الدرس الأدبي بين الواقع والتصوّر "المنهج الحضاري"
الدرس الأدبي بين الواقع والتصوّر
"المنهج الحضاري"
بتول أحمد جندية*
الملخص
تقدَّم هذه الدراسة باعتبارها مقترحًا لتصور جديد ومغاير يمكن أن يصحّ حلاً لمشكلاتنا الدرسية المعاصرة، على مبدأ تطوير الوسائل والآليات. ويستلهم هذا التصور محتواه من الثغرات في جسد الفكر والنقد العربي المعاصر، ومن نظرية اشبنجلر(1) الفيلسوف الألماني في الحضارات والتاريخ والمنهج..وهو قبل كل شيء جنى خبرة شخصية بالحياة والأفكار والقيم، لتكون الحصيلة النهائية منهجًا نميل إلى تلقيبه بـ"المنهج الحضاري".
يرتكز المنهج الحضاري في مجال الأدب على فكرة أساسية مؤداها أن الظاهرة الأدبية رمز حضاري يساوق النظرية المعرفية للحضارة المعنية وقيمها الكلية، ويسعى لاقتراح بدائل منهجية وتقنية صالحة من وجهة نظره للوصول إلى هذه الغاية.
المقدمة
كثر الجدل في الساحة الثقافية العربية في القرن الماضي حول ضرورة تطعيم الفكر العربي بروافد ودماء جديدة، من أجل الإحياء والبعث، وعلى الرغم من تعدد النظريات المطروحة وتناقضها أحيانًا فإنها لم تستطع أن تتوصل إلى تحديث أو تطوير على أرض الواقع بل على العكس من ذلك فقد طبعت التنظير العربي بسمة الاختلاف والتناقض والتضارب الذي امتد من الحقل الفكري إلى الحقول الأخرى السياسية والعسكرية والاجتماعية والتربوية.. ويبدو أن التوسع في الاستيراد عن الغرب قد زوى العناصر الأصيلة التي ينبغي أن تقوم عليها أي حضارة لتحمي نفسها من الذوبان والانصهار في إهاب الآخر الأقوى والمتفوق، فضلاً عن الحفاظ على سماتها الخاصة وتميزها. إن المأزق الذي تراوح فيه الثقافة العربية، واتساع الفجوة القائمة بين التنظير والواقع، وعدم جدوى الحلول المقدمة أو القدرة على تفعيل الصائب منها على مدى قرن من الزمن استدعى ـ في رأينا ـ ضرورة تصحيح الأوليات التي قامت عليها "النهضة" العربية في العصر الحديث والبحث في الأخطاء والثغرات في سبيل الوصول إلى رؤيا أصيلة ومعاصرة تستلهم قيم الأمة وتقرأ واقعها المادي والمعنوي قراءة واعية هادفة، وقد قيل: إن كنت تخفق دائمًا في حل ما يعترضك من مشاكل فعليك أن تغير طريقتك في حلها.
ولم يكن المجال الأدبي؛ النقدي والإبداعي، بمنأى عن هذه الملابسات، بل لعله أشدها بلبلة واضطرابًا، إذ إن الباب فيه مفتوح لاجتهادات فردية لا ضابط لها، هذا بغض النظر عن النظريات الكثيرة المتقابلة التي تتخذ طابعًا مذهبيًا ومعرفيًا. وإن حصيلة قرن كامل لم تستطع أن تتعاضد لتصوغ نظرية متكاملة أو تبني مفهوم جنس أدبي واحد..
وانطلاقًا من وعينا بضرورة تجديد الوسائل وتحديث المناهج فقد حاولنا عبر هذه الدراسة أن نقترح منهجًا نأمل فيه أن يحمل حلولاً لمشكلات طالما حار العقل العربي في التعامل معها، وينبه في الوقت عينه على طاقات وآليات قد ألف هذا العقل الذهول عنها أو أساء توظيفها، وذلك في إطار الدرس الأدبي والنظرية الأدبية خاصة.
وسوف نحاول في الصفحات التالية أن نقارب المشروع النقدي العربي على تنوع اتجاهاته وتناقضها مقاربة سريعة تحرص على استخلاص الملامح العامة في طريقة تعامله مع التراث الأدبي. وإذا كنا نركز على السلبيات فذلك من منطلق أن "(سلاح النقد) يجب أن يسبقه ويرافقه (نقد السلاح)"(2)، ولا يعني مطلقًا تفريغ جميع المشاريع من القيم الإيجابية أو التشكيك في بواعثها وإخلاصها، ولكن النوايا النبيلة وحدها غير كافية لتوجيه بوصلة الرأي إلى الاتجاه الصحيح.
أولاً - واقع الدراسات الأدبية العربية المعاصرة:
إن المطلع على رصيد الدرس الأدبي العربي المعاصر يدرك بسهولة أنه محكوم بتصورين رئيسين؛ الأول أصولي سلفي يحاكم جميع القضايا بـ"عقول أُعدّت للماضي"(3)، بمعنى أنه يرفض فكريًا ومنهجيًا جميع الصيغ المحدثة ولا يُقبل إلا على المعايير التي اقترحها أسلافنا ويتعلق منها بالظاهر والقانون دون أن يبحث عن النظام الذي يشدها ويجعلها تتماسك في وحدة منسجمة. وثاني التصورين تغريبي يتوسل إلى فهم التراث ـ الأدبي منه على وجه الخصوص ـ بمناهج وأدوات مستنسخة عن نظريات غربية، وتحكمها في الغالب أحادية الرؤيا فترى الظاهرة جميعها بعين مظهر واحد من مظاهرها؛ كالواقعية، والمثالية، والبنيوية، والوجودية، والسريالية، والحداثة، وما بعد الحداثة..! بيد أن اتجاهًا آخر مغايرًا بدأ يثبت وجوده في أواخر القرن الماضي يسعى إلى المزاوجة بين هذين التصورين للتوفيق بينهما ما أمكن وعلى الرغم من الجدة والتطور الكبير الذي أحرزه فإنه لم يأخذ شكل الظاهرة ولم تختبر نتائجه بعد، إذ تغلب عليها الذاتية والاضطراب وتفتقد طابع الوحدة مما يجعل الخطاب الذي ينتظمها خطاب بدائل وأضداد في الغالب.
ومهما يكن من أمر هذه المناهج، فإن عددًا من الملاحظات تطبعها جميعًا وتطرد في معظم بحوثها، لعل أبرزها:
1- أثر الاستشراق :
لا يخفى على مراقب أثرُ الاستشراق في توجيه الأدب والنقد العربيين، وسواء أفترضنا فيه حسن النية أم آمنا بنظرية العداء والكيد في العمق فلا ينبغي أن ننسى أو نتجاهل أنه في أكثر أحكامه إنصافًا وموضوعية مأسور بمفاهيم ومعايير حضارته التي ينتمي إليها، ونرى اشبنجلر شديد الحزم فيما يتعلق بهذه المسألة، يقول: "والحق إنه لمن المستحيل علينا أن نغوص إلى أعمق أعماق نظرة تاريخية عالمية لصيرورة ما، نظرة شكلتها نفس تختلف تمامًا في تركيبها عن نفسنا..."(4)، "فعندما يقنع أحد الناس نفسه بأنه يعرف نفس حضارة غريبة عنه من أعمالها في الواقعة، فإن صورة النفس التي تكمن وراء معرفته هي صورة نفسه الخاصة"(5). وقد تجلى هذا الأثر في مجموعة من الإجراءات الدرسية، وعلى شكل أفكار كُرّست لتغدو مسلمات لا يتطرق إليها الشك أو الوهن، ودون أن يسلط عليها سيف التمحيص والتثبت، لعل أبرزها:
- رسم صورة العربي والحضارة الإسلامية من خلال مفهوم "البداوة" الذي يسعى لتبديد أي فهم راق أو تصور إيجابي لمظاهر هذه الحضارة أو تكوينها المعرفي، الأمر الذي يثير حفيظة "الصائغ" فيرى ضرورة "التمييز بين ما هو عربي وما هو أعرابي... فالعرب ليسوا بداة جفاة ولم يأنسوا للتصحر وفي أمثالهم (من بدا جفا) لم تكن الصحراء المفقودة وطنهم ولا بيت الشَّعر المهرّأ منزلهم ولا الغزو والنهب رزقهم.. هذه افتراءات بعض المستشرقين الحانقين ومن تابعهم من الكتاب العرب"(6).
