مفهوم الأدب الإسلامي المعنى والوظيفة
مفهوم الأدب الإسلامي
المعنى والوظيفة
د. جاسم الفارس (*)
المقدمة
من القضايا التي باتت تشكل هماً معرفياً وحضارياً في الثقافة الإسلامية تلك هي قضية بناء المفاهيم، ذلك أن المفهوم يعد الفضاء المعرفي والحضاري الذي يحدد حركة المعرفة والحضارة لأية أمة – ويحدد سماتها التي تعطي للثقافة والحضارة ملامحها الواضحة- إذ أن المفهوم هو وعاء حضاري تتكثف فيه أبعادها الأساسية، اللغة والعقيدة والمنهج التي تحدد تصور الإنسان لله والكون والإنسان، والذي في ضوئه تشتغل العلوم والآداب كافة.
لذلك فإن العناية ببناء المفاهيم الإسلامية تعد ضرورة شرعية وحضارية، فهي ضرورة شرعية من حيث إن الانطلاق من القرآن الكريم والسنة المطهرة هو المنهج الذي يحقق إسلامية الحياة بعناصرها كافة – ولما كانت المعرفة- هي نتاج التصور لله والعالم والإنسان وهو في الوقت نفسه نتاج العقيدة، فإن أية معرفة لا تعد إسلامية حين لا تنطلق من القرآن الكريم في إدراك الله والعالم والإنسان، كما أنه يمكن أن نعد المعرفة إسلامية حين تنسجم مع حقائق القرآن والسنة والتصور الإسلامي للوجود.
أما من حيث كون بناء المفاهيم الإسلامي ضرورة حضارية، فلأن المفاهيم هي بنت النسق الحضاري الذي توحد عناصره للغة والمنهج والعقيدة، ومن خلالهم تتحرك المعطيات الحضارية. العلمية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية والفكرية. إلخ. ولذلك فإن استعارة المفاهيم من الأنساق الحضارية الأخرى دون رؤية ونقد وتبصُّر يحدث خللاً في بنية النسق الحضارية، ومن ثم خللاً في العلاقة بين معطيات الحضارة، لينتهي إلى جملة اضطرابات عقائدية وأخلاقية وفكرية.
ومن بين المفاهيم التي يهتم بها هذا البحث، وبصياغتها والكشف عن دلالاتها ووظيفتها الحضارية هو مفهوم (الأدب الإسلامي)، هذا المفهوم الذي أحسب أنه أكثر المفاهيم غياباً عن ساحة الفعل الحضاري الإسلامي، أو أكثر المفاهيم ضبابية من بين المفاهيم السائدة، إسلامياً وغير إسلامي، في حين ينبغي أن يكون أكثر المفاهيم حضوراً في ساحة الحضارة الإسلامية المعاصرة، ذلك أن الأدب هو خلاصة الوعي بالإنسان والحضارة والتاريخ والمستقبل، وهو البناء الجمالي للإنسان والحضارة، إنه الصوت الصارخ دائماً في براري الحياة يتحدى الظلم والجوع والاضطهاد والحقد والحرمان. إنه عشق الإنسان الدائم للحرية والحب والجمال، وإنه صوت الدفاع عن الخير والحقيقة والحرية ضد كل قوى الاستلاب الإنساني.
ينطلق البحث من رؤية منهجية قرآنية في صياغة المفهوم – إيماناً منا بأن المفاهيم الإسلامية المنضبطة بالقرآن الكريم، المنبثقة من رؤياه للوجود، هي أحكام شرعية علمية شأنها شأن العبادات كالصلاة والصيام.. تتعلق بمسيرة الإنسان والمجتمع والحضارة، وهي تدخل في إطار الفروض المعرفية الإسلامية التي غابت- مع الأسف- عن انشغالات العقل المسلم بسبب خطأ تصورات السائدة عن الدين، هذا فضلاً عن كون عملية بناء المفاهيم تعد أحد أشكال إقامة الوجه للدين.. أخذين بعين الاعتبار أن الأدب هو نشاط جمالي يعتمد الحق والخير والفضيلة منطلقات في بناء الإنسان والمجتمع، وهو أحد أهم أدوات الحفاظ على (الهوية) الحضارية للأمة.
ومن أجل إنجاز هذه المهمة رأينا أن يتوزع البحث على المحاور الآتية:
أولاً: المفهوم الإسلامي وأسلوب تكوينه.
