الأستاذ الأميري وديوانه الإنساني - أب -
الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري
وديوانه الإنساني
– أب -
بقلم المستشار الأديب: علي الزكور
الشاعر الكبير الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري، عَلم من أعلام الفكر العربي الإسلامي المعاصر، ورائد من روَّاده الأفاضل، ومجاهد –في سبيل الله- ضد الاستعمار، والاستغلال، والاستبداد بشتى أشكاله وصوره منذ فجر شبابه، وهو في حياته اليومية، حركة دائبة، وتجدّد مستمر، لا تعرف التوقف والجمود، هدفه وغايته، نشر الوعي الحضاري الإسلامي في العالم بالسمات الروحية الربانية السماوية، التي تنبثق عن الكينونة الإلهية، المنزّهة عن التبدل والتناقض، والتي تبغي الكمال والجمال والفضائل.. فتتوج الحضارة المادية الصرفة المعاصرة، وتتجه بها في خدمة الإنسان والإنسانية، وتحقق "الحياة" التي هي هدف الكائنات..
فالحياة، الفاضلة، المثالية، الإنسانية هي الهدف الكبير، الذي يسعى إليه الأستاذ الأميري الشاعر، والأب، والإنسان، وهذا ما تلمسه واضحاً وتحسُّ به واقعاً من مطالعتك لديوانه الإنساني –أب- إذ تصل إلى الإدراك الحقيقي بأن قلبه الكبير المؤمن، هو أبو القلوب على الإطلاق، في المكابدة والمعاناة، والإحساس بالألم والأمل، والضرّاء والسرّاء، والبأساء والصفاء، ولهذا فإنه يشعر بالمسؤولية عن كل شيء حوله، وهذا الشعور العامر الغامر، يترك لديه إحساساً بالهمّ.. والهمّة.. منذ فجر شبابه فيقول في إحدى قصائده:
حـنـانيكِ يا أيّامُ لا توهني | صبريورقّي على صدري وما ضمّه صدري | |
لـقـد ذاب قـلـبـي رقّـةً وتولُّهاً | فـخلتُ بني الآلام يسعون في | إثري|
فـمـن كـلِّ ذي بؤسٍ لنفسي | حِصّةأشـاطره الآهات من حيث لا | يدري|
تـبـنَّـيـتُ إصـلاحَ البلاد | وأهلهافـأصـبـح أمـرُ الناس كُلّهم | أمري|
وحـمَّـلـتُ نفسي فوق طاقة همّتي | فـشختُ، ولم أبلغ ثلاثين من | عمري
ومن ثم يصبح أب نسب لولده البكر براء عام 1363هجرية فيأنس به ويهنأ، وتهون أمامه الصعاب، ويشعر بالنعمة الإلهية التي وافته على غير ارتقاب، ويتحسّس المسؤولية في التربية والتوجيه، ويتخيّله شاباً وهو لما يزل في الشهور الأولى فيقول:
أبـراءُ يـا بَرْداً | لروحيلاح فـي لـفحاتِ | "آبْ"|
يـا من أراه خلال طيف | الغيب.. يرفل في | الشباب|
وأراه –بـالآمـال- | خلقاًنـيِّـراً.. غضَّ | الإهاب|
وأراه خـاض إلى | العُلىوالـمجدِ.. أغوارَ | العُباب|
وأراه بـالإيمان | والعرفانمـرفـوع الـجـنـاب | |
يـتـقـدَّم الصفَّ | الأبيَّولا يـحـيـدُ ولا يهاب | |
هـذا سـؤال | مـحـبّتيلـك، فلتكن أنت | الجواب|
|
||
أبـراءُ، هـذا الدهرُ منْ | صـفـوٍ ومن كدرٍ | يُشاب|
فـاصـبر إذا شدَّ | الزمانُعـلـيك في ظُفْرٍ | وناب|
واشـكـر إذا بسمتْ | لكَالأيـامُ، وانقشع السحاب | |
جـانـبْ بحاليكَ | التغاليوالـتـمس حُسْنَ | المآب|
بـيـن الفضيلة | والرذيلةفـي صـراع العزم | قاب|
فـاثـبت لإغراء | الحياةوكـن قويّاً في | المصاب|
واحرص على التقوى تفُزْ | فـمـآلُ دنـيانا.. | تراب
وتلاحق له عددٌ من الأطفال، وكانوا معه في مصيف "قرنايل" في لبنان، وكانوا يملأون حياته ضجة وحركة.. ثم سافروا جميعاً إلى مدينته "حلب الشهباء" وتلبّث وحده، وقد اصمت كلّ ما حوله.. فكانت قصيدته الإنسانية الفريدة (أب) التي تأثر بها الناس وكثر طلبهم لها، فاعتبرها الأديب الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد، رحمه الله تعالى، في عداد الشعر الوجداني الإنساني العالمي، حيث قال في ندوة من ندوات منزله في مصر الجديدة في رمضان 1381هـ.
"لو كان للأدب العالمي ديوان من جزء واحد لكانت هذه القصيدة في طليعته.."
