الرسالة الثانية: ( يا صاحب المقالة المفرج عنها : تهانينا)
( يا صاحب المقالة المفرج عنها : تهانينا)
الرسالة الثانية
عباس المناصرة
(وجه الأستاذ الناقد عباس المناصرة هذه الرسالة إلى الدكتور مأمون فريز جرار ردا على مقال الدكتور الذي قدم عرضا ونقدا موجزا لكتاب المناصرة ونشرته مجلة الأدب الإسلامي في عددها السادس والثلاثين . و ( رابطة أدباء الشام ) إذ تنشر هذا الرد تؤكد حرصها على خدمة الحقيقة العلمية والحركة الأدبية والنقدية الإسلامية بكل حيادية وتجرد)
1.أشكر الدكتور مأمون على القراءة الشاملـة والعرض الأمين المفصل للكتاب ، وحيث شعرت أنني أمام ناقد يحترم نفسه ، لأنه يحترم النقد ، فينطلق للكتابة من واقع ذاتي تحركه الرغبة الصادقة في الحراك النقدي الذي يخدم مصلحة النقد الإسلامي ، وهو يهدف إلى التقويم والإفادة ، ويتحلى بروح الحياد ويتحرى الإنصاف في حدود ما يظن، وأظن أن ذلك من ثمرة الأخلاق جعلنا الله وإياه من المخلصين .
2.أنقل للدكتور مأمون التهاني الحارة بمناسبة الإفراج عن مقالته المعتقلة منذ عام 1997 ، وكان الفضل في هذا الإفراج للدكتور عبده زايد الذي قدم الكفالة للجهات الراعية التي حرضت على هذا الأمر ، فلبى مشكورا من خلال مقالته العصماء في العدد ( 36 / 2003 ) .
3.أخي الكريم الدكتور مأمون جرار ، لقد أفدتني كثيرا في فهم قيمة أفكاري النقدية ، التي لا تظهر إلا من خلال احتكاكها بفكر الآخرين ، وحين ظهرت فضائل الكتاب ، فإن ذلك كان بفضل من جهود الإخوة الذين حاوروا أفكاره مع خبرتهم الطويلة في هذا المجال ، مما يتيح لي الإستفادة من هذا الحراك النقدي وتجلياته .
وأحب أن أوضح وجهة نظري في بعض القضايا التي طلبت مني أن يتسع صدري لها ، وأنا واسع الصدر ، مقدر لقيمة ما طرحت ، ومع ذلك فقد نختلف في طـرح بعض القضايا التي أرغب في إيضاح ما أراه مناسبا فيها ، واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية ، ومن هذه القضايا التي أحب توسيع السجال حولها القضايا التالية :
أ ـ قضية ( القسوة وحدة الطرح ) :
لا أظن أن القضية تعود إلى الحدة أو إلى الهدوء فيه ، بقدر ما تعود إلى أساليب القراءة للعمل الفكري أو الأدبي ، ثم إلى الأهداف التي يريد الناقد تحقيقها من وراء ذلك الأمر . وكما تعلم انه قد اشتهر عندنا أسلوبان لقراءة الأعمال الأدبية ، أسلوب ( النقد الرسائلي ) الذي يحكم الدراسات الأكاديمية وهو أسلوب يميل إلى الوصف الذي يبتعد عن التحليل ، ولا تسمح العقلية الأكاديمية فيه إلا بالتحليل الذي يخدم الوصف ولا مجال فيه لإبداء الرأي ، وأسلوب ( النقد الحر ) الذي نشأ خارج العقلية الأكاديمية .. وهو نقد لا يخاف القيود ويميل إلى التوقف والتحليل النقدي الذي يكشف السلبيات والإيجابيـات ، وأنا من أصحاب هذا الاتجاه . وقد وجدت من حقائق الأحوال في قراءة النقد الإسلامي ما يلي :
r أن الرواد ومنهم محمد قطب قد قدموا شرارة الريادة ، ووضعوا لافتة النقد الإسلامي في أرض المشروع ، وبعد مضي ما يقارب أكثر من أربعيـن عاما ، ولدت فيها مذاهب ومدارس أدبية وانقرضت وظهرت أخرى في هذه الفترة من الزمن في العالم ، ودعاة الأدب الإسلامي مكانك سر يغطون في نومهم العميق .