- اعتماد التقسيم السياسي في بناء تاريخ الأدب العربي وبالتالي تشظية المفاهيم والقيم في حين أن الواقع الحضاري والمعرفي لا يؤكد ذلك، ويمحص شلتاغ عبود هذا التقسيم ليلمح فيه المرامي البعيدة: "إن المنهج الذي سار عليه المستشرقون في تقسيم الأدب العربي إلى عصور زمنية إنما هو انعكاس لتاريخهم وحضارتهم ولغاتهم وآدابهم... هم يؤرخون لآداب متعددة وأمم متعددة، بينما في حياة المسلمين تاريخ واحد ولغة واحدة وحضارة واحدة، وإن تبدلت الصور السياسية... ثم إن تقسيم المستشرقين هذا ينفث في السطور العنصرية... هو ربط قومي يهدف إلى النظر إلى تاريخ المسلمين من زاوية الاختلاف وليس من زاوية الوحدة.."(7).
- تضخيم بعض البؤر لترسيخ ما تستدعيه من إيحاءات لم تقف عند حد التلميح، بل تجاوزته إلى التصريح، وليُشخّص الشعر العربي من خلال بعض القيم والملابسات التي تمّ عزلها عن سياقها التاريخي، وتوجيه دلالاتها وجهة مغالطة في كثير من الأحيان، لأنها على الأقل تستند إلى مواضعات معاصرة ومفاهيم مستحدثة تبتعد قليلاً أو كثيرًا عن طبيعة العقل العربي المسلم الذي منه اكتسبت محتوياتها، وإليه أصفت ولاءها. وقد تمثل هذا النهج في صورة تغييب ساهٍ أو متعمَّد لفئات من الشعراء، وطبقة من الأشعار(8)، حيث دأب النقد على تذوق الشعر وقراءته من خلال الشعراء المشهورين الذين يوصف معظمهم بالتكسب أو الرياء؛ الاجتماعي والأخلاقي، هذا بغضّ النظر عن شعراء المجون والزندقة، وليتم بالتالي تهميش شعر الحماسة والزهد والتجارب الإنسانية الحية.. فاستقر في الأذهان انفصام العرى بين الشعر والأخلاق والغاية والالتزام.. لاسيما أن شعر صدر الإسلام يعرض قديمًا وحديثًا في غاية التهافت والوهن.
2- إرغام التراث :
من خلال الشعور بالنقص والقزامة أمام المارد الغربي اتجهت بعض النظريات إلى تلمس ظواهر غربية أمًّا وأبًا في التراث العربي، وإرغام الأدب والنقد على الإفصاح عنها فإن لم يسعف التصريح كان لهم في التلويح الغنية والأمل؛ كالأسطورة، والشعر الملحمي، والرومانسية، والكلاسيكية، والواقعية، إلخ.. ناسين أو متناسين أن أدب القوم هو صورتهم الباطنية الحية، ويحمل من المورثات والتميز ما تحمله الجينات والبصمات!! إن هذه الإسقاطات غير المنطقية تثير عجب أمجد الطرابلسي في إطار النقد، موضوع بحثه، فما بالك إذا انداحت لتشمل الماضي في مجمله، يقول: "إذ ليس من المعقول أن نتعرض بالدرس والتحليل لمسائل لم يثرها هذا النقد أو يتعرض لها علماؤه"(9)، "إنه من الظلم ومجانبة الصواب أن نحكم على النقد الذي أنجبه الفكر العربي في العصر الوسيط من منظور حديث أو تصورات معاصرة، بل الأولى أن نضعه ضمن سياقه التاريخي ونقومه وفق مقاييس المرحلة الزمنية التي ظهر فيها"(10).
3- ضعف التواصل مع التراث :
إن نظرة عجلى في فهارس مصادر كثير من البحوث الأدبية تُلمِح إلى ظاهرة مثيرة للتساؤل، ذلك أن المراجع المعاصرة ـ سواء أكانت في تاريخ الأدب أم في النقد الأدبي ـ تتصدر القائمة، لتتراجع وراءها المصادر القديمة، مما يعني أن الاتصال المباشر بالنص التراثي ضعيف أو مشوه أحيانًا، ولهذا تجد أغلب تلك البحوث تتعاور نصوصًا بعينها تكررها وتبني عليها مع أن ذلك النص قد يكون اختيار فرد واجتهاده في مرحلة من الزمن حكمتها رؤاه وتصوراته الخاصة، وقد يكون في المصادر من النصوص ما يبطل الأولى أو يوجهها في غير المسار الذي اتخذته أو ما يوحي بظاهرة مطردة تبلغ درجة التواتر.. وقد أدى هذا إلى نوع من السطحية في معالجة القضايا، وغلبة اللغة الإنشائية، بل إن التكرار غدا طابعًا مطردًا في البحوث النقدية سواء في المقدمات؛ العقلية أو النقلية، أو في النتائج، ولتصبح الكتب مضامين واحدة في قوالب شتى. وههنا لا بد من الإشارة إلى أن نقيض ذلك؛ أي التواصل العصابي بالتراث الذي يقوم على الإحصاء والاستقصاء، ليس بالبديل المثالي، وعلى الرغم من فائدته في بعض المجالات كالتأليف الموسوعي، فإنه إذا صار غاية في ذاته تحول عثرة في طريق الدرس المنهجي والتنظيري.
4- تقنية العبث بالمصطلحات والنصوص :
يقول اشبنجلر: "فأولئك الذين يضعون التعاريف يجهلون المصير"(11)، لأن الحياة صيرورة حية، والتعريف ثبات، وتجميد للمتحرك في ساكن، فما رأيك بمن يصوغ تعريف شيء من خارج عالم ذلك الشيء ليلزم ذلك الشيء بأن يكون كما يريد هو، ومع ما يبدو في الجملة من معاظلة لفظية فإنها تعبر بصدق عن نوع من معاظلة منهجية تحدث اضطرابًا في الفهم والتواصل وتقدح في مصداقية الحقيقة، إن هذا الأمر لا يتوقف عند حدود التعريف، إذ يتم التعامل مع بعض المصطلحات القديمة بالآلية نفسها، فتفصل عن سياقاتها لتغدو هلامية ومائعة وقابلة لتحميلها الصيغ الفكرية الممكنة وغير الممكنة جميعها(12)، ويزداد الأمر سوءاً في نقل النصوص والمقبوسات! ولكن ذلك لا يعني الدعوة إلى التشكيك في أمانة هذه الدراسات وزعزعة الثقة بها، ولكن المقصود التنبيه على ضرورة الحذر في الأخذ عن المراجع، وأهمية التواصل مع الكتب القديمة.
5- غياب التصور الكلي :
مشكلة الدراسات الأدبية الحديثة أنها فيما خلا منها من الانسياق المسرف أو المعتدل وراء النظريات الغربية وما خرج منها من إطار العدسات التي تبحث عن الثغرات لتجسمها وتضخمها، فإنها في الأعم لا تسعى إلى تكوين تصور كلي للظاهرة يحرص على النظر إليها في البعد كما في القرب(13)، وما كان منها يُعنى بالتحليل والتنظير أكثر من إجادته لعمليات الإحصاء والتقنين فإنه يربطها بسياقات اجتماعية أو سياسية، أو لنقل بوجه واحد من وجوهها، يجعل له حتمية القضاء والقدر ويشغله الفرح بوجدانه عن ترجيع النظر فيه للتثبت والتدبر واكتشاف الوجوه الأخرى الخفية(14)، ومن هذا المنطلق فقد سادت الذاتية والجزئية في الأحكام والنتائج النقدية، وهو ما أدى إلى شيء من التعنت في التعميم، والإسراف في التحتيم.