ثانياً: عناصر مفهوم الأدب الإسلامي.
1 – التوحيد
2 – الجمال
3 – الحداثة
4 – الحق
5 – الخير
ثالثاً: وظيفة الأدب الإسلامي.
أسأل الله عز وجل التوفيق والسداد، فهو العليم الحكيم.
أولاً: المفهوم الإسلامي وأسلوب تكوينه:
إن بناء المفاهيم عملية معرفية حضارية خطيرة. كونها تعني عملية استيعاب للفضاء الحضاري الذي نعيشه ونفكر فيه عبر اللغة والعقيدة والمنهج ومعطياتهم العلمية والأدبية والاجتماعية إلخ وهي كذلك عملية تساهم إسهاماً خطيراً في إعادة تكوين (العقل المسلم الحضاري) بمستوييه الفردي والجماعي اللذين يشكلان ميدان عمل المفاهيم ذلك أن (تحليل بنية المحتوى المعرفي لأية حضارة يرتكز على ثلاثة عناصر في غالب الأمر هي: المفاهيم، والعلاقات التي تؤلف من المفاهيم حقلاً، والعلاقات التي تشكل من الحقول نسقاً، ولو نحينا جانباً البحث في هذه العلاقات لوجدنا أن المفاهيم تحتل من البناء الفكري لأي نسق معرفية موقع الحجر الأساس)(1)
لقد اهتم القرآن الكريم بقضية المفهوم اهتماما واضحا، ابتدأت كما يعرضها القرآن الكريم – مع أول تعليم إلهي للإنسان، يقول تعالى:
(وعلم آدم الأسماء كلها) البقرة/31.
ذلك أن عملية التعليم هذه هي أولى المهمات الإعمارية الاستخلافية في الأرض، حتى لا يدع الله عز وجل الإنسان إلى نفسه واجتهاده في سائر المفاهيم الأساسية التي تتوقف عليها مهمة الاستخلاف، فعلمه الألوهية والعبودية والزوجية والأبوة والبنوة والأخوة إلى غير ذلك من المفاهيم التي تشكل قاعدة البناء الاجتماعي الذي تقوم عليه حياة الإنسان في الأرض.(2)
وكذلك علم الأنبياء (عليهم السلام) مفاهيم، النبوة والرسالة والتوحيد والشرك والعمل الصالح.. وعلم سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم مفاهيم أخرى مبثوثة في القرآن الكريم والسنة المطهرة.. إذ تكاملت معه المفاهيم الإلهية الخالدة، ولا أدل على أهمية المفهوم وتحديده في حياة الإنسان والمجتمع من قوله تعالى.
(يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم) البقرة/104
وقد نبه القرآن الكريم، محذراً مما وقعت فيه الأمم السابقة من تحريف الكلم عن مواضعه وغيرها من أساليب تحريف الخطاب الإلهي ومفاهيمه، ومما تشكله هذه العملية من تحريف للحقيقة، وتحريف للنسق الحضاري للامة.
تتمثل بعض مظاهر أزمة (العقل المسلم) الفكرية، والفكر الإسلامي المعاصر المنهجية، في هذه الفوضى الحضارية التي اجتاحتها عبر عملية غزو (المفاهيم) الغربية للنسق الحضاري الإسلامي، فأحدثت انشقاقات خطيرة عقائدية وأخلاقية واجتماعية وأدبية وفكرية وأفقدته وحدته وتجانسه وتكامل معطياته المعرفية والعلمية والاجتماعية.. فغربته عن الزمان والمكان. تغرب عن الزمان حين لم يجد بديلاً عن مواجهة هذه الفوضى سوى الوقوف عند معطيات المنجز الحضاري الإسلامي القديم على مستوى الأدب وعلى مستوى حقول المعرفة الأخرى. وتغرب عن المكان حين أخذ يفكر بمفاهيم الغرب ومعطياتها المعرفية، فهو لا يعيش زمانه بعقل إبداعي قادر على التجاوز، ولا يعيش المكان بمؤثراته البيئية والحضارية. فيتصدى لها بأدواتها المعرفية الأصلية – إنه في الحالتين يستعير منجز الآخر، إما عبر الزمان من الماضي، أو عبر المكان من الغرب الأوربي.
لذلك فإن عملية مواجهة هذه الفوضى الحضارية - على الصعيد المعرفي- تعد ضرورة شرعية وحضارية فهي ضرورة شرعية تتمثل في عدم طاعة غير المسلمين من يهود ونصارى لا سيما فيما يتعلق بالعقيدة ونمط التفكير. يقول تعالى:
- (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين) آل عمران.
