في دمك وكلاويكا

- أستاذ قانون ناجح لما تعرف شغل البولتيكا‏

 - لأن مصر دايما في قلبك‏..‏ ليس لها شريكا

 - طلبة الحقوق بيقولوا

 - كلامك حلو وسكر‏..‏ وعامل زي المزيكا‏..‏)

بهذه الكلمات الرديئة وقف رئيس وزراء مصر الأسبق د‏. ‏علي لطفي يتحدث في حفل تكريم كبير لرئيس مجلس الشعب المصري د‏. ‏فتحي سرور أقامه مواطن سعودي عاشق لمصر الثقافة والفكر هو د‏. غازي عوض الله في واحد من أكبر فنادق القاهرة.

 المناسبة هي تكريم الرجل الثاني في الدولة المصرية ورئيس مجلس الشعب لمدة ‏19‏ عامًا، وهو عالم في القانون وأستاذ جامعي‏..‏ فهل هذا الكلام يليق برئيس وزراء مصر‏..‏ وهل هذا المستوى في اللغة واللفظ يليق برئيس البرلمان المصري، وهل ذلك كله يليق بمصر الثقافة والريادة والفكر ؟ " .

 لقد أصبحت الفضيحة بجلاجل والحفل كان يحضره سفراء وقناصل ، وكبار من مصر والبلاد العربية ، ولو كان منشده شعبان عبد الرحيم لكان على الجميع أن يطردوه شر طردة ، ورحم الله المرزباني في ( موشحه ) . ولكن ماذا يفعل الأخرون والمنشد المقزز هو استاذ كبير في الاقتصاد ، وترأس الوزارة المصرية من قبل ، ومازال له حظوة كبرى عند الكبار وحكام البلد .

 ويقول الأستاذ فاروق جويدة :

" في زمان مضى ما زلت أذكر حفلات التكريم التي كانت تتزين برجال مصر ورموزها في الفن والإبداع والقانون والثقافة‏، وكانت مرافعات رجال القانون المصريين دروسًا في اللغة والرقي والترفع.. كان المحامي المصري يزلزل أرجاء المحاكم بكلماته الجميلة وحجته وإقناعه، وكانت هناك علاقة عميقة جدًّا بين الأدب والقانون، وما أكثر خريجي كليات الحقوق الذين حملوا رسالة الأدب والكلمة الجميلة والإبداع الخلاق، وكان لقب رئيس وزراء مصر يهز أرجاء هذا الكون قيمة وبريقًا ودورًا، وكانت تصرفات وسلوكيات كبار المسئولين عندنا تعكس قيمة شعب وثقل دولة ، فما زلنا نتذكر رؤساء وزارات في مصر كانوا على مستوى المسئولية شكلاً وموضوعًا ".

 **********

وأقول : يا أستاذ فاروق :

لقد  أسمعت  لو ناديتَ حيا          ولكن  لا  حياة  لمن  تنادي

ونار لو نفختَ بها أضاءت          ولكن ضاع نفخك في الرماد

ونحن في بلد لم يعد فيه غريب إلا المواطن المصري الغلبان ، وأصبحت الأخطاء السافلة الهابطة في اللغة لا تستغرب من ذوي الحيثيات وحكام هذا البلد ، مع أنهم يسكنون أواخر الكلمات ، ومع ذلك يقعون في أخطاء يترفع عنها طالب راسب في الشهادة الإعدادية .

 ولا أنسى أن أحد الرؤساء المصريين كان يتحدث عن لحمة عيد الأضحى بكسر الهمزة دائما . ولا أنسى للرئيس السادات خطبته بالإنجليزية  بنطق شبه إنجليزي  أمام عمدة " بير سبع " الإسرائيلي أمام حشد حاشد من الإسرائيلين وبعض الفلسطينين ، وجاء دور العمدة ليلقي خطبته ، فذهلت حينما وجدته يخطب بعربية سليمة فصيحة ، ولم يقع في غلطة واحدة ، ومما قاله في خطبته " ... فلتعلم يا سيادة الرئيس أننا بكامب ديفيد قد منحناكم أرضا ( يقصد سيناء ) مساحتها ثلاثة أمثال مساحة إسرائيل ... الخ " .

