قضايا لغوية(2)

قضايا لغوية(2)

(في القراءات القرآنية)

د: عبدالكريم مدلج

          ذكرت مصادر اللغة والنحو والقراءات أنّ بعض النحويّين كانوا يضعّفون بعض القراءات القرآنية؛ لأنها خالفت قواعدهم النحوية, ولعلّهم نسوا أو تناسوا أنّ القراءات القرآنية كانت قبل أن تكون قواعدهم, بل قبل أن يكونوا هم, ولا أريد أن أسرد الحروف التي كانت موضع خلاف أو جدل بين القراء والنحويّين, بل سأكتفي بموضعٍ واحدٍ أفصّل فيه القول تفصيلاً؛ ليكون منارةً للمواضع الأخرى.

قال تعالى: } وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ { [النساء 1]. بفتح الميم من (الأرحامَ), وهي قراءة العشرة, خلا حمزة الزيّات الكوفي ـ أحد القراء السبعة ـ فإنه قرأ (والأرحامِ) بكسر الميم, وقد أنكر عليه بعض النحويين هذه القراءة, ووصفوها بالقبح والرّداءة؛ لأنّهم يرون أنّه يقبحُ أن يُنسق باسمٍ ظاهرٍ على اسمٍ مضمرٍ في حال الخفض إلاّ بإظهار الخافض, كقوله تعالى: } فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ {[القصص81]. وما جاء من غير إعادة الخافض كان له تخريج نحوي عندهم, وبما أنّ الأمر كذلك فلماذا يخطّئون هذه القراءة ؟! وقد أجازها جمهرة من النحويّين, منهم ابن خالويه, وابن يعيش, وأبو حيان, وغيرهم...

        وهنا نقول: كيف يجوز لنحويّ أو غيره أن يُضعّف قراءةً قرآنيةً, أو أن يستقبحها, وهي متواترة متّصلة السّند برسول الله, صلّى الله عليه وسلّم, وقد قرأ بها سلف الأمّة, واتّصلت بأكابر قًرّاء الصّحابة, الّذين تلقَّوا القرآن من في رسول الله, صلّى الله عليه وسلّم, بغير واسطةٍ, ومنهم عثمان بن عفان, وعليّ بن أبي طالب, وزيد بن ثابت, وأبيّ بن كعب, رضي الله عنهم.

        إنّ قراءة حمزة هذه قد رواها إمام ثقة, ولا سبيل إلى ردّ نقل الثّقة مع أنه قد قرأتها جماعة من غير السّبعة, كابن مسعودٍ, وابن عبّاسٍ, وإبراهيم النّخعي, والأعمش, والحسن البصريّ, وقتادة, ومجاهد, وإذا صحّت الرّواية لم يكن سبيل إلى ردّها. ويذكر الإمام القرطبي أنّ "القراءات الّتي قرأ بها أئمّة القُرّاء ثبتَت عن النّبيّ, صلّى الله عليه وسلّم, تواترًا يعرفه أهل الصّنعة, وإذا ثبت شيء عن النّبيّ, صلّى الله عليه وسلّم, فمن ردّ ذلك فقد ردّ على النّبيّ, صلّى الله عليه وسلّم, واستقبح ما قرأ به, وهذا مقام محذور, ولا يُقلّد فيه أئمّة اللغة والنّحو, فإنّ العربيّة تُتلقّى من النّبيّ, صلّى الله عليه وسلّم, ولا يشكّ أحد في فصاحته".

        ويروى عن سُلَيم بن عيسى أحد رواة حمزة الزّيّات أنه كان ذات يوم عند شيخه وهو يبكي فقال: قال لي حمزة: ما يُبكيك يا سُلّيم؟ قلت: إنّ النّحويّين يعيبون عليك قراءتك: } بِهِ وَالأَرْحَامَ { [النساء 1], و } بِمُصْرِخِيِّ { [إبراهيم 22], فقال: يا سُلَيم قرأتُ على الأعمش, وقرأ الأعمش على يحيى بن وثّاب, وقرأ يحيى على زرّ بن حُبَيش, وقرأ زرّ على ابن مسعود, وقرأ ابن مسعود على رسول الله, صلّى الله عليه وسلّم, عن جبريل, عن الله تعالى, هل للنّحويّين إسناد مثل هذا ؟!

        فالقراءة المتواترة هي الحجّة والدليل للنّحويّ وغيره ... وليس العكس, ومع ذلك يمكننا أن نستدل لهذه القراءة بما ورد عن العرب من شعرٍ ونثرٍ, فالشعر كقول الشّاعر:

فاليومَ قرّبتَ تَهجونا وتَشتمنا                فاذهب فما بِكَ والأيّامِ من عَجَبِ

بجرّ لفظة (الأيّامِ) عطفًا على الضّمير الكاف في (بِكَ) من غير إعادة الخافض.

        وما ورد من نثرِ فما رواه محمد بن المستنير (قطرب) عن العرب أنّهم قالوا: (ما فيها غيرُهُ وفَرَسِهِ) بجرّ لفظة (فرسِهِ) عطفًا على الضّمير الهاء في (غيرُهُ).

ومنه قولنا: (صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلّم) بجرّ لفظة (آلِهِ) عطفًا على الضّمير الهاء في (عليهِ).    

        وأخيرًا فهل يحقّ لنحويّ أو غيره بعد كلّ هذا أن يُضعّف قراءةً متواترةً متّصلة السّند برسول الله, صلّى الله عليه وسلّم, أو أن يستقبحها؟