_ (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) البقرة/125.
ولذلك تعد عملية بناء المفاهيم ضرورة شرعية استجابة لدعوة الله عز وجل للتمسك بهدى الله ورسوله التي تشكل أنماط التفكير ومناهجه أحد معطياته.
وتعد ضرورة حضارية لأنه من غير المعقول أن نعيش حضارة تخترقها مفاهيم الغرب ومعارفه كل يوم عبر مختلف الوسائل في محاولة لأضعافها وإنكار هويتها وإحالتها العقائدية والفكرية والعلمية دون أي موقف جهادي ضد هذه المحاولات التي دعا إليها القرآن الكريم إلى التحصن ضدها – عبر الآيات القرآنية التي تنهى عن التشبه بأهل الكتاب، والذي يعد (التشبه المعرفي) من أخطر أشكاله وأكثرها خطورة في تشويه العقل المسلم وانحرافه عن هدى الله عز وجل.
(يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا..) آل عمران/156
(ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم..) الحشر/ 19.
وعليه فإن عملية مواجهة هذا الغزو وهذه الفوضى الحضارية –معرفياً- لا تكون مجدية ومعطاء إلا بإعادة صياغة (مفاهيم) الأمة صياغة إسلامية على وفق أسس علمية إسلامية محضة، تستقى من كتاب الله عز وجل، مستفيدة من عطاء العلماء المسلمين في الشؤون الأدبية وغير الأدبية كافة.
وحتى تكون عملية البناء فاعلة لا بد أولاً من استحضار مفاهيم القرآن الكريم أولاً، والوقوف على بنيتها المعرفية، وإجراء علمية تفكيك لها للوقوف على مكوناتها الداخلية في ظل منهجية إسلامية تأخذ بعين الاعتبار القضايا الآتية:
1 – قواعد التأسيس للمفاهيم.
2 – عناصر ضبط المفاهيم.
3 – منهجية بناء المفاهيم
4 – إجراءات تكوين المفاهيم.
5 – مقاصد عملية تكوين المفاهيم.
وفيما يتعلق بقواعد التأسيس للمفاهيم فإن أهم قضية فيها هي أن المفاهيم عملية في صميم قضية الهوية، والمفاهيم بوصفها إنعكاساً للجوهر الحضاري ليست سوى منظومة فكرية، يفترض فيها الانسجام بوصفها منظومة تتضمن عناصر مختلفة ووحدات مفاهيمية متعددة ومتنوعة، لا يمكن رؤيتها إلا كعناصر مترابطة متراكمة، تؤثر يقينياً على موقعها في البيئة المعرفية، وقيمتها في السياق الفكري، وحجيتها في العملية الحضارية. وسواء تراتبت المنظومة المفاهيمية كدرجات سلمية أو كحلقات دائرية متداخلة، فإنها بحكم القاعدة التي تحكم النظام، والمنظومة هي متفاعلة وربما تكون متكاملة متساندة.
وهذه العلاقات بين المفاهيم تفترض ألا تنظر للمفاهيم على أنها كتلة صماء في عملية البناء ونتعامل معها على صعيد واحد وبالطريقة نفسها من البناء بل يمكن في هذا السياق الإشارة إلى أكثر من مستوى لتناول المفهوم أو بنائه.
فهناك المفاهيم الحضارية القاعدية، والمفاهيم المحورية، والمفاهيم الإطارية، والمفاهيم الكلية، والمفاهيم الخاصة، والمفاهيم القيم، والمفاهيم الوسائل، والمفاهيم المقاصد، والمفاهيم كأطر تحليلية، والمفاهيم المرجعية، والمفاهيم المنهجية(3)
إن بناء المفهوم بوصفه وحدة معرفية لها أهميتها في البنية المعرفية، وهي ليست عملية ارتجالية، وإنما هي جهد منهجي يقوم على تحديد نسب المفهوم وإسناده إلى أي من التصنيفات آنفة الذكر – ثم تحديد المقاصد التي تتم من أجلها عليمة بناء المفهوم، وصولاً إلى تشغيله في الواقع.