ونعتقد أن أي بحث يحاول تفادي الانزلاق في العثرات السابقة يجب أن يتضح أمام ناظريه أمران:
الأول؛ مجال البحث المعرفي، والثاني؛ طبيعة المادة التي يتعامل معها وما تحتِّمه من مناهج وآليات معرفية. وسوف نعرض في الصفحات الآتية وجهة نظرنا في هذين المجالين:
ثانيًا - المجال المعرفي :
إن تحديد المجال المعرفي للبحث يسهم كثيرًا في صياغة المنهج المشاكل لطبيعة البحث وروحه، ذلك أن الدراسات الأدبية عامة تدور في فلك أحد الأطر المعرفية التالية: تاريخ الأدب، والنقد الأدبي، ونظرية الأدب. ويُعنى الأوّلان بالتفاصيل والجزئيات من أحداث وأخبار ورجال ونصوص، ويشكلان بالتالي مجموعة غير محدودة من الصور المنفصلة التي يكون في تضامّها معًا تمهيد لصياغة نظرية أدبية متكاملة تستطيع أن ترسم مشهدًا عريضًا تتكامل فيه الجزئيات والمتناقضات في وحدة من العام والخاص، من البواعث الخفية والجلية.. وإذا كان التاريخ الأدبي أكثر قربًا من الموضوعية، فإن ذاتية الناقد وذائقته بل حتى مزاجيته تتدخل إلى حدّ كبير في أحكامه ونتائجه. وهذا لا يعني أن أحدهما ـ التاريخ والنقد ـ قد يخلص لأحد الوصفين، فالذاتية والموضوعية تتبادلان الحضور والغياب. أما نظرية الأدب فقوامها طاقات عقل "الباحث الفائق" الحدسية التي تحسن الاستعلاء على التفاصيل والانتقال إلى تلمس الانسجام والوحدة في المتفرقات وإعطاء تصور كليّ شمولي للظاهرة في حركتها العميقة والسطحية مستفيدة من نتائج النقد وتاريخ الأدب، وبما أن نظرية الأدب تبحر في عالم اللامنظور والمطلق فإن الذاتية تتدخل في توجيهها تدخلاً لا يستهان به(15).
بالاستناد إلى ما تقدم نقول: إن كثيرًا من الدراسات الأدبية ظلت متقوقعة داخل إطار النقد أو تاريخ الأدب، ولم تستطع أن تنفذ من إسارهما إلى رحابة النظرية الأدبية، إذ نعتقد أن الأدب العربي قد عانى كثيرًا نتيجة خنقه داخل رسوم النقد والتاريخ، فغدا شكلاً منبتًّا عن تربته ووطنه، قد يُلحظ في حركته التاريخ اللغوي أو السياسي، وقد يكون هويةَ مبدعه ولسانَ ضميره، ولكنه على الإطلاق ليس ترجمانًا للحضارة التي احتوته وغذته من إكسيرها ومداد قلبها!
إن الأدب ينتج عن مجموعات غير متناهية من العلاقات، وإن الدارس ليس بمستطيع أن يقاربه أو يدخل عالمه ما لم يدرك هذا التعقيد ويفهمه، قد يصح أن يبدأ من التاريخ غالبًا، ولكنه لن يصح في كثير من الأحيان أن يبدأ من النقد دون أن يشهد العلل الباطنية لسيرورة الأدب في الزمان والمكان والإنسان؛ مبدعًا ومتلقيًا، لأن فهمه سيكون في الغالب مشوهًا أو مبتورًا، ولن يصح حكمه في الجزئيات ما لم يستطع أن يتصور الخلفية الحضارية المتكاملة التي شكلتها مجموعات من القيم والمفاهيم التي قد يؤلف بينها ـ على عكس ما يتوقع عادة ـ التناقض لا التشابه.
ولعل هذا يستوجب أن ننوه بأن لكل حضارة نظرية أدب خاصة متميزة من نظريات الآداب الأخرى، وهي تنبثق من نظرية هذه الحضارة في المعرفة ومفاهيمها الأساسية وتقاد بمعاييرها وسلم أولوياتها، وفي علاقة جدلية تتدخل النظرية الأدبية في تأصيل وتكريس المعرفة والمفاهيم على الأسس والمعايير ذاتها دون أن يشذ طرف من الأطراف في انسجام كامل يحقق في النهاية كينونة الحضارة ووحدتها. وهنا يغدو التساؤل التالي مشروعًا: هل توجد نظرية أدب إنسانية، أم أنها لا يمكن أن توجد مطلقًا؟ إذا سلّمنا بالمنطق الذي بنى عليه اشبنجلر تصوره لحياة الحضارات فإن الجواب سيكون بالنفي حتمًا لأنه يرى أن فكرة "الإنسانية" خدعة اختلقتها الشعوب القوية لتذيب الشعوب الضعيفة في حمأتها وتسيطر عليها(16)، ومع تحفظنا تجاه مصطلح الإنسانية الذي يرادف المحتوى الفكري "للعولمة"، فإن لنا رأيًا آخر سنناقش اشبنجلر في منطلقه في غير هذا المكان من البحث، يتفق مع ما ذهب إليه حسين الصديق من أن "النظرة الفاحصة إلى تاريخ الآداب العالمية تجعلنا نعتقد بوجود النظرية الأدبية العامة، والنظريات الأدبية الخاصة في وقت واحد، وأن الأولى ما هي إلا نتيجة للدراسات المقارنة التي يمكن أن تجري على النتائج التي توصلت إليها النظريات الأدبية"(17)، وتصاغ النظرية الأدبية العامة من مجموع الأسس الفكرية والجمالية المشتركة بين الحضارات التي ترسخ في أصل الفطرة الإنسانية، "إن نظرية الأدب العام تقوم على ما هو إنساني عام ومشترك بين جميع أبناء البشرية... إن التشابه بين البشر هو الذي يقف خلف نظرية الأدب العام، والاختلاف والتشابه هما اللذان يقفان معًا في أساس نظرية الأدب القومي"(18). ومن رحم هذا التشابه تولد مقولة الحياد في بعض المناهج والأدوات المعرفية وتنشأ فكرة الأوليات والمسلمات الأساسية. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن نظرية الأدب ـ بل كل نظرية على الإطلاق ـ لها مفهومان؛ أحدهما فكري تجريدي يتمثل في صياغة الأفكار والمفاهيم المجردة في وحدة كلية متماسكة، والثاني منهجي إجرائي يتحدد في مجموعة الوسائل والأدوات والأوليات الفكرية أو التقنية التي يعتمد عليها البناء الفكري النظري، وينبغي للمفهوم الثاني أن يشكل الطور الأول في الهرمية النظرية فيتقدّم على أي تصور نهائي للظاهرة(19). والراجح لدينا أن الوجه المنهجي للنظرية يمكن أن يستفاد من عوالم غريبة عن عالم الظاهرة أو مناقضة لها فكريًا ومعرفيًا(20)، بيد أن الأدوات والمناهج والمفاهيم الأولية تكون أحيانًا سمتًا حضاريًا ورسالة ذات شيفرات فيروسية تحطّم العنصر المضيف أو تشوّهه.
ثالثًا - المنهج الحضاري وآلياته المعرفية:
إن "المنهج" يعني النظام والوحدة ويدل لغة على الطريق الواضح أو الطريقة(21)، وهو لا يتقيد مطلقًا بمدلول "القانون"، قد يكون القانون عنصرًا من عناصره ولكنه ليس ملزِمًا له، ومع ذلك فالمنهج في الواقع يترجَّح بين أن يكون نظامًا حيًّا، وأن يكون مجموعة من القوانين المتخشبة المفرغة من الروح، ويضعف النسغ فيه كلما ازداد قربًا من القانون والمنطق وفَقَد إرغام الحدس ويقين القلب(22). وفي المقابل، فقد يكون المنهج حيًّا على الرغم من عدم ضبطه في قواعد، فيكتسب كينونته من حيوات أشخاصٍ ووجودهم وحركة فكرهم ومن روح بعض المؤلفات المنجزة لا من التنظير له والتبشير به. ويظل المنهج ـ في النهاية ـ أداة أو بطاقة مرور لاختراق عوالم مجهولة أو ممانعة من المفاهيم والقيم والأشكال، وفك ألغاز الوجود والحياة والإنسان.
