ضباب الأزمة المالية

ضباب الأزمة المالية

يوسف بعدراني

يتناقل كثير مِنَ الخبراء والمحللين والساسة ما تصرح به الجهات الأمريكية بدون جهدٍ فكري لتقويم التصريحات ووضعها في موقعها الطبيعي إذا كانت للتضليل أو تغطية الحقيقة أو توجيه الفكر باتجاه التغطية على سبب الكلام. مثل قولهم: (ويؤكد خبراء ودراسات أعدها صندوق النقد الدولي، أن من عناصر الفشل الرئيسة في فترة الرواج الاقتصادي، عدم القدرة على رصد الخطر الذي تمثله فقاعة أسعار الأصول المتنامية في المشهد الكلي.) ومثل قول الأمم المتحدة: (فشل القطاع المالي سبب الأزمة المالية). ومثلها تصريح أليوت سبيتزر حاكم ولاية نيويورك السابق يردِّد كالببغاء يوم 26/3 في أول إطلالة تلفزيونية بعد استقالته  مقولة أوباما "إنَّ سبب الأزمة المالية هو الإهمال أو الاستهتار والجشع". ومثلها العديد الذي لا يحصى مِنَ التصريحات التي تمنع العقل مِن اتهام أمريكا أنها هي وراء هذه الأزمة وهي بكامل وعيها. وأنَّها خطَّتَها الجديدة في السيطرة على العالَم منفردةً بعد أن عجزت عن ذلك في خطة 11/9 بسبب وعي أوروبا على اهداف تلك الخطة التي تقضي بتحويل أوروبا إلى أكشاكِ لهوٍ ورذيلةٍ تموت فيها النفس الإنسانية.

لا بد مِن بيان حقيقة هذه المقولة وأمثالها التي أطلقها السياسيون وخاصة الأمريكيون وتناقلها المحلِّلون دون تمحيص لها يمكِّنهم مِن توضيح سببها وأبعادها وأنها مِنَ منظومة خلط الحقائق للتلبيس على الأذهان حتى يستحيل على أيِّ فردٍ أن يفهم حقيقة ما يجري في موضوع الزلزال المالي.

عندما اتهم بوتين وبراون وميركل وعدد لا يحصى مِنَ السياسيين حول العالَم أمريكا بأنها وراء الأزمة المالية لم يوضِحوا سبب اتهامهم، ليس لجهلٍ بل لأنهم جميعهم أقزام أمام أمريكا ولو اجتمعوا في العلَن ضدها. قوتهم أن يكون اجتماعهم ضِدَّ أمريكا بالسر أي بتوزيع أدوارٍ على بعضهم في خطة الوقوف بوجهها، وهم يقومون بذلك على خير وجه ولا يمكن أن يقوموا به بوجه أفضل. لذلك اتهامهم لأمريكا أنها وراء الأزمة المالية يحتمل معنيين يهربون بأحدهما عندما يقدمون خطتهم لإصلاح الوضع الاقتصادي. هم ليس عندهم خطة، فلسفة الفكر الاقتصادي وهي الفكر الرأسمالي يستحيل ان ينتج منه خطة ولذلك الجميع حتى أوباما يصرح أنه لا توجد خطة إنقاذ ونحن نحاول ومَن عنده اقتراح أفضل نحن مستعدين أن نسمع وأن نتبناها إذا كانت أفضل. وجميع المفكرين الاقتصاديين أعلنوا كلٌّ بدوره أنهم لا يعلمون طريقاً للخروج مِن هذه الأزمة لكن بالنهاية يجب ان نخرج بطريقةٍ ما. لا يوجد حل مِنَ الفكر الرأسمالي،  ليس لجدبٍ في العقول الغربية بل لأن الفكر الرأسمالي ليس فكر اقتصاد بل فكر إجرائي في موضوعٍ مِن مواضيع النظام الاقتصادي الذي يلزم المجتَمَع الإنساني. لكن هذا البحث الفكري هو وقفة في توضيح مقولة "عدم القدرة على رصد الخطر" أنها ليست سبب الأزمة أو أنها مِن أسبابها.