ولما كان بناء المفاهيم الإسلامي يعتمد بالدرجة الأساس على الوحي فهو إذن من صميم عملية التدبر والتذكر، وهما عمليتان عقليتان لهما دورهما المميز في عملية المعرفة.(4) إذ أن الوحي يشكل مصدراً هائلاً لمفاهيم تشكل نماذج معيارية وقياسية تتميز بكونها منظومة متكاملة للحكم على الأشياء والأحداث والوقائع زيادة على كونها عملية نقل لطريقة القرآن الكريم في الربط في المفهوم بين جانبي العلم به والعمل بمقتضاه بعيداً عن الصيغ اللفظية والشكلية.
إن بناء المفاهيم الإسلامية هو الوعي بجوهر الرؤية الإسلامية التي تقوم على وحدة الإيمان والعلم والعمل
* سمات المفاهيم القرآنية.
* لما كان بناء المفاهيم الإسلامية يعتمد بالدرجة الأولى على المفاهيم القرآنية، فلا بد من إدراك طبيعة المفهوم القرآني.
إن المفهوم القرآني ليس مدركاً عقلياً يدور في إطار البحث اللغوي واللفظي البحت، ولكنه تعبير عما ينبغي أن يكون عليه الوعي الحضاري الإسلامي، كما أراده الله عز وجل نافذاً من الأعماق، يصوغ الأحاسيس، ويشكل النيات، ويوجه فكر الإنسان المسلم، وبالتالي يصوغ الحياة كلها.(5)
ومن السمات الأخرى للمفاهيم القرآنية هي سمة (المفتاحية)، فالمفاهيم القرآنية مفاهيم مفتاحية، أي أننا إذا وضعنا أيدينا على أي مفهوم قرآني، وطفقنا نطرح عليه الأسئلة فإنه من الممكن أن ينفتح بنا على مفاهيم أخرى، فإذا أخذنا مفهوم (القوة) مثلاً، الذي ورد في سورة النحل في قوله تعالى: )ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً( الآية 92 ونسأل بأي اعتبار وصف الغزل بالقوة فسنجد أن الغزل الذي هو مجموعة خيوط مبرمة بطريقة يتكون منها النسيج. والإشارة هنا إلى مجموعة يمكن أن تكون سياسية أو اجتماعية أو أدبية..) فاعلة بينها وبين مجموعات أخرى نوع من العلاقة قائم على العهد، فإن حفاظ هذه المجموعات على العهد سيقوي نسيجها الاجتماعي الذي تقوم عليه سائر صنوف قوتها، وبعكسه إذا نقضت عهدها انتقض مصدر قوتها... وهكذا ينفتح بنا تحليل مفهوم العهد على مفاهيم أخرى مثل الإبان والأمانة والميثاق والعقد.. وسنصل في نهاية العملية التحليلية إلى مجموعة عديدة من المفاهيم ذات الترابط الداخلي التي تكشف صورة مذهلة عن الوحدة البنائية التي تنظم فيها كل المفاهيم القرآنية(6)
ولذلك فإن استخدام المفاهيم الإسلامية من مصدرها التأسيسي الأصيل واستحضارها واقعاً حركياً معاشاً ليس إلا محاولة جعل القرآن الكريم خلقاً حركياً يسير في الأرض، أي جعله سلوكاً عملياً وعلمياً وأدبياً حيث تتأكد الرؤية الإسلامية واقعاً وممارسة. وعليه يعد أخطر أشكال هجران القرآن الكريم تلك العملية المعرفية التي تستبعد القرآن الكريم عن كونه مصدراً تأسيسياً في بناء المفاهيم الإسلامية والوعي الإسلامي. وكذلك يعد هجراناً للقرآن الكريم هذا العجز عن إعمال المفاهيم القرآنية خاصة الإسلامية عامة في حياتنا بعناصرها كافة.. الأمر الذي يقودنا إلى الانتقال إلى معالجة تضيق علاقة المفهوم بالواقع.
* علاقة المفهوم بالواقع.
تكمن علاقة المفهوم بالواقع في استقلالها من حيث بناؤها الثابت من جهة ومن حيث التعامل مع الواقع تقويماً إذا انحرف، وتكريساً وتأكيدا إذا اهتدى من جهة أخرى. وعلاقة المفهوم بالواقع هي علاقة تقويم، مستمرة ومتجددة، لكل سلوك فردياً كان أم جماعياً، قيادياً كان أم رعية.