إن الواقع الأدبي العربي المعاصر يعاني تخمة مرهقة من المناهج الجاهزة المتضاربة، وعلى الرغم من وقوعها جميعًا وبنسب متفاوتة في شراك السلبيات التي أجملناها، فإنها لا تخلو ـ في الوقت نفسه ـ من أن تأخذ من الحقيقة بطرف، شأنها شأن العقل البشري الذي رُكِّب على التكامل بالاختلاف والتقاطع معًا، فقد تعاملت هذه المناهج مع الظاهرة الجمالية والأدبية تعامل العميان مع الفيل؛ كلٌّ عرّفه بما وقعت عليه يده من جسده، وكان الجميع في النهاية مخطئًا في تعميمه، ولكن صورهم في اجتماعها قد تصل إلى تعريف حقيقي أو مقارب للحقيقة، ولعل في تسميات هذه المناهج ما يفصح عن محتواها ويوحي بانزياحها إلى أحد وجوه الحقيقة في الوجود أو الفن(23). ومع ذلك فإن فيها جميعًا ـ أو لنقل في معظمها على أقل تقدير ـ ظاهرة مشتركة تكاد توحد بينها في قلة الجدوى أو ضحالة النتائج، وتتحدد هذه الظاهرة في كونها ـ أي المناهج ـ قد غلب عليها القانون لا النظام لأن النظام ـ كما قلنا ـ حياة، في حين أنها قد اجتثّت مع منظومتها المعرفية وأسسها الفكرية وأعرافها التقنية من بيئتها الأم (الغرب حتمًا!) بدعوى المثاقفة أو حوار الحضارات أو التطعيم بدم جديد! لتُزرع في عمق جسم يعاني جهاز مناعته ضعفًا أو علّة، وأكثر ما يتوقع منه أن يرفض الطارق الدخيل ليتابع حياته متكئًا على قواه الداخلية ورغبته في الحياة، بيد أن الوضع يصبح خطيرًا ومنذِرًا إذا كان الضعف مستشريًا فيسيطر الدخيل ويبدأ حينئذ في تدجين وسرطنة بل ابتلاع الخلايا السليمة، ومعلوم أن اللقاح لا يعطى لجسم ضعيف أو عليل، فما بالك بعملية زرع غير موجّه وربما جائر أحيانًا لعضو غريب بله ما تُعلَم مناقضته وعدم انسجامه! يقول اشبنجلر: "..وليس أي واحد من هذه الإمكانات [الحضارية] قابلاً للنقل إلى حضارة أخرى على الصورة الدقيقة ذاتها والشكل الذي عاشته حضارته واختبرته وعرفته"(24). إن الفكر القوي يمتلك من المناعة والحصانة ما يمكنه من احتواء تلك العناصر الدخيلة ليصهرها في بوتقته ويصبغها بصبغته، بيد أن الضعف المزمن الذي يتقلب الفكر العربي الحديث في أكنافه جعل من تلك المناهج المستوردة عناصر تدمير فيروسية غير قابلة للاستيعاب أو الامتصاص على الرغم من جدواها في بيئتها الأصلية. ومن خلال استحضارنا لكل ما تقدم فإننا نؤمن بأهمية فهم نقاط الضعف في هذه المناهج لتجاوزها وتفاديها، وتلمس مواطن القوة فيها لنفيد منها في توسيع آفاق بصيرتنا، وهنالك تصبح ـ هذه المناهج ـ أو على الأصح أسسها الوجودية(25) التي لا ترتبط بأصول معرفية خاصة أداة نفعّلها في السياق المناسب. ولكن هذا لا يعني مطلقًا أن منهجنا الذي نحن بين يدي عرض ملامحه يسعى لاكتساب هويته من التوفيق أو ربما التلفيق بين هذه المناهج! إننا نؤكد أن لمنهجنا شخصيته المستقلة التي يحرص على ألا تتنافى مع الخصائص النفسية والفكرية لأمتنا في الماضي والحاضر، على الرغم مما يبدو فيه من انفتاح يعلو به على إطار الزمان والمكان. ولما كان الوجود، موضوعَه الأول، تشكله جميع العناصر والقيم التي اتُخذت مبدأ لتلك المناهج فإنها وعبر ذلك تغدو ركائز محتمَلة يُركن إليها ما دعت الضرورة.
يقول الغزالي: "..فجانب الالتفات إلى المذاهب، واطلب الحق بطريق النظر لتكون صاحب مذهب.."(26)، أن نطلب الحق بطريق النظر هو المحرّض الحقيقي لاقتراح منهج مغاير أو جامع، وليس هو ـ على الإطلاق ـ هاجس المخالفة أو الرغبة في التميز أو التفرد بمذهب. ويمكنك أن تطلق على هذا المنهج ما شئت من الألقاب؛ الرؤيوي، أو الحدسي، أو التاريخي، أو التكاملي... بيد أن اصطلاح "الحضاري" أقرب ـ في نظرنا ـ إلى روح منهجنا وغايته، وسنعتمده في الدلالة عليه وعرض محتواه وأدواته.
ينبثق المنهج الحضاري من فكرة جوهرية صاغها الفيلسوف الألماني اشبنجلر في موسوعته "تدهور الحضارة الغربية"؛ مفادها أن الحضارات يمتاز بعضها من بعض بالروح الأوليّ الذي هو الجوهر الفرد لها ويتجلى في عالم الصير(27) بجميع مظاهرها الفلسفية والأخلاقية، العلمية والعملية... في الدين والقيم، في الرياضيات والهندسة، بل في أشد الأشكال دقة وهدوءاً. فالفن على هذا رمز تتخذه الحضارة "وسيلة من وسائل التعبير... إنّ كل فن كهذا هو تركيب عضوي إفرادي لا سلف له أو خلف. فنظريته وتقنيته وعرفه أو تقليده هي جميعًا أشياء تنتمي إلى طبيعته ولا تحتوي على أي شيء من الصحة الخالدة أو الكونية"(28). وبغض النظر عن التعميم الأخير، فإن الفن أكثر الأشكال ورعًا في الإفصاح عن الروح الجليلة، وهو في الوقت نفسه أشدها رقة ومراوغة، لأنه رمز المغزى الحضاري، أو ربما هو رمز الرمز أو معنى المعنى. إن كل أشكال الفن وتقنياته هي نتيجة إرغام حضاري باطني، و"بالإجمال يتحدد الفن بعلاقات قوى لا تقف عند ما هو بصري"(29)، وليس لفن، مهما كان، أن يوجد على ما هو عليه في غير حضارته التي ينبثق منها.. فلك أن تقرأ هذه الحضارة في أهون الأساليب الفنية وأكرمها، ولك أن تستبطن الظاهرة الجمالية ومنطق التقاليد في أشد تجليات الحضارة إمعانًا في المجافاة والبعد؛ إذ إن الحضارات يمتاز بعضها من بعض بما يجعلها دائرة مغلقة تصدر عن بؤرة أو مركز تدور في فلكه جميع القيم والمفاهيم والأشكال والمظاهر وتنجذب إليه انجذابًا قهريًا بما له عليها من فضل الإيجاد والإمداد، وتُضطر إلى التعبير عنه، فـ"كل حضارة يجب أن تمتلك بالضرورة فكرتها المصيرية الخاصة بها... [و] هي ليست إلا التحقق والشكل لنفس واحدة مفردة فريدة في نوعها"(30). وجميع التحققات ما هي إلا رموز أو"شعارات إلزامية قررها المصير وهي التي تستدعي باسم الحضارة الإفرادية من الفيض اللامتناهي من إمكانات العالم، تلك الإمكانات التي هي وحدها خطيرة وذات مغزى، ولذلك فهي ضرورية لها"(31). ولكن، ومع أننا نعتقد بتمايز الحضارات ووحدتها الداخلية فإننا لا نجاري اشبنجلر في الحتمية الجبرية التي جعلها للروح الكلي أو الرمز الأولي الذي اقترحه لكل حضارة، والتي تعني أن نحوّل فهمنا للتاريخ الحي وللصيرورة المتدفقة إلى قانون يحتم معالم الطريق ولا يحدسها على ضوء منارات كثيرة قد يضطرنا التيقن إلى تجاوز بعضها أو العدول إلى تلويح ومضاتِ أكثرِها بعدًا وأضألها نورًا، ولعل السر الحقيقي لذهاب اشبنجلر هذا المذهب تشاؤميته