كل ذلك والرئيس السادات يدخن البايب ، ويبتسم ، ويهز رأسه في لطف عجيب .

لقد أصبح هتك عرض العربية الفصيحة هو الأصل في خطب الرؤساء ، ووسائل الإعلام ، وأسلوب المدرسين في شتى المراحل بما فيها المرحلة الجامعية .

 مع أن الخطأ في اللغة العربية يعني إهانة للقيم الخلقية والدينية ؛ لأنها لغة شريفة ، فهي لغة السماء إلى الأرض ... لغة القرآن الكريم ، وهي اللغة التى حفظت تراث الأمة العربية والإسلامية ، بل هي اللغة التى حفظت التراث اليوناني مما دفع اليونانيين إلى نقل تراثهم من ترجماته باللغة العربية بعد أن ضاعت الأصول اليونانية إلى الأبد . فنحن إذن لا نبالغ إذا قلنا إن اللغة العربية لغة شريفة ، وهي تمثل عرض الأمة وهويتها .

 ورحم الله ذلك البدوي القح الذي نزل سوق البصرة لأول مرة ، فوجد الناس يلحنون ( أي يخطئون ) في اللغة العربية ، فصرخ وقال : ياربي كيف يلحنون ويرزقون ؟؟!!! . فهو يرى أنهم  إذ يرتكبون هذا الإثم  يجب أن يعاقبوا بقطع أرزاقهم .

 **********

 والانهيار اللغوي لا يتوقف أبدًا, بل إنه يتسع في اطراد دائم في كل المجالات ، في المدرسة نري مدرس العربية يشرح دروسه بالعامية, قلت لواحد من هؤلاء: يا فلان إن عليك أن تشرح دروسك بالعربية الفصحي. أجاب - بلهجة ساقطة, وعلي وجهه علامة تعجب خطيرة - الله!! يعني سيادتك عاوزني اتكلم «بالنحَوًي» دا التلامذه تدحك عليّ «يقصد تضحك». ومش حيفهموا حاجة....

قلت: أنا لا أقصد العربية الغريبة المتقعرة, ولكن أقصد العربية السهلة الواضحة.

قال: برضه مش حيفهموا... علشان فيهم ليبيين وسعوديين, وشوام. قلت: هذا مبرر لأن تتحدث بالعربية الفصحي» فهؤلاء «العرب» أقدر علي فهمها من العامية المصرية. ولكن:

لقد أسمعت لو ناديت حيا             ولكن لا حياةَ لمن تنادي

**********

 وقد كتبنا كثيرًا عن لغة «أهل التليفزيون» المصري بقنواته الفضائية والمحلية... الحكومية والخاصة وما تزخر به من أخطاء نحوية وأسلوبية, وما يتميز به بعضهم من «عيوب» في النطق ذاته: فلانة يسميها الجمهور "المدفع الرشاش". وأخري عندها قدرة سبك الحروف والكلمات كلها في نفخة متواصلة بلا تفريق بين مخارج الحروف, وثالثة ألغت الصاد والقاف والطاء والثاء والذال والضاد والظاء من معجم العربية. فكلمات مثل: صدقني - القيادة - الطرب - الثقوب - الذمة - الضمير. تصبح: سدأني - الكيادة - الترب - السكوب - الزمة - الدمير.

 ورأيت واحدًا منهم يقرأ من ورقة «... ومن أبطال هذه المعركة عمر بن مَعٍدًيَكَرٍب فارس زيد» والصحيح - كما هو معروف - أنه عمرو بن معدًيكَرًب فارس زَبًيد - وزبيد قبيلته اليمنية التي ينتسب إليها.

 وأسمع وأري أحدهم يقول: «وهذا الكتاب من تأليف الدكتور كمال بَشَر» (بفتح الباء والشين). وهو يقصد أستاذنا العظيم الدكتور كمال بشر – بكسر الباء وتسكين الشين -.. وهو أشهر من علم.