وتضعنا علاقة المفهوم بالواقع أمام قضية مهمة أخرى، ألا وهي قضية (تشغيل المفهوم)، وهي عملية تظهر في النسق المعرفي والواقع بعد صياغة المفهوم ذلك أن عملية تشغيل المفهوم تقع في قلب عملية بنائه.
فحجية المفهوم لا تقف عند حدود بنائه، وإنما تشغيله، أي المواصلة (مع المفهوم وبه) نحو آفاق جديدة من إجراء دراسات تستند إليه، وإعادة وتحليل ظواهر لاستخدامه، أو تأسيسه وتحاسسه في الواقع العملي والحياتي، فالتشغيل له مجالات عمل وفعل سواء في النسق المعرفي، أو في الواقع العملي(7)
لذلك وفي إطار ذات المهمة التي تتصدى بها للغزو الثقافي الغربي، لا بد أن يكون إحدى مهمات الفكر الإسلامي المعاصر بعامة، والأدب الإسلامي تجاهه، فضلاً عن عملية بناء المفاهيم الإسلامية، الاهتمام بتشغيلها في الواقع معرفياً وعملياً إذ في تشغيل المفاهيم تعبر الأمة عن استقلالها وخصوصيتها وأصالتها واستنهاض مقدراتها الإبداعية.
فما أسس تشغيل المفهوم في الواقع؟
* أسس تشغيل المفهوم
لأن تشغيل المفهوم في الواقع يعد المسألة الحاسمة في إعادة البناء الفكري والحضاري للعقل المسلم. فلا بد أن تقوم عملية التشغيل هذه على عدد من الأسس والمحددات يمكن إجمالها بالآتي:
أ – الواقع
يعد المفهوم أحد أهم أدوات تفسير الواقع، وأحد أهم أدوات التعبير عنه كذلك، فمن حيث كونه أداة تفسير للواقع فالأمر يرتبط بالقدرة على صياغة وممارسة خطاب مؤثر، وتعامل صالح يجد له حضوراً في نفسية أبناء المجتمع وعقولهم المستقبلية ولا يكون غريباً عليهم، بل يتحدث بلسانهم ويبلغ من أنفسهم كل مبلغ.
لقد أكد القرآن الكريم على هذه القضية بقوله تعالى: )وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من شاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم( إبراهيم. وقوله تعالى (وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً) النساء/63
ومن حيث كون المفهوم تعبيراً عن الواقع، فلا يمكن فصل قضية المفاهيم عن اللحظة التاريخية والحضارية التي نعيشها الآن، إذ إن شيوع مفاهيم أمة وانتشارها دليل على مدى قوتها وتقدمها.
ب – الإطار المرجعي:
وهو خصائص التصور الذي تنطلق منه كل حضارة في نظرتها للإنسان والكون والحياة عبر المفاهيم الحاكمة التي تشكل موقع القلب في هذا الإطار المرجعي، وهي التي تنبثق رؤية المفاهيم الأخرى المتعددة، وتحدد العلاقة بين المفاهيم بعضها ببعض، وهي التي توجد ما يمكن أن نسميه (التساند المفاهيمي).
وعلى هذا الأساس يمكننا القول بأن (المفاهيم الحاكمة) هي الأساس في البناء الحضاري فيما تمتلكه من قوة وتأثير في مجمل البناء المعرفي للعلم و(الأدب)، وبما تمتلكه من قدرة على تأسيس ممارسات يومية وحياتيه فضلاً عن المؤسسات والنظم المتعددة ولذلك فإن السيطرة على المفاهيم الحاكمة يؤدي ضماً إلى السيطرة على مجمل البناء المعرفي.
جـ - تحليل المفهوم.
المفهوم بنية معرفية تجمع بين صورة الشيء وهيكله، وبين القانون الذي يفسر تكوين هذا الشيء، فهي نسق من العلاقات بين المعنى والمعنى(8).
إن تحليل بنية المفهوم وتحديد عناصرها الأساسية اللغوية والعقائدية والمنهجية وعناصرها الفرعية يقود إلى فهم أفضل لبنية أي مفهوم، الأمر الذي يؤدي إلى الإدراك الوثيق والصحيح للمفهوم مع اجتناب اللبس وضبط حدود الأخلاق، كما أن معرفة مستوى المفهوم من حيث إذا كانت معرفية أو فلسفية، أو المستوى الظاهر للمفهوم الذي يبدأ بظواهر الحياة، أو المستوى التاريخي الذي يمثل الضرورة التاريخية له، يعد ضرورة علمية في تشغيل المفهوم أو عمله في الواقع.(9)
د – الجمهور المتلقي..