أولاً واستسلامه الذي يقيد الإرادة الإنسانية ويحجّم التفاؤل البشري في مواجهة الصيرورة الهدارة في غير ردّ أو مقاومة، إذ قدّم تصوره الخاص للحضارات على أنها كائن عضوي تاريخي مسيّر بإرادة عليا قاهرة يتنقل في رحلة ما بين مولد وطفولة وشباب وحينما يستنزف طاقاته وإمكاناته الداخلية يتعضّى وتأكله الشيخوخة والهرم، ولا إمكان بعد ذلك لبث الحياة في رُوعه من جديد. وثانيًا عدم إيمانه بكل ما يتعلق بفكرة "الإنسانية" التي شاعت وسيطرت في زمنه حتى اتُخذت ذريعة لإذابة واستنزاف الشعوب الضعيفة، فهمّش أو ربما غيّب ونفى المشترك الإنساني في مقابل الخصوصية الحضارية التي تميز الحضارات. إن هذا المشترك هو ما يُعبَّر عنه في التصور القرآني بلفظ "الفطرة"، وعلى قدر إيماننا العميق بوجود خطوط حمراء تحد الحضارات المختلفة؛ المتجاورة أو المتعاقبة، وتمنع ذوبان إحداها في الأخرى وتحفظ لها سماتها وروحها، فإننا من وراء ذلك نميل بحزم إلى أن المشترك الإنساني/الفطرة تتحكم في كينونة الإنسان أيًا كان وصياغة الحضارات جملة وفق سنة لله ماضية تأخذ في حتميتها شكل الصيرورة التاريخية التي يطّلع بها اشبنجلر، وهي السر في التفاعل المتبادل بين أجناس البشر المختلفة في قضايا إنسانية أساسية؛ فكرًا، ومُثُلاً، وفنًّا، إلا أن هذا لا يعني أن التأثر يكون كاملاً ونهائيًا، إذ إن الدخول إلى عتبة المنطقة الحضارية المحظورة لا يتأتّى إلا لمن ينتمي إلى تلك الذات الحضارية عينها. ولعل الإيمان بمثل هذه العمومية يستطيع أن يفسر بعضًا من القضايا التي لم يستطع اشبنجلر تفسيرها أو تعليل ظهورها في حضارات مختلفة متباينة الروح والرؤى(32)، وإذا كان له أن يفهم وجود تيار الإلحاد والاتجاه المادي في الحضارة الإسلامية ذات الطبيعة الصوفية ـ على حدّ تعبيره ـ على أنه مظهر متوقع لمرحلة المدنية(33)، فإنه لن يستطيع أن يعلل النزوع المثالي في الحضارات المادية: كالظاهرة الأفلاطونية في الحضارة اليونانية، وكالمذهب الرومانسي والنزوع الصوفي عند بعض فلاسفة أوربا في الحضارة الغربية. إن الأمر في الحقيقة يحكي قصة الإنسان؛ المخلوق الخليفة المترجِّح بين عبوديته لله وألوهية ادعاها لنفسه..!
وإذا كانت عملية المعرفة هي علاقة بين محاور ثلاثة؛ ذات عارفة وموضوع وأدوات معرفية، فإن المنهج الحضاري يقدم مجموعة من الصيغ تساعد في تجنب الانغلاق في ذات الدارس وفي أدواته المعرفية، لتحقيق التواصل مع موضوع المعرفة في أعلى درجاته وآمنها:
من المعلوم أن الموضوعية والحياد مطلب لا غنى عنه في الدراسات العلمية، أيًا كان حقلها المعرفي، بيد أن للعلوم الإنسانية خصوصية يجب أن تراعى، وإن الذاتية فيها إحدى الأوليات وهي التي تعطي خلاصاتِها المعرفية التماسكَ والوحدة بل الجِدّة والإبداع أحيانًا، ولعل اشبنجلر كان من القلائل الذين عوّلوا على أثر الخصوصية الفردية في اكتساب المعرفة والوصول إلى الحقيقة إذ يقول: "وأولئك الناس الذين يرسلون بنظرات ثاقبة فاحصة إلى فرضيات الفكر الحي ونظرياته سيعلمون بأننا لم نُعطَ القوة لاكتساب البصيرة في مبادئ الوجود الأساسية دون أن تعتلج صدورنا بعواطف متعارضة متصارعة. فالمفكر هو إنسان يرتكز دوره على تجسيد الزمان رمزًا وذلك وفق رؤياه وفهمه. والحقيقة في نظره هي، على المدى الطويل، صورة العالم الذي وُلد حين ولادته. إنها ذاك الشيء الذي لا يخترعه، بل بالأحرى يكتشفه داخل ذاته. إنها (الحقيقة ـ المتربعة) نفسه مرة ثانية، إنها وجوده المعبَّر عنه بكلمات، إنها معنى شخصيته المصاغة في مذهب غير قابل للتعديل أو التبديل بالنسبة إلى حياته، وذلك لأن الحقيقة وحياته تنطبق الواحدة منهما على الثانية انطباقًا كليًّا"(34)، ولهذا فـ"الإقبال على فهم أي نص [كما يرى ناصف] دون أية مسلمات أو مقاصد سابقة خرافة. ومهمتنا ـ حقًا ـ هي أن نبحث عما يحلل القصد أو الهدف كما نبحث في الوقت نفسه عن التماسك الذي يربط آثار هذه الحرية والسيولة فيعطيها في بعض القراءات شكل القصد أو الغاية. هذا التوازن هو نوع خاص من التعاطف الذي لا يمكن فهم أي نص أدبي دونه. ومن الخطأ أن يقال إذن: إن الخطة الصحيحة أمام النص هي ما يسمونه الموضوعية أو الحياد، فالحياد موقف نشأ من الخلط بين العلم الطبيعي ودراسات العالم الروحي.."(35)، أو من تأثير منهج الشك الديكارتي الذي وجّه الفكر الغربي(36)! إن منطق التعاطف في مطالعة التراث ومحاكمته غدا تهمة في المناهج المعاصرة الأمر الذي حدا بمصطفى ناصف إلى الإلحاح عليه على أنه شعور حيوي يزيل فجوة السنين وسطوة المواضعات العصرية.
يتصل الذهن بالموجودات ويكون تصوّرًا عنها أو يحكم عليها عبر وسائل معرفية متنوعة يسيطر بعضها أحيانًا فيُذوي العناصرَ غير الفعّالة أو المفعَّلة، ويبدو أن في الإنسان قوى غير الحواس والعقل تسهم إسهامًا كبيرًا في العملية المعرفية منها أو ربما أرقاها الحدسُ أو اليقين الباطني أو النور الإلهي بتعبير الغزالي(37)، ومهما تكن تسميته فإنه يمثل الشرارة التي توحّد طاقات الإنسان وخبراته الواعية واللاواعية فيجمع المتفرقات ويرى الأجزاء بعين الكل، ولكن مشكلة الدراسات الإنسانية ـ ولعلها مشكلة تربوية وتعليمية في الدرجة الأولى ـ إنما هي في التعويل على المنطق السببي والمحاكمة العقلية التي تؤدي إلى السطحية والضحالة وربما العقم أحيانًا فتُفقد القدرة على الإصغاء إلى الهدير الداخلي، والنبض الحي للأشكال المراوغة. ولعل الفكرة، أي فكرة، لا تستطيع أن تخترق حاجز العقل وتحرك آلية الحدس إذا لم تصبح هاجسًا يمتزج بضمير الإنسان ووعيه وحياته الشعورية واللاشعورية، فيلحظها في الموجودات كلها، بل في ذاته فتحرضه وتلهمه وتطوره، وإنه لمن المتاح للفرد أن يكتشف ذاته من خلال حركة فكرة فيها، وله أيضًا أن يفكّ أحجيةً بمعرفة ذاته واستبطان أغوارها واستكناه أسرارها، وكما يستطيع أن يقرأ الحاضر في الماضي فإنه من الممكن أن يقرأ الماضي في الحاضر، يقول الجابري: "إن نقطة انطلاق الممارسة المحكمة للنقد هي وعي الذات على حقيقتها: "اعرف نفسك" من حيث إنك حصيلة سيرورة تاريخية ظلت سارية حتى اللحظة الراهنة، سيرورة تركت فيك آثارًا لا حصر لها دون أن تترك سجلاً يحصيها، ولذلك كان من الضروري الأكيد البدء بكتابة هذا السجل"(38).