وكتب عنها الدكتور عبد الحميد بدوي في رسالة خاصة بعث بها للأستاذ الأميري ما يلي:
"أعجبت بقصيدتك التي تفضّلت بإهدائها إليَّ كل الإعجاب فهي تصوير بارع لمشاعر الأبوّة، وطبائع الطفولة، تنفذ إلى أعماق النفس، وتجمع إلى عذوبة اللفظ يسر التعبير وجمال التصوير":
أيـن الضجيجُ العذبُ | والشَّغَبُأيـن الـتّـدارسُ شابه | اللَّعبُ|
أيـن الـطـفـولةُ في | توقُدهاأين الدُّمى، في الأرض، والكتب | |
أيـن الـتشاكسُ دونما | غرضٍأيـن الـتـشـاكي ما له | سبب|
أيـن الـتـسابق في | مجاورتيشـغـفاً، إذا أكلوا وإن | شربوا|
يـتـزاحـمون على | مجالستيوالـقـرب مـني حيثما | انقلبوا|
يـتـوجَّـهون بسوق | فطرتهمنـحوي، إذا رهبوا وإن | رغبوا|
فـنـشـيـدهم "بابا" إذا | فرحواووعـيـدهـم "بابا" إذا غضبوا | |
وهـتـافـهـم "بابا" إذا ابتعدوا | ونـجـيّـهـم "بابا" إذا | اقتربوا|
|
||
دمـعـي الـذي كَـتَّمتُهُ | جَلَداًلـمّـا تـبـاكَوا عندما | ركبوا|
حـتـى إذا ساروا وقد | نزعوامـن أضـلـعي قلباً بهم | يجبُ|
ألـفـيـتُـنـي كالطفل عاطفةً | فـإذا بـهِ كـالـغيث | ينسكب|
قـد يـعـجبُ العُذَّالُ من | رجلٍيـبـكـي، ولو لم أبكِ | فالعجبُ|
هـيـهـات ما كلُّ البُكا | خَوَرٌإنـي، وبـي عزمُ الرجال، | أبُ
وبعد ثلاثين عاماً من المكابدة والمعاناة في ممارسة أبوّة النسب في التربية والتوجيه، إضافة للأبوة المطلقة، التي يتحسَّس بها الأستاذ الأميري منذ فجر شبابه، يشعر بأنه لم يحقق هدفه المثالي، في إنشاء الأبناء، ليكونوا في مجال الريادة الفكرية، والخلقية، والاجتماعية.. فيطلق قصيدته "زفرة نصوح" يقول فيها:
في القلبِ نيرانٌ وفـي عينيَّ أمسكُ ألف عَبْرَهْ
تأبى الأبوة ذرفهــا وببسمتي.. ألمٌ وحسرهْ
ربَّيتهم.. وبذرت فيهم للمعالي خيـر بـذرهْ
تخذوا الحصاة مثالهم وأردتهم في التاج دُرَّهْ
أبنيَّ.. لا تتذمّروا وتدبّروا قصدي وغَوْرَهْ
وخذوا الصراط المستقيم وبادروا الأهداف عبرهْ
وتمسّكوا بحبال ربكم فثمَّ المرءُ يبرهْ
وبسنّة الهادي الأمين وإنه في الخلق مِدْرَهْ
إنَّ الصلاة عمادُ هذا الدين، شدَّ الله أزرهْ
وعلوّ همتكم من الإيمان والبركات بكرهْ
سيروا جميعاً في محجَّتهِ وكونوا خير أسرهْ
أبنَيَّ.. لا تستثقلوا نُصحي.. طريق الحقِ وعرهْ
إني لمجتهد لكم وسْعي ولستُ دعيَّ قُدرهْ
سلَّمتُ لله الذي فطر البرية خير فطره
وإليه قد أسلمتكم ودعوته في كل زفرهْ
أملي بكم ما زال وفراً والهموم لديَّ وفره
وهكذا نجد، الأستاذ الأميري، الأب والإنسان، يدعو أبناء الجيل عن طريق دعوة أبنائه، ليتخلقوا بالأخلاق المثالية الفاضلة، ويأمل في أن ينشأ الأبناء، عظماء في سلوكهم وأخلاقهم وأهدافهم، ويحاول أن يترك أثر الدين في نفوسهم، ليقوى إيمانهم وتزكو أخلاقهم..
وقد استطاع الأستاذ الأميري، أن يعرض علينا مشاعره وعواطفه الأبوية، عرضاً حيّاً أخاذاً إنسانياً. ولا غرابة في ذلك وهو الأب المثالي في شعوره وأحاسيسه وفي تربيته لأبنائه.. إنه يريد أن يقترب الأبناء من الكمال، والمثالية، في شتى المجالات الفاضلة لتكون لهم الحياة الكريمة والعيش الرغد، والسعادة في الدارين..
ونحس ونلمس بأن قصائده في ديوان "أب" قطعة من قلبه وكبده تصوّر شعوره وعواطفه وأحاسيسه، بعفوية وصدق، ولهذا فهي قصائد خالدة، تنبع بالحكم، وتنبض بالروح، وتسمو بالعواطف إلى ميادين النبل والوفاء، والإخلاص، ولهذا فهي قصائد إنسانية وعالمية خالدة على مدى الدهر..
"عن مجلة الضاد الحلبية"