r إن محمد قطب رائد لا يكذب أهله وقد برأ ذمته أمام الله وقدم صدمة وعي لمن بعده حين توقف عن الكتابة في النقد الإسلامي واكتفى بمنهج الفن كشرارة ولكن دعاة الريادة لم يفهموا هذه الإشارة . وعاد محمد قطب مرة ثانية في مؤتمر الأدب الإسلامي في استانبول عام(1996) فأكد الصدمة بأخرى حين قال للحضور (عليكم أن تـنسوا ريادتي أو تـنسوا أنني كنت في يوم من الأيام رائد الأدب الإسلامي ) لأنه مفكر مدرك لما قدم ويريد لدعاة الأدب الإسلامي أن يستكملوا ما بـدءوا به من مهمات صعبة في التأسيس للنقد الأدبي الإسلامي ، يريد منهم أن يتحرروا من أفكار الريادة وبخاصة الضعف الذي لازم مرحلتهـا ومع ذلك لم يفهم القوم الإشارة الثانية ، وكأن بعض القوم لا يستجيب لا لتلميح ولا لتصريح إلا أن تقول له في الريادة قولا شافيا يقرع الأذن .
r جاء جيل(دعاة الريادة) : وهو الجيل الذي حمل أفكـار الريادة وكان له فضل عظيم في نشرها بين المسلمين ، ولكن هذا الجيل وقع في مطب عظيم ، حين اعتبر الريادة عملا مكتملا ، واندفـع للتطبيق وهو لا يملك نظرية للأدب الإسلامي سوى أفكـار الـرواد المختزلة الناقصة ، ثم سيطر عليهم الانبهار بالريادة والتقديس والتمجيد وعاشوا تحت أسر أفكارها . لقـد وقعوا في وهم الاكتمال ولم يفصلوا المشروع النقدي الإسلامي ، وظلوا يكررون مقولات الرواد ، واكتـفوا بخلطة نقدية أخـذوها من الحداثيـين القدامى ( تلاميذ النقد العباسي اليوناني ) والحداثيين الجدد ( تلاميذ النقد الأوروبي الحديث ) وزعموا أن ذلك من التـنظير الإسلامي .
r إذن لا بد من كشف ضعف الريادة ليس تحقيرا للرواد كما فهم بعضهم ، ولكن لسحب الوسادة التي ينام عليها دعاة الريادة ، حتى يفيقوا من نومهم المريح ، لأنهم كانوا شركاء للعلمانيين في تأخير ظهور النقد الإسلامي المؤصل ، وكان ذلك دون قصد منهم ، ولكن عجزهم وضعفهم ، لم يقدم ما يملأ الساحة أمام النقد العلماني لأن التنظير النقدي الضعيف لا يستقطب أحدا . ولو كتبت بطريقة هادئة لما انتبه القوم ، ولو نقدت دعاة الريادة لهبوا للدفاع عن أنفسهم، ولكن الصدمة صدمة الوعي التي تولد الانتباه لما يحدق بالنقد الإسلامي ، تكون في سحب مخدة الريادة من تحت الرؤوس النائمة ، وليرى القوم رصيدهم وحصادهم النقـدي : ( تمجيد الريادة ، إغلاق باب النقد ، تكرار مقولات الرواد ، اجترار مقولات النظريات الغربية المسيطرة على الساحة ) . نعم يا أخي الكريم ، نقد الذات مؤلم دائما ، وإذا لم ننقد أنفسنا ونقوم مسيرتنا بعد مضي نصف قرن ، فمتى نقومها إذن ؟!
وهنا تكون فائدة الحدة في قرع الأذن وعمل اليقظة للتعرف على الضعف في ذاتنا ، فالمعارك الساخنة في النقد هي التي تحرك السكون ، وتضرب بعض الرأي ببعض فيتبين منه الصواب ، وظهور هاتين المقالتين هو من فضائل هذه الحدة . إن مبضع الجراح مؤلم ولكنه يحمل الشفاء بإذن الله ؛
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم
لا بد أن نعترف أننا ما زلنا في مرحلة الدعوة النقدية للأدب الإسلامي ، لأن الأفكار النقدية التي نتوهم إنجازها ، هي أفكار مخترقة حتى النخاع من النظريات النقدية الأوروبية التي اخترقت عقولنا عبر المناهج التعليمية والجامعات .
لقد أزبد بعض الإخوة وأرغى على الكتاب لأنـه حرم من نعمة النوم والتمجيد والانتصـارات الموهومة التي يزعم تحقيقها للنقد الإسلامي ، وسيطرة النقد العلماني ومدارسه وفنونه على الساحة تشهد بغير ما يزعم .