وتظل الذاتية عنصرًا إيجابيًا وفعالاً ما لم يتدخل الإسراف ليحوّلها عبئًا يثقل كاهل الحقيقة وقد يزيفها، فتصير الذاتية أنانية وجبروتًا، والتعاطف عصبية وتقديسًا ممجوجًا، والحدس شطحات وأخيلة لاترتبط بالتكوين الذهني البشري ـ على اختلاف فعّالياته ـ بسبب، فيتضخم جانب من جوانب الذات على حساب الجوانب الأخرى وتغدو "المعرفة" عرقلة ومأزقًا جديدًا يضاف إلى الرصيد السابق الذي لم يخضع للصقل والتصعيد بالمعرفة ولها. ومن الجليّ أن الفكر العربي الحديث يراوح نتيجة لأسباب كثيرة، لعل الإمعان في الذاتية يكون أحدها أو أبرزها، ونرى مصطفى ناصف ينبه على ذلك في قوله: "وما تزال كلمة أنا أو الذات تلعب في الأذهان حتى أصبح كل شيء جديرًا بأن يتملّقها، وأصبح من الطبيعي أن تبسط سلطانها، ونتجت عن ذلك معايير كثيرة تحتاج إلى إعادة نظر، وهي معايير جملتها أن على الأقدمين أن يتقربوا إليّ، وأن على الأدب العربي أن يثبت غاية جهده لكي يبرز في صورة مطابقة لمطالبي وذوقي ووجداني. ومن الممكن أن نتصور إجمالاً عاقبة مثل هذا التفكير، وما أدى إليه من تخلخل العلاقة بيننا وبين التراث. وينبغي ألا نتردد في مجاهرة أنفسنا بهذا الواقع، ذلك أن التراث أكبر من كل ذات مفردة، وهو صورة دائبة التنوع لعلو الكل على الذوات"(39). إن الإيمان بنسبية المعرفة البشرية، سواء في القبول والرفض للفكر الآخر، أو في الحكم و الاقتراح، وانتهاج الوسطية والاعتدال في بسط القضايا وتبني المفاهيم وبناء العلاقة بين الذات والموضوع والعقل والحدس، ، والسعي الجاد للانعتاق من أسر أحادية الرؤيا،.. كل ذلك يوجد ظرفًا داخليًا متوازنًا يمكن أن يعوّل عليه في تفادي المزالق السابقة، والوثوق بمحاكماته ونتائجه.
كان ذلك على المستوى الداخلي للذات العارفة، فما شأن الصيغة المنهجية وما الآليات الفكرية الممكنة في التعامل مع المادة أو الموضوع الخارجي، جمعًا وتصنيفًا واستنتاجًا؟
إن وضوح مقصد البحث وغايته يجنّبه كثيرًا من الزلل ويحتّم طبقة معينة من الأدوات والمناهج تكون أكثر انسجامًا ومرونة في سبيل الوصول إلى الهدف، ومعلوم أن وظيفة الشيء تحدد طبيعته، والبحث في النهاية خطاب موجّه إلى عاقلين، ومن أوّليات وضوح الرؤيا والهدف معرفة "العقل التراثي" الذي يتم التعامل معه ـ على ما ذكرنا ـ أو "العقل الحديث" الذي تتم مخاطبته في الحاضر، لأن أي إسقاطات من الماضي على الحاضر بغية اكتشافه أو تقويمه سوف تصير عبئًا بل عبثًا إن لم نفهم هذا العقل الجديد الذي صاغته عناصر أشد اختلاطًا مما يتوقع "فينبغي، قبل كل شيء،[على ما يرى أحمد محمد شاكر] أن نتدبر أمر هذا "العقل" الحديث في العالم الإسلامي، لأن فهم هذا "العقل"، هو الذي يحدد لنا طريقنا ومنهجنا في كل دراسة صحيحة، نحب أن نقدمها إليه حتى يطمئن ويرضى"(40)، وفي المقابل فإن الدخول إلى عقول الماضين من خلال بوابة العقل الحديث أو محاكمتهم بمعايير معاصرة لأشد خطرًا على الحقيقة من التتار على مكتبة بغداد!
إن الطابع الحيادي للأدوات المعرفية والمنهجية يجعل من عملية استعارتها بين البيئات الفكرية والحضارية أو بين الحقول المعرفية المختلفة عملية ميسورة، إلا أن الأدوات قد تغدو ـ وتماشيًا مع ما أشرنا إليه في فقرة سابقة ـ فكرًا ومضمونًا إذا كانت مرتبطة بأساس فكري، أو كانت رمزًا لمغزى حضاري، ومع أنه لا غنى عن المنهج الوصفي في التحضير لقول الكلمة النهائية في بحث ما فإنه يظل مرحلة أولى في مناقشة أي فكرة جوهرية تنتمي إلى الحضارة العربية الإسلامية ويصبح من الضروري اللجوء إلى المنهج المعياري الذي هو الآلية المنهجية المهيمنة في بنائها المعرفي والقيمي، على شرط أن يكون المعيار نابعًا من ذاتية تلك الحضارة ونظامها الداخلي لا مفروضًا عليها من خارج.
تحدثنا كثيرًا عن ضرورة الاستعلاء على التفاصيل لتكوين تصور شمولي للظاهرة الأدبية وصياغتها في نظرية محكمة تستلهم محتواها من انخراطها في المجرى الحضاري الهدّار الذي لا يُردّ، ولما كانت البحوث تبدأ من تفكيك الظاهرة وتشطير معالمها بغية انتخاب مجموعة من الشرائح والعينات تتم فيما بعد عملية تركيبها للنظر إليها متجاورة متضامّة، فإنها في الغالب تحتفظ بفجوات وأخاديد نتيجة التشريح والتشطير، ذلك أن التراكمات التي تبنى على أساس الإحصاء والاستقصاء ومن ثم المشابهة، ثلاث غايات تدأب البحوث للقبض عليها، تُغيِّب ـ على أهميتها(41) ـ نمنمات ضئيلة وخلفيات مواربة تعطي الظاهرة التناغم بل الحياة، فـ"الدقة لا تؤدي إلى الحقيقة"(42) دائمًا كما يقول ماتيس. إن الإصرار على المماثلة والتواتر ليكون الحكم الفيصل في مقولة التاريخ ـ أعني به التاريخ الحي بمفهوم اشبنجلر وليس التأريخ كمدونة ـ يجعلنا نشك في مصداقية نتائج البحوث المقدمة على هذا الأساس، ويعبر اشبنجلر عن ذلك بقوله: "إن المشابهة السطحية هي مكيدة عظمى وقعت في شباكها جميع أبحاثنا"(43)، إذ لا بد من الإيمان بأن المشهد الكلي تتعاضد في تشكيله وحدات يكون التناقض والاختلاف معلمًا بارزًا من معالمها يسهم في كسر الرتابة ويضفي عليه التنوّع والغنى، فمن الأجدى التعامل مع هذه الوحدات المتشابهة أو المتناقضة على أنها علامات ورموز(44) تشي بأسرار وتهمس بأخبار، تلوّح بها ولا تفصح، ولو أفصحت لما عادت رمزًا، يقول اشبنجلر: "إن الرؤيا التاريخية الحقيقية تنتمي إلى مملكة المغازي (جمع مغزى) حيث لا تكون الكلمات المتعارضة: صوابًا وخطأ، بل إنما تكون: عميقة وضحلة"(45). وعليه فليس كل ما هو واضح يعني أنه في المتناول، إذ قد يكون الوضوح والبداهة أشد إمعانًا في الممانعة والبعد، يقول الرازي: "..فاعلم أن العجز عن التعريف قد يكون لخفاء المطلوب جدًا وقد يكون لبلوغه في الجلاء إلى حيث لا يوجد شيء أعرف منه ليجعل مُعرّفًا له"(46). ولعل الباحث لا يستطيع أن يمتلك التقنيات السابقة ما لم يؤمن بوجود منهجين كونيين يمكّنان الإنسان من تنظيم الوقائع المحيطة به على شكل صورة للعالم؛ الأول منهج الطبيعة التي "تخصص للأشياء في الصيرورة مكانها كأشياء في الصير. [والثاني منهج التاريخ الذي] ينظم الأشياء في الصير بالاستناد إلى صيرورتها"(47). وهذا يعني أن ننظر إلى الأعيان ـ بمصطلح علماء الكلام ـ بعين النظام أو الجوهر الذي ينسق حركتها ومواقعها في عالم الملك والأعراض، وأن نلحظ الروح التي تتفجر من وراء الأشباح والرموز، وأن نفهم المغزى لا المعنى فقط.