كثير مِن رجالات الصف الأول مِنَ الاقتصاديين أعلنوا أنَّ الإجراءات المعمول بها هي أقصى ما يمكن للعقول أن تنتجه، وأنَّ هذه الأزمة ليست بسبب ضعف إجراءات العمل المصرفي والرقابة، وأي تشديد أكثر مما هي عليه سيضر بالاقتصاد العالمي. وكثيرون صرحوا أنَّه لم يكن هناك أيُّ مؤشِّرٍ على حدوث هذه الأزمة وأنها جاءت مِن حيث لم يتنبأ بها أي اقتصادي أو دراسة أو تقرير هيئة مراقبة.

المعنى الأول لاتهام "الكبار" لأمريكا أنها وراء الأزمة يعني أنَّ أمريكا قصَّرت بالتجاوب السريع الفوري لتلافي الأزمة ولذلك هم يتهمونها. هذا القول لا يثير أمريكا ولا ترد عليه بل إن بعض رجالات الحكومة في الكونغرس يثبتونه ويشيعونه بين وسائل الإعلام لأنه في واقعه أنه إذا صدَّقه أحد يستحيل عليه أن يفهم شيئاً مِنَ الذي يجري على أرض الواقع. وهو مِنَ الأفكار التي تضيِّع العقول الأوروبية خاصةً وتعمي بصيرتهم في رؤية الحقيقة في طريق الخروج مِنَ الأزمة. لكن العقل الأوروبي ومنه الروسي يبقى في جذوره مِن طبيعةٍ إنسانيةٍ ولو أنه في ثقافته تخلى عن أيِّ مفهومٍ إنساني وأصبح يعيش بفكرٍ رأسمالي غير إنساني في قاعدته الفكرية، وغير إنساني في غايته، وفي إجرائه حتى. لهذا نرى انفلاتاً للطبيعة الإنسانية في مستوىً مِنَ الاختناق إما أن تأمر الفرد الذي يعاني مِن وعيٍ لا يستطيع تبرير حيثياته بأن ينتحر، وإما أن يعبِّر عن الحقيقة التي يعرفها لكنه لا يستطيع التعامل معها بفكره الذي يعتقده.

الفرد الذي يعاني مِن وعي لا يستطيع تبرير حيثياته ينتحر لأنه رجل مخلِص لذاتيته الفكرية بغياب وعيه على ذاتيته الإنسانية. ليس في ثقافته ثقافةً بشرط الفكر أنه هو العلم الذي يطابق الواقع وليس العلم الذي يفرض فهم الواقع، أو العلم الذي يستنتجه مِنَ الواقع بفهم الواقع بدون عناصر الفهم. هذا الفرد لا يستطيع التعايش مع أكذوبة الحياة؛ مناقضة الواقع الذي يصوغه بفكره وسلوكه لما يعتقده مِن غايةٍ لهذا الفكر. تناقض فكره مع واقع الفكر هو بسبب وضع غايةٍ للفكر لم تصدر عن الفكر، ومع ذلك يفترضها ويفرضها أنها غاية للفكر وليست غايته هو التي يفرضها بدون وجود القيادة الفكرية التي عنها ومنها يتحدَّد السلوك الإنساني والتي تحدَّد غاية الفكر، وبذلك يكون السلوك الإنساني لتحقيق الغاية الفكرية متوحَّدا بمصدره مع مصدر الغاية الفكرية. هذا الانفصام بين الفكر وغاية الفكر، وبين الفكر وواقعه، وبين السلوك الفكري ونتيجته الواقعية، يصدم النفس البشرية فيحدِث الألم الفكري الذي تأباه الذات التي يقوى فيها توقها إلى إنسانية تراها ميتة حولها. لا تجد النفس البشرية إنقاذاً لها مِنَ الاختِناق الذي يفرضه واقع العيش إلا برفضه والخروج النهائي منه بالطريقة الوحيدة التي يتيحها فكر الحياة للفرد وهو الانتقال مِن هذا الواقع المحسوس بالألم فقط إلى الواقع غير المحسوس إلا بالتخيل. الانتحار ليس خياراً جسدياً بل هو خيار عقلي وهو خيار النخبة مِنَ المفكرين بفكر الفلسفة الغربية التي أنتَجَت الأفكار الديمقراطية الرأسمالية، ونعني بالنخبة هم المخلصون لغايات الفكر وليس للفكر. المخلص لغاية الفكر غير المخلص للفكر. بينما المشعوذون هم الذين يخلصون للفكر ولا يهتمون بغايات الحياة التي تتمخَّض عن الرؤية الفكرية للحياة بل بنتائجه، هؤلاء تموت فيهم الإنسانية، لايستطيعون الحياة إلا بادعاء مبرِّراتٍ لأعمالهم. أبرز هؤلاء في العصر الحالي هم مدرسة بوش/تشيني السياسية، ومدرسة أوباما الاقتصادية إذا جاز هذا التخصيص هنا في موضوعنا لأنه اقتصادي.