تثير هذه النقطة عدداً من القضايا هي:
* دراسة مقومات التشغيل التي تصيب جمهور التلقي التي تختلف من نوعية إلى أخرى.
* العلاقة مع المنظومة المرئية السائدة من جهة الأصالة والاختلاط، إذ قد يكون التمييز والأصالة عن طريق المنظومة المعرفية السائدة هو تشغيل المفهوم.
* القدرة على التواصل مع ما هو موجود وهو سبيل التشغيل.
هـ - قنوات التشغيل.
تستخدم العديد من الأدوات والقنوات في علمية التشغيل، وقد تتضافر مع بعض في تشغيل مفاهيم بعينها، كما يلاحظ الآن في واقعنا الثقافي والعلمي، حيث يتم تشغيل مفاهيم جديدة من مفاهيم الموضة عبر العديد من الأدوات والقنوات مثل التعليم ومراكز البحث العلمي والفنون والمدارس الفكرية والإطروحات الجامعية والندوات..إلخ(10).
ومن خلال هذه النظرة العلمية للمفهوم الإسلامي سنعمل على كشف بنية مفهوم الأدب الإسلامي، من أجل تفعيله وتشغيله في الواقع أدبياً وعلمياً وإسهاماً في تحقيق نهضة أدبية إسلامية تشمل كل الإبداع الإبداعي.
ثانياً: عناصر الأدب الإسلامي.
الأدب الإسلامي نتاج العلاقة بين الثابت الإسلامي المتجلي في نص القرآن وجمالياته، وبين التغير المتمثل في المعطى الحضاري الإسلامي وجمالياته كذلك، فقد أحدث الثابت الإسلامي تحولاً جذرياً في صميم الضمير الإنساني العربي ، تحت هذا التحول من (الموقف) المعبر عن وجود الإنسان في بيئته المحلية مكة وأطرافها في الجزيرة العربية إلى (موقف) يجرد عن هذا الوجود البيئي لكي يحقق بذلك شموليته في البيئة ذاتها لكي تصبح هذه النموذج لكل البيئات في العالم من خلال التوحيد المطلق لله عز وجل- الذي تطورت في ظله منظومة القيم الحضارية الإسلامية(11) ومنها منظومة الأدب والفن التي شملت مساحات كبيرة في الحضارات الإنسانية التي اختار الكثير من أبنائها الإسلام طريقاً للحقيقة والشريعة والجمال.
وبناء على هذه الرؤية القرآنية للوجود والإنسان التي امتدت لتشمل العالم بأسره قامت الثقافة الإسلامية وفي طليعتها الأدب الإسلامي بعناصره المتعددة ولذلك يبدو من الصعب استبعاد الأعمال الأدبية الرصينة التي استلهمت الرؤية الإسلامية للعالم واقتربت منها عن إمكانية إثراء الأدب الإسلامي والإنتماء إليه، فلا يمكن مثلاً إغفال بعض أعمال الشاعر الألماني (جوته) لاسيما في ديوانه الشرقي واستبعادها عن ساحة الأدب الإسلامي ما دامت رؤاه وكثيراً من موضوعاته منسجمة مع الرؤية الإسلامية للإنسان والوجود.
ولنا في هذا الفهم دليل من النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتابع الشعر الجاهلي الذي كان يعجب بكثير من أفكاره وحكمه، فالرسول صلى الله عليه وسلم، كان ينظر إلى الوظيفة الاجتماعية للشعر بوصفه تاج الأدب، وقد عبر عن ذلك بمقولته الرائعة: "الشعر كلام فما وافق الحق فهو حسن، وما لم يوافق الحق فلا خير فيه"(12).
إن موقف الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من الشعر يحدد تصورنا لإسلامية الأدب التي تعني تبني الأديب الرؤية الإسلامية في معالجة قضايا الحياة المتعددة.
إن الأدب الإسلامي في ضوء الرؤية القرآنية للإنسان والوجود، وفي ضوء الموقف العملي لرسول صلى الله عليه وسلم من الأدب بعامة، هو الأدب الذي ينبثق من التصور الإسلامي للإنسان والوجود، أو على الأقل ألا يصطدم بالمفاهيم الإسلامية عن الكون والحياة والإنسان ولا ينحرف عن هذه المفاهيم.(13).