وبعد هذا العرض السريع والموجز لمفهوم المنهج الحضاري قد يتبادر إلى الأذهان أحد أمرين: الأول أن هذا المنهج، وبما يخالف أصلاً من أصوله، يستمد هويته أساسًا من مصادر غربية وغريبة عن المسرح الحضاري للأدب العربي، نقصد بذلك نظرية اشبنجلر الفيلسوف الألماني. والثاني أنه ـ أي المنهج ـ قد يبدو زئبقيًا وشكلاً من أشكال الترف الفكري أو المثالية المجردة العسيرة على التمثل في الواقع، إن حضور هذا الاعتراض في ذهني دفعني إلى الإدلاء بالتوضيح الآتي:
يستمد التصور السابق للمنهج الحضاري ملامحه وتماسكه ـ في الدرجة الأولى ـ من حركة الأفكار والمشاعر في نفسي، بل هو على وجه اليقين والدقة حياتي كما عشتها وعلمتني التجارب والمحن أن أعيشها، ولم يكن وليد النصوص والمقبوسات التي عرضت فأغنت البحث ـ دون أدنى ريب ـ ووسعت آفاق الرؤيا فيه، وما الإصرار على الاستشهاد بها أو الإحالة إليها إلا من باب الأمانة والعرفان والتأييد، والحكمة ـ في النهاية ـ ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها. ثم إنه مما يزيل الاعتراض السابق أني لم أقبل اشبنجلر على ما هو عليه، بل ناقشته في بعض المناحي التي لم تكن ـ من وجهة نظري ـ تنطق بمنطق الأشياء، أو تتوافق مع الطبيعة المتميزة للحضارة العربية الإسلامية على أقل تقدير، كما أني قد وجدت لمنهجنا في الرصيد النقدي العربي تطبيقًا إجرائيًا يصح أن يكون مثالاً عليه وممارسة له في كثير من أسسه، أعني بذلك مؤلفات مصطفى ناصف النقدية(48) ؛ الحديث منها خاصة، وإن لم تجر في الظاهر على سنن نظرية مرسومة وحدود منهجية معلومة. والمنهج الحضاري في النهاية هو طريقة في التفكير قبل أن يكون شكلاً للفكر، فهو على هذا يمتلك حياد الأدوات المعرفية الأساسية في الذهن البشري ويبني على المشترك الإنساني إلا ما تفرضه الخصوصية الحضارية. وللباحث في النهاية أن يمتحن طاقات هذا المنهج وجدواه وانسجامه شكلاً ووظيفة في تطبيقنا الخاص له على إشكالية "وظيفة الخطاب الشعري العربي ـ مقاربة على ضوء المنهج الحضاري".
إن الواقع الأدبي العربي في مأزق، وهو يشير إلى أزمة مصيرية تعيشها الأمة، وإذا كنا قد أكثرنا من مدّ أعناقنا إلى أسطحة جيران لنا؛ أصدقاء أو أعداء، أوفياء أو خونة، فقد آن الأوان لكي نسلط أنوار البصيرة على بواطن ذواتنا لنكتشفها أولاً كهدف أسمى، ولنرسم لها موقعها من الحي العالمي ثانيًا؛ فـ"لا يستطيع أحد أن يحكم على التاريخ إلا ذاك الذي اختبر التاريخ داخل نفسه"(49)، كما يقول غوتيه.
فالإيمان بخصوصية الذات وتميز المحتوى الحضاري في نسق وحدة بشرية فطرية هي مقولة منهجنا الأساسية، ويمكن أن تفهم على ضوئها مجموعات غير محدودة من الظواهر والقيم؛ الفكرية والفنية.
ولعل المساحة المسموحة للبحث والسلطة الوظيفية لم تفسح لمنهجنا من المجال ما يعبر به عن رؤاه تعبيرًا واضحًا ومفصلاً، ولذلك جنح إلى التركيز والتكثيف الذي قد يكون العلة في غموض بعض مناحيه وحيثياته.
وإذا كان البحث يمتلك من الجرأة والثقة ما يخول به نفسه لهزّ قناعات وربما مواضعات سائدة فإنه لا يدعي لنفسه العصمة أو احتكار الحقيقة، هو في الواقع خطوة أولى في مشروع ينبغي أن تقوم به جهود وطاقات متنوعة ومتضافرة نستبشر تتاليها، ثم هو من وراء ذلك علامات منهجية قابلة للاختبار على أفكار لا حصر لها في بحوث متوقعة، إن شاء الله.
الحواشي والتعليقات:
* كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة حلب – سورية، قسم اللغة العربية، اختصاص نظرية الأدب.
(1) اشبنجلر، أسوالد (1880-1936م): فيلسوف ألماني، متخصص في العلوم الطبيعية.
(2) الجابري ، محمد عابد : الخطاب العربي المعاصر ، دار الطليعة ، بيروت ، ط/2 ، 1985 ، ص : 7.
(3) على حسب تعبير غرامشي، نقلاً عن: الجابري، محمد عابد: الخطاب العربي المعاصر، ص 7.
(4) اشبنجلر، أسوالد: تدهور الحضارة الغربية، تر: أحمد الشيباني، منشورات دار الحياة ـ بيروت، 1964، 1/256.
(5) المرجع السابق، 1/ 528.
(6) الصائغ، عبد الإله: الخطاب الإبداعي الجاهلي والصورة الفنية، المركز الثقافي العربي ـ الدار البيضاء، ط/1، 1997، ص9.
(7) عبود، شلتاغ: الأدب والصراع الحضاري، دار المعرفة ـ دمشق، ط/1، 1995، ص 38.
(8) ولم يكن هذا التغييب أو الإغفال محصورًا داخل نطاق الجنس الأدبي الواحد، إذ إن النثر العربي لم يحظ بالمكانة اللائقة به في أولويات الدرس النقدي المعاصر مع أنه أثبت حضورًا قويًا في الحركة الثقافية والأدبية العربية، ابتداء من القرن الثاني الهجري، وقد يصح أن نقول: مع مستهل التكوين الثقافي الإسلامي!
(9) الطرابلسي، أمجد: نقد الشعر عند العرب حتى القرن الخامس للهجرة، تر: إدريس بلمليح، دار توبقال ـ الدار البيضاء، ط/1، 1993، ص244.
(10) المرجع نفسه، ص253.
(11) اشبنجلر، أسوالد: تدهور الحضارة الغربية ،1/37. لا ننفي بهذا ضرورة التعريف وفائدته في مجال نقل المعرفة والخبرات، وتنظيم العلوم والآليات، ولكن الواقع التاريخي لعملية تقنين المعرفة يؤكد الهوة السحيقة التي تنشأ وتتسع بين التعريف والمعرَّف بعامل الصيرورة الزمنية الحية التي لا تعرف الثبات. ولعل التعابير اللغوية المشهورة: قتله بحثًا، أو أصاب كبد الحقيقة، تنم على توفر إحساس نفسي غامض بهذه المفارقة.
(12) كتحديد مفهوم الشعر العربي بتعاريف كثيرة معظمها مبني على منطلقات فكرية غريبة عن بيئته، وكرسم العلاقة بين اللفظ والمعنى بعيدًا عن مقاربة حقيقية لأبعاد هذه العلاقة في واقع الشعر العربي، مع إغفال أثر الظروف الحضارية في توجيهها ورسم مسارها..
(13) إن الشعر العربي لم يُدرس في الغالب خارج إطار الفن والتقنية اللغوية، وتمت معالجته على أنه قضايا فنية ولغوية، وأحداث تاريخية منفصلة لا يجمعها رابط، اللهم إلا رابط الزمان أو المكان أو الأعلام..
(14) واقرأ إن شئت في عناوين البحوث والدراسات السائدة لتجدها تقدم التراث من خلال زاوية واحدة تخفي بإشعاعها جميع الزوايا الأخرى؛ كالواقعية في الأدبين السوفيتي و العربي لماجد علاء الدين، الرمزية في الأدب العربي لدرويش الجندي، الأسطورة في الشعر العربي قبل الإسلام لأحمد إسماعيل النعيمي..
(15) للتوسع ينظر: الصديق، حسين: مقدمة في نظرية الأدب العربي الإسلامي، منشورات جامعة حلب، 1994، ص141 وما بعد.
(16) ينظر: اشبنجلر: تدهور الحضارة الغربية، 1/612،620.