الفرد الذي يعبِّر عن الحقيقة التي يعرفها لكنه لا يستطيع التعامل معها بفكره هو باختصار مثل ميركل التي تقول "إنَّ ألمانيا فعلت ما بوسعها لإنقاذ الاقتصاد ولا تقبل باقتراح أمريكا لفعل المزيد". ميركل تعلم يقيناً أنَّ الأزمة الاقتصادية هي مِن فِعل أمريكا وهي خطَّة أمريكا في ضرب أوروبا بالضربة القاضية. ومِنَ الأهداف الكثيرة في خطة أمريكا لضرب أوروبا التي تعلمها ميركل وكثير مِنَ السياسيين الأوروبيين هو أنَّ أمريكا تريد حثَّ الحكومات لأن تتجه بمعالجتها للأزمة بالطريق الذي توجَّهها أمريكا للسير فيه. أمريكا تريد أن تسير دول أوروبا بطريق الوقوع في الهاوية التي لا تستطيع الخروج منهاً أبداً إلا بحبلٍ مِن أمريكا طرفه. أمريكا تريد مِنَ الدول أن تنفق كل السيولة التي لديها في الأسواق الميتة لإحيائها أو إحياء "الثقة" كما يسمونها تقنياً بألفاظ الساعة حتى تفلس الحكومات ولا يكون إنفاقها قد أثَّر بانتعاش الأسواق لأنه لا يمكن للسيولة أن تعالِجَ الأزمة الحالية إلا بمنظار الإيهام بالعلاج وليس بفكرعلاج الواقع. الهدف الأسمى في الخطة الأمريكية هو ما تخوَّفت منه الأمم المتحدة بتاريخ 26/3/09: "الأزمة المالية قد تؤدي إلى ثورات في العالَم". وهو ما تخوَّف منه أو تنبأ به أحد معاهد الدراسات السياسية/الاستراتيجية البريطانية قبل بضعة أيام مِن الأمم المتحدة "إن الأزمة المالية العالمية قد تتسبَّب باضطرابات إجتماعية وثورات في أكثر مِن 95 دولة" وبالطبع على رأسها الدول ذات الشعوب الحية بأفكار "الحريات" و"الديمقراطية" و"الرأسمالية" مثل الشعوب الأوروبية. إفلاس سلطات الحكم هو التمهيد الأخير لإطلاق فكر تبرير الاضطرابات وتفعيل الطاقات الثورية المكبوتة عبر عقودٍ مِنَ الإحباط النفسي التي تعيش بها شعوب "الحرية".

هول هذه الحقيقة في خطة أمريكا هي سبب تصريح رئيس وزراء تشيكيا رئيس الاتحاد الأوروبي في الشهور الحالية بالأمس قي 25/3/09 عندما اختصرها بقوله "إن خطة أمريكا بالتحفيز الاقتصادي هي طريق الجحيم". أما سبب جنون براون وحيرته فهو موضوع منفصل لأنه أعمق مِن مستوى هذا البحث ولوجَه لا يستوفي حقه كملحقٍ بموضوع لأنه منفصل بحيثياته ومستقل بعناصره. هؤلاء يعرفون الحقيقة لكنهم يجهلون مصادر فكر المواجهة ليس لعقمٍ فكري بل لسبب فلسفي. الأزمة لم تنشأ مِن فكر بل مِن إجراء لكن علاجها يحتاج إلى فكرٍ لا يجدون له مصدراً إلا الإجراء، وهو ما يفرض أن يكون مبرِّر الفكر هو غاية وليس إجراء وهنا تكمن المعضلة. الفكر الذي ينشأ عن تبرير الغاية يفتقد الحجَّةَ الفكرية، لا بدَّ له أن يستعين بقوةٍ غير قوة الحجَّة المفقودة والتي هي معين القوة الطبيعي للفكر. القوة البديلة لقوة الفكر هي القوة المادية التي هي هنا قوة أدوات الإجراء، لكن بما هي عليه الدول مِن ضعفٍ بالإمكانيات الواقعية يصبح فكر تبرير الغاية بدون قوةٍ مادية، وهو أصلاً بدون قوة حجَّة الفكر. لهذا السبب يواجه العالم هذا الإفلاس الفكري في دول العالم قاطبة، ولهذا هو الجحيم الذي اصطنعته أمريكا لأوروبا، ولهذا المسرحية ذات فصول، وهذا ما يفسِّر سبب الإحباط والحيرة والاختلاف بين ضفتي الأطلسي دون أن يجرؤ أحد على تحديد سببه إلا بقول عمومي يعمي أكثر مما يوضِح.