إن موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من الشعر لا يقتصر على الموقف المذكور آنفاً وإنما هناك العديد من المواقف الأخرى المماثلة إزاء الأدب الجاهلي والشعراء الجاهليين، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعجب بشعر عنترة بن شداد ولم يكن إدراك الإسلام وكذلك بشعر أمية بن أبي الصلت الذي أدرك الإسلام ولم يسلم. كان يقول فيه: (آمن شعره وكفر قلبه). وتذكر له المصادر القديمة أخباراً في الأعشى وغيره من المخضرمين مثل زيد بن عمرو الذي قال فيه "إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده."(14)
هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسن لنا مواقف من الشعر الجاهلي تناسب كل مضمون على حدة: من أقصى النهي إلى أقصى الطلب، فقد روي عنه الهني عن شعر التهاجي دفعاً للتضاغن، ونهى الخنساء عن رثاء قوم هلكوا في الجاهلية وهي أعضاء اللهب وحشو جهنم، وهذا لم يمتعه من الحض على رواية الشعر الحسن قائلاً: "ارووا من الشعر عفه، ومن الحديث أحسنه. ومحاسن الشعر تدل على مكارم الأخلاق، وتنهى عن مساويها."
لقد أدرك عمر بن الخطاب الوظيفة الاجتماعية الخطيرة للشعر حين قال: "من خير صناعات العرب الأبيات يقدمها الرجل بين يدي خاصته، يستنزل بها الكريم، ويستعطف بها اللئيم"(15).
إن العلاقة بين الأدب والإسلام لم تكن علاقة عادية، وإنما هي نابعة من صميم عقيدة التوحيد وانعكاساتها على الواقع الحياتي بكل تفصيلاته الأدبية والعلمية والاجتماعية والثقافية والسلوكية الإنسانية.
فما علاقة التوحيد بالأدب الإسلامي؟ وكيف يكون الأدب إسلامياً؟
إن الإجابة على هذين السؤالين تتطلب تحديد عناصر الأدب الإسلامي وعلى النحو الآتي(*):
1 – التوحيد: إن الوحدانية لله تعالى هي المبدأ الأول للإسلام ولكل ما هو إسلامي على مستوى العلم أو الأدب، ومحتوى هذا العنصر أن لا إله إلا الله واحد أحد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأنه مطلق الجمال والكمال بكل المقاييس، ليس كمثله شيء، وكل موجود سواه مغاير له، ومخلوق له، هو الخلاق ليس له شريك، بأمره توجد الموجودات، وإرادته هي التي تحدد غاية وجود الكائنات، وهي القانون الذي يحكم الكون والمخلوقات، ويقنن السلوك والأخلاق.
وإن التوجه لله والرغبة إليه تعني التوجه إلى الخير والعدل والحق، وهي أسمى الغايات وأسمى مراتب الوجود، ويعد الأدب الواعي لهذه الحقيقة أرقى أشكال الأدب، لأنه يعد أحد أشكال إقامة الوجه لله عز وجل بالقول الجميل الخيّر النافع المنسجم مع هدى الله.
إن التفكير، على المستوى الأدبي، الواعي بوحدانية الله يعني الوعي بربوبية الله الحق وألوهيته الحق، في عالم غايته الحق والجمال والخير والاعمار والحيوية والجدية، والأدب الذي يعي هذه الحقيقة يدرك من العلاقات بينه وبين الكائنات مالا يحده عدّ.
وما دام الله عز وجل هو الخالق –وهو الديّان- فلن يكون الأدب إسلامياً حقاً حتى يسير على هدى الحق الذي حددته إرادة الله، قاصداً به وجه الله وحده.