**********

ومن مظاهر الانهيار - وهو مظهر مؤسف جدًا - أن يقع هؤلاء في أخطاء لا يقع فيها تلاميذ المرحلة الابتدائية: يظهر ذلك في العجز العملي عن التفريق بين همزتي الوصل والقطع, وهو درس من دروس النحو في المرحلة الابتدائية . فالعبارة التالية:

(وقد استغرق الاجتماع الحزبي في القاهرة ثلاث ساعات) ليس فيها همزة قطع واحدة, وما فيها نسميه همزة وصل, لأننا نصل الكلمات نطقًا كأن الحرف لا وجود له, بالصورة الآتية: وقد سٍتَغرق لجٍتماعُ لٍحزبي في لقاهرة......

ولكن النطق «التلفازي» - منها أو منه - يجعل كل الهمزات همزات قطع, مع وقفات مؤسفة علي النحو التالي:( وقد - إستغرق - ألإجتماع - ألحزبي - في - ألقاهرة...) وتشبه همزة الوصل الحرف الصامت في الإنجليزية, كما نري في الفعل (Know) - أي (أعرف) فحرف- K- لا ينطق.

 هذا وننبه كذلك إلي أن همزة الوصل تنطق قطعًا إذا كانت في بداية الكلام فتقول: إستخرجنا النفط. ولكنها لا تنطق إذا سبقها سابق كحرف أو اسم أو فعل فنقول: ثم استخرجنا النفط.

أما همزة القطع فلا بد من نطقها في أي موقع كانت, كما نري في العبارة الآتية: أحمد وإبراهيم أخوان فاضلان, وقد ألزمهما أبوهما أداء حق كل أمين...

 **********

 هذا من «بدايات النحو» الذي يجهله التلفازيون والتلفازيات, قصدت أن أقدمه لأقول: ابدءوا يا هؤلاء من الصفر بدلاً من تضييع الوقت في التظرف المرفوض, وحشر الأجساد في «الجنز» الخانق.

 وفي النهاية أدلي بشهادة حق في هيئة سؤال أطلقته ذات يوم - بعيدا عن المجاملة أو الاتهام -: أين عاصم بكري ذلك الشاب الذي دخل كل بيت؟! أين درسه اللغوي الخفيف الذي كان أبناؤنا يتزاحمون عليه أمام الشاشة الصغيرة ؟ وأين برامجه الاجتماعية والسياسية التي كان يقدمها بلغة عربية فصيحة عفوية دون تكلف أو تعسف, وبإلقاء جميل ؟ سألت عنه فقال لي بعضهم «اتقصّ» منه حاجات كتير، ورفعوا الأضواء عنه». سألت عن السبب, قالوا: هو اللي غلطان.. حد قال له ينجح ويتفوق في كل أعماله؟؟!!! .

 ولكني في النهاية أشكر السيد " اللاحن المخطئ " السيد الأستاذ الجامعي ، والخبير الاقتصادي ، ورئيس الوزراء السابق الدكتور على لطفي إذ ذكرنا بتظرفه  من حيث لا يقصد  بالنكبة التي نعيش فيها تحت وطأة حكم الحزن الوطني الديمقراطي جدا ، ولجنة الأُنْس المسماة ب " لجنة السياسات " .

 وأصبحنا نفتقر للقدوة الحسنة ، والرجل المناسب في المكان المناسب ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سئل : متى الساعة ؟ فأجاب : " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ، وإذا وسد الأمر غير أهله فانتظر الساعة "

 ونحن الأن  وبلا أدنى شك  نعيش عصر تضييع الأمانة ، وعصر وضع الرجل غير المناسب في المكان الذي لا يمت إليه بصلة ، ولا يصلح له ولا لغيره ، وكل مؤهلاته وقدراته أنه  كما يقول العامة " تربية الحِجْر " ، وقالوا أيضا ، "يابخت من كان النقيب خاله " . وأعتقد  يا دكتور على لطفي  أن هذه العامية أبلغ من عاميتك وأنت تتحدث عن الويكا ... والفرخة ... والديكا .