المعنى الثاني لاتهام "الكبار" لأمريكا أنها وراء الأزمة يعني أنَّ أمريكا هي اصطَنَعَت الأزمةَ بتفكيرٍ وتصميمٍ: خطَّةً وإجراءً وتوقيتاً ونتيجةً. وبهذا فقط يمكن أن نفهم سبب تصريح الرئيس ميريك توبلانيك التشيكي رئيس الدورة الأوروبية، وتصريح لا سيلفا رئيس البرازيل إبان زيارة براون له في 26/3/09 "قبل الأزمة كانوا يعرفون كلَّ شيء ولما وقعت الأزمة اعترفوا أنهم لا يعرفون شيئاً". أدلى بهذا التصريح بعد أن صرَّحَ "إنَّ سبب الأزمة المالية هم ناس بيض عيونهم زرقاء" ولم يقل "الناس" بل حذف أل التعريف حتى يخصِّص بالوصف الذين قاموا بهذا العمل فلا يتخيَّل أيُّ ساذج أناس غير الذين يقصدهم أي الأمريكان بعد حذف أوروبا مِن معادَلَة قوى الخطة أو إثباتها أنها الضحية.

بعد هذا الإيجاز بالتوضيح لبعض النقاط يمكن فهم سبب مقولة الأمريكيين أولاً (ويؤكد خبراء ودراسات أعدها صندوق النقد الدولي، أن من عناصر الفشل الرئيسة في فترة الرواج الاقتصادي، عدم القدرة على رصد الخطر الذي تمثله فقاعة أسعار الأصول المتنامية في المشهد الكلي.)" التي ترد في مقالات أكثرية الذين ينساقون بفهمهم تبعاً لطروحاتٍ فكرية لم يكن لهم يد باستنباطها.

ليس أحد أجدَرَ بالتوضيح مِنَ المفكِّرِ الرأسمالي اللامع ألان غرينسبان وهوغنيٌّ عن التعريف ومِن أكثر الشخصيات الفكرية التي كنت أترقب السماع إليها لأنه مدرسة خاصة فريدة لمن يحب أن يتعلَّم قواعد الفكر الرأسمالي/الديمقراطي بالمثال الحي في رسم خريطة الشعوذة الفكرية التي يتعامل بها المفكرون الرأسماليون مع الواقع الاقتصادي والإنساني للمجتَمَع الديمقراطي الرأسمالي. صرَّح غرينسبان في عدة مناسبات آخرها منذ حوالي ثلاثة أسابيع في محاضَرَةٍ بأحد الجامعات الأمريكية وكررها مع ديفيد فابر على cnbc محطة تلفزيون أمريكية هو تفاخره بما معناه: "نحن كنا وراء الفقاعة الاقتصادية لأن الاقتصاد لا يتحرك بذاته بل يحتاج إلى تحريك. ونحن دائماً نقوم بأعمال تحريك السوق". فهذا التصريح بذاته ضوء لفهم أنَّ ما يجري هو إجراء أمريكي لشلِّ دول العالَم بعدَ تجفيف مواردها النقدية فتبقى أمريكا وحدها صاحبة نقدٍ بين مفلسين يقتلهم اختناقهم بجشعٍ لا يمكن إشباعه. إنقاذ أنفسهم ليس صعباً مثل تعليق الجرس في عنق القطة، لكنه مستحيل بانعدام فكر الرؤية في حقيقة الواقع الذي يغرقون فيه. براون يغرق لكنه لا يستسلم، ساركوزي ضائع بين يمين زوجته ويسراها، وحده اجتماع بريق ميركل في عينيها وحِدَّة بوتين في صوته وأناة الرئيس الصيني في تدبيره يبعث أملاً في أن يهتدوا بطريقة انهمار المطر بعد الرعد إلى إتقاذ أنفسهم أولاً ومجتمعاتهم ثانياً وإفشال خطة أمريكا بتحويلهم إلى متسولين بين ....... ثالثاً.