ب ـ قول الدكتور مأمـون ( وقـع المؤلف فيما عاب فيه من سبق .. ) :
لقد سميت كتابي ( مقدمة ) ولم أسمه ( نظرية ) والمقدمة هدفها قراءة واقع النقد الإسلامي ، والبحث عن المنهج المسيطر عليه ، ومن هنا فهو ليس بحثا أكاديميا يهدف إلى التوثيق التاريخي والمكتبي ، وإنما هو بحث ينقب عن المنهج والنظرية ويراقب المنجز النقدي فيهما ، وقد وجدت أفكارا جيدة متناثرة ، ولكني لم أجدد النظرية المتماسكة للنقد الإسلامي ، ومن الطبيعي أن أقرأ كثيرا ولكني لا أذكر إلا الكتب المؤثرة في هذا الفصل القصير عن المحاولات الإسلامية المعاصرة ، ولكني جمعت الخارطة كاملة ، عندما اقترحت المنهج البديـل في ( الوثائق الخمس ) التي تحمي التنظير الإسلامي من الضياع : ( القرآن الكريم ، الحديث الشريف ، أدب الصحابة ، وثيقة الامتداد ، وثيقة حق التنظير ) لقد كانت وظيفتي إيضاح معالم المنهج وطرح الأمثلة عليه ، ولم أعد بإنجاز مشروع النقد الإسلامي الذي عجز عنه النقاد خلال نصف قرن ، وأعتقد أن هذا المشروع مهمة صعبة ملقاة على عاتق الجميع، وقد رجعت إلى الكتب التي نصحتـني بالعودة إليها بعد صدور كتابي ، ولكنها لم تغير في وجهة نظري شيئا ، لأنني وجدت أفكارا متناثرة وجيدة ولكني أكرر ما قلت : أنا أبحث عن النظرية التي لم ينجزها أحد . لقد جمع أوستن ورينيه ويلك شتات الأفكار النقدية الأوروبية في كتاب واحد أسمياه ( نظرية الأدب ) ، فهل تواجد الناقد الإسلامي الذي جمع شتات الأفكار النقدية الإسلامية في نظرية ؟؟؟ دلوني عليه حتى ننهي هذا الجدال .
ج ـ قول الدكتور مأمون ( لم ينتبه المؤلف إلى أننا في تعاملنا مع المصادر ..)
أخي الكريم إذا كنت تقصد ( أدب الصحابة الكرام ) كأحد مصادر التنظير فأنا لا أتبنى المنهج الذي طرحت ، لأنه يطرح قضية الشك في التراث على رأس قائمة التهم الموجهة له ، وهذه أطروحات لها خطرها . وقد كان تعاملي مع النصوص المشكوك فيها عند أكثر العلماء ، من خلال مجموعة من الاحتياطات ، الاحتياط الأول منها هو إهمال هذه النصوص . والاحتياط الثاني : هو إهمال فكرة الشك والانتحال من أساسها وعدم الإشارة إليها ، والاحتياط الثالث: هو اعتماد النصوص الموثوقة عند أكثر العلماء ، ولم أطرح إلا نصـا لشاعرة مجهولة ، ولكن نصها له نسبة زمنية فهو في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه . سرت في هذا الاتجاه حتى لا نقع في فخ المقولات الاستشراقية، حيث التـقط الاستشراق احتراز علماء تراثـنا على بعض النصوص ، وأخذ يضخمه ويعممه على تراثنا ، ليزرع روح الشك والريبة في نفوسنا تجاه تراثنا ، وكان الأولى بنا أن ندعو إلى تحقيق هذا التراث والالتحام به من التذكير بمقولات الاستشراق ، وقد قدم لنا الدكتور يحيى الجبوري مثالا رائعا حين حقق ديوان لبيد العامري وأثبت أن 50% من شعر لبيد هو شعر إسلامي ، كما أن قضية الانتحال والشك موجودة في كل الآداب العالمية ذات المصادر القديمة ، وأكبر مثال عليها هو الشك في نسبة الأوديسة والإلياذة لهوميروس نفسه . ومع ذلك يتعامل الأوروبي مع هذا التراث كواقع ، ويطرح أخبار التشكيك فيه في الهوامش الجانبية ، وبعدها يهملون كل المقولات ويكبون على دراسته بكل شغف ، ويستخرجون منه نظرياتهم ويرفعونه إلى مستوى الأناجيل المقدسة عندهم . وأحب أن أذكر أن نسبة الانتحال في الأدب الغربي هي أقل نسبة في الآداب العالمية العريقة والقديمة في مصادرها ، وقد نبه علماؤنا إلى هذه الأمور في مكانها من كتبهم ، كالأشعار التي ذكرها ابن هشام في سيرته مجهولة القائل ، ومع ذلك فهي تنتسب لتلك الفترة الزمنية ، ويمكن اعتبارها ضمن الأدب الشعبي الفصيح الذي صاغه الوجدان الجماعي للأمة، خلال فترات متقطعة ، ومثاله نشيد الإسلام الخالد ( طلع البدر علينا ) وغيره .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.