(17) الصديق، حسين: مقدمة في نظرية الأدب العربي الإسلامي، ص21.
(18) المرجع السابق، ص22. وقد نوّه ابن خلدون بفكرتي تمايز الآداب وتقاربها تنويهًا سريعًا حين قال في فصل صناعة الشعر: "هذا الفن من فنون كلام العرب وهو المسمى بالشعر عندهم ويوجد في سائر اللغات إلا أننا الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب فإن أمكن أن تجد فيه أهلُ الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم وإلا فلكل لسان أحكام في البلاغة تخصّه"، (المقدمة، ص630). ويكون ابن خلدون بهذا قد سبق اشبنجلر في جوهر النظرية وكان أفقه أرحب من أفق هذا الأخير!
(19) المرجع السابق، ص36.
(20) وذلك اعتمادًا على وجود المشترك الإنساني الذي يكون علة وجود نظرية الأدب العامة التي نوهنا بإمكان وجودها في الفقرة السابقة.
(21) المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ط/3، 1993، مادة "نهج". وهو الـ" system " أي النظام أو الـ"method" أي الطريقة في اللغة الإنجليزية.
(22) ولعل في الأصل اللغوي لمادة "نهج" ما يلمح إلى استعدادها لاستيعاب هذه الأضداد جميعًا، فهو مع دلالته على الوضوح يدل على تتابع النفَس من الإعياء وعلى البلى والخَلَق. (ينظر: المصدر السابق، مادة "نهج").
(23) نلاحظ الشعارات: الواقعية، النفسية، الأسلوبية، جمالية التلقي.. ولا بد أن نشير إلى حالة الوحدة والامتزاج بين الفكر التنظيري والمناهج في هذه المذاهب، حتى إن كثيرًا منها تقترح منهجيتها وأدواتها وفق منظومتها الفكرية ونظرتها للحياة والكون والإنسان.
(24) اشبنجلر: تدهور الحضارة الغربية، 1/333.
(25) كالعامل المادي أو الاقتصادي ـ الاجتماعي الذي يتربع أساسًا للمنهج الاشتراكي أو الواقعي، وكالعامل النفسي الذي يحصر فيه المنهج النفسي جميع الفعّاليات والنشاطات البشرية، والعامل الوجداني والعاطفي، والتراثي والحداثي، والسياسي والمعرفي، وأثر الشكل ومنطوق البناء اللغوي.. وغيره كثير ليس هنا مجال إحصائه.
(26) الغزالي: ميزان العمل، تح: سليمان دنيا، دار المعارف ـ مصر، ط/1، 1964، ص409.
(27) "الصير" كلمة ترجم بها أحمد الشيباني مصطلح اشبنجلر (The become) الذي يستعمله في مقابل مصطلح الصيرورة ( Becoming) فهو لحظة من لحظاتها وإمكان من إمكاناتها، ويرادف الواقعة والشكل، لا التاريخ والمصير.ينظر: اشبنجلر: تدهور الحضارة الغربية، 1/122.
(28) اشبنجلر: تدهور الحضارة الغربية، 1/400.
(29) كرابار، أوليغ: كيف نفكر في الفن الإسلامي، تر: عبد المجيد ناظم، وسعيد الحناصلي، دار توبقال ـ الدار البيضاء، ط/1، 1996، ص23.
(30) اشبنجلر: تدهور الحضارة الغربية، 1/252.
(31) المرجع السابق، 1/333.
(32) إلا على أنها حقب متعاصرة في حضارات مختلفة، لا تجمعها وحدة الزمن بل رتبتها في عمر الحضارة، ولم يعلل وجودها أصلاً في حضارة تتبنى مفاهيم تناقض هذه الظواهر مناقضة جذرية، ويحكمها رمز مستبد في تمايزه!
(33) يرى اشبنجلر أن الحضارات تمر بمراحل؛ الأولى مرحلة النبع حيث تحقق الحضارة رمزها في الواقعة بإنجازات وفنون وعلوم، ثم يغلب عليها الترف والمادة فتدخل في مرحلة المدنية وتعطي آخر ما لديها فيغلب الشكل والشك وينضب معين الروح وتبدأ بتكرار نفسها، ثم تأتي النهاية الوشيكة لتمهد لميلاد روح حضاري جديد ومختلف.
(34) اشبنجلر: تدهور الحضارة الغربية، 1/35-36.
(35) ناصف، مصطفى: نظرية المعنى في النقد العربي، دار الأندلس ـ بيروت، ص220.
(36) يقول محمود محمد شاكر في مقدمته لديوان المتنبي، وهي بعنوان "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا": "ولا يغررك ما غَرِي به،... بعض المتشدقين المموهين: "أن القاعدة الأساسية في منهج ديكارت، هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل بحثه خالي الذهن خلوًا تامًا مما قيل"، (في الشعر الجاهلي:11) فإنه لا أصل له، ويكاد يكون بهذه الصياغة، كذبًا مصفى لا يشوبه ذَرْوُُ من الصدق،... بل هو بهذه الصورة خارج عن حدود البشر. هبه يستطيع أن يخلي ذهنه خلوًا تامًا مما قيل، وأن يتجرد من كل شيء كان يعلمه من قبل، أفمستطيع هو أيضًا أن يتجرد من سلطان "اللغة" التي غذي بها صغيرًا... أفمستطيع هو أن يتجرد من سطوة "الثقافة" التي جرت منه مجرى لبان الأم من وليدها؟ أفمستطيع هو أن يتجرد كل التجرد من بطشة "الأهواء"..."، (ينظر: ديوان المتنبي، تح: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني ـ القاهرة ،1987، ص29، والتقويس من أصل الكتاب).
(37) يقول الغزالي: ".. ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر. وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة، لقد ضيق رحمة الله الواسعة"، (المنقذ من الضلال، بقلم: عبد الحليم محمود، مكتبة الأنجلو المصرية ـ القاهرة، ط/4، 1964، ص17).
(38) الجابري، محمد عابد: الخطاب العربي المعاصر، ص190.
(39) ناصف، مصطفى: قراءة ثانية لشعرنا القديم، دار الأندلس ـ بيروت، ط/2، 1981، ص27.
(40) "فصل في إعجاز القرآن"، تقديم لـ: الظاهرة القرآنية، لمؤلفه: مالك ابن نبي، ص10.
(41) يقول اشبنجلر: "إن المماثلات (Analogies) طالما هي تعرض التركيب الجوهري فإنها نعمة وبركة بالنسبة إلى الفكر التاريخي. فتقنيتها المتطورة برعاية فكرة مفهومة، ستنتهي بها حتمًا وتأكيدًا إلى نتائج محتومة وإلى براعة منطقية فائقة"، (اشبنجلر: تدهور الحضارة الغربية، 1/43).
(42) نقلاً عن: بهنسي، عفيف: جمالية الفن العربي، سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت، ع/14، شباط، 1979، ص77.
(43) اشبنجلر: تدهور الحضارة الغربية، 1/78-79.
(44) ينعت اشبنجلر ميرفولوجيا (منهاجية) التاريخ والحياة بالسيمائية،في مقابل ميرفولوجيا الميكانيكي والممتد فيما يتعلق بقوانين الطبيعة والعلاقات السببية.. (ينظر: المرجع السابق، 1/206).
(45) اشبنجلر: تدهور الحضارة الغربية، 1/199، والتقويس من عمل المترجم.
(46) الرازي، محمد فخر الدين بن ضياء الدين: مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، المطبعة العامرة بالشرقية، ط/1، 1308هـ، 1/291.
(47) اشبنجلر: تدهور الحضارة الغربية، 1/196.
(48) كـ "نظرية المعنى في النقد العربي" و "قراءة ثانية لشعرنا القديم" و "النقد العربي.. نحو نظرية ثانية"..، ونذكر على ذلك مثالاً رأيه المتميز في الآثار السلبية لفهم التراث الأدبي العربي القديم من خلال النزوع الذاتي الذي سيطر في أوائل القرن الماضي على نقادنا بعامل الانبهار بالنهضة الفكرية الغربية، واقتباس مثلها وقيمها! ينظر مقدمة كتابه: قراءة ثانية لشعرنا القديم.
(49) اشبنجلر: تدهور الحضارة الغربية، 1/211.