إن الأدب الإسلامي في إطار وعيه بالتوحيد وانطلاقه منه "يستبعد أي اعتقاد بالحلول والخلط، أو السريان، أو التجسد، أو الانبعاث أو الاستغراق أو الاتصال الجوهري بين ما هو قدسي وما ليس بقدسي، أو بين الخالق والمخلوق، وهو يستبعد تماماً أن الذات الإلهية يمكن أن توحى أو تمثل لأن مثل هذا يتضمن دخولها في إطار الزمان والمكان، مما يخل بحقيقة التنزيه"(16)
ولكن هل التوحيد يلغي الاتصال مع الله نهائياً؟
"لا.. فالاتصال قائم، ولكن هذا الاتصال يجب أن يكون بطبيعته مما لا يمس قداسة الذات الإلهية أو التنزيه، إنه يمكن أن يتم فقط في الذهن الإنساني، وحتى في مثل هذه الحالة فإنه لا يكون اتصالاً بالذات الإلهية، ولكنه اتصال بمشيئة هذه الذات.. إن الإسلام يؤكد في هذا الصدد أن يظل الثابت دائماً في ذهن المسلم، أن الكلمات والتصورات والأفكار التي يعبر بها عن هذه الذات الإلهية يجب أن تؤخذ (بلا كيف) مباشرة وبدون الاعتماد على ركائز تخيلية، وذلك حتى لا يساء فهم تلك الذات، وحتى في حالة القرآن الكريم، فإن ما يحيط به المسلم خلال كلماته ليس الله، وإنما إرادة الله للخلق، فكلمات القرآن ليست رموزاً معبرة عن الذات الإلهية، وإنما هي (كلماته القدسية) (بلا كيف) فمن التجديف في الله إذن الإدعاء بأن شيئاً ما في الطبيعة، وخاصة في الإنسان، يمكن أن يؤخذ على أنه رمز للذات الإلهية المقدسة، أو أداة لها، أو إيحاء بها أو تعبير عنها، أو تجسيد لها، أو فيض، أو اشتقاق منها، فلا شيء مما يدرك بالحس أو بالوعي المحسوس يرقى أو يمكن أن يرقى إلى مستوى تلك الذات(17).
فإذا كان الأمر كذلك مع الذات الإلهية، فكيف يتصرف الأدب الإسلامي حين يتعامل مع الله عز وجل في ظل هذا التصور؟
هنا ينبغي الانتباه إلى أن عدم التعبير عن الذات الإلهية قضية، والتعبير عن الحقيقة الجميلة المتضمنة لتلك الحقيقة الفكرية قضية أخرى، فإذا كانت القضية الأولى سلبية، فإن القضية الثانية إيجابية، وهي الميدان الذي تتجلى فيه روعة الأدب الإسلامي وعبقريته.
لقد مدّ (التوحيد) الأدب الإسلامي بالقدرة على التعبير عن اللاطبيعية واللانهائية، في الوجود دون المساس بتنزيه الذات الإلهية، وذلك من خلال اللغة العربية التي اختارها الله عز وجل أداة لإيصال رسالته، التي تتألف أساساً من مجموعة من الجذور اللغوية يتركب كل منها من ثلاثة حروف صامتة (وهي النسبة الغالبة في اللغة) ويصلح للتصريف إلى ما يربو على ثلاثمائة صيغة، وذلك إما بتغيير الحركات أو بإضافة سوابق أو لواحق.
الهوامش
(*) أستاذ مساعد – جامعة صدام للعلوم الإسلامية.
(1) توضيح المفاهيم ضرورة معرفية، صلاح إسماعيل، في كتاب: بناء المفاهيم دراسة معرفية ونماذج.
(2) (الحضارة، الثقافة، المدنية) دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم، نصر محمد راغب ص9
(3) بناء المفاهيم دراسة معرفية.. سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، 1/27
(4) نظرية المعرفة في القرآن الكريم وتضميناتها التربوية – أحمد محمد حسين الدغشي ص240
(5) بناء المفاهيم – مصدر سابق 88.
(6) التفسير
التأويلي وعلم السياسة (دراسة في المفهوم القرآني والمتغير السياسي)
التيجاني عبد القادر.
(8) مشكلة البنية – زكريا إبراهيم ص33.
(9) بناء المفهوم بين التقويض والتشغيل – مصدر سابق، ص 157
(10) المصدر نفسه – 1/171 – 176.
(11) الأصول الحضارية والجمالية للخط العربي – شاكر حسن آل سعيد ص17.
(12) ذكره محمد عبد اللاوي.
(13) منهج الفن الإسلامي – محمد قطب – ص4.
(14) ينظر لمزيد من التفاصيل وقضية الإسلام والشعر – إدريس الناقوري ص30
(15) ينظر لمزيد من التفاصيل –في الأدب الإسلامي- محمد الحسناوي ص69
(*) اعتمدنا في صياغة عناصر الأدب الإسلامي على مشروع إسلامية المعرفة، المبادئ العامة، خطة العمل، المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
(16) التوحيد والعنف، إسماعيل الفاروقي، مجلة المسلم المعاصر – العدد 25 – 1981م-1401هـ
(17) المصدر نفسه-ص 139-140.