أحمد الجار الله وسيمفونية النفاق

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

عرفت  أحمد الجار الله وجريدة السياسية من قرابة ثمانية وعشرين عاما ، وبتحديد أكثر ابتداء من اواخر سبتمبر سنة 1970  م ، فقد أعرت للعمل في الكويت من الحكومة المصرية ، لمدة أربع سنوات . وكان نزولي الكويت قبل موت عبد الناصر بثلاثة أيام ( عبد الناصر : 15 / 1 / 1918 الى 28 سبتمبر 1970 )  . 

كان احمد الجار الله في طريق الصحافة يحبو ، وسمعت ممن يعرفونه ولهم به صلات أنه كان يكره المصريين ، وينقم عليهم ، وينظر إليهم كمرتزقة ضاقت بهم الحال بعد هزيمة 1967 . ومما يؤثر عنه قوله : " ناقص والله رئيسهم ( أي رئيس المصريين ) يأتي ليعمل عندنا بعقد" . هذا ما سمعناه ــ نحن المصريين ــ يتردد كثيرا أثناء عملنا بالكويت .

**********

وبمرور السنوات اتسع ملك الرجل ، وأصبح من كبار رجال الأعمال ( البيزنس ) على مستوى العالم . وحق فيه أن أقول عنه :

صحفيٌّ أورق الصخرُ له      وجرَى بالسلسبيل البلقعُ

ولكن الرجل الذي كان يرأس تحرير صحيفة السياسة ظل ــ حتى الآن ــ "أبيض "،

وأبيض في استعمالها الدارج تعني ممسوح العقل ، يعاني من الأنيميا الثقافية .

والحقيقة أنه من الصعب علينا ــ إن لم يكن من المستحيل ــ أن ننسبه لكتاب المقال ، فالقارىء لا يخرج مما يفرزه  الجار الله بفكرة ذات قيمة ، أو بتوجيه سياسي أو اجتماعي نافع ، ولكن أهم سماته أنه لا وجود للون الرمادي فيما يفرز ، فهو لا يعرف إلا اللونين الأبيض والأسود : فنراه  يظهر بالأبيض الناصع الزاهي لمن يرضى عنه ، ويكيل له من العبارات  ما يخجل عبد الله بن أبيّ بن سلول . ويظهر بالأسود الحالك لمن يغضب عليه ، فيحمل عليه بسُعار محموم ، وكل ذلك على حساب القيم والأخلاق . ولن نذهب بعيدا :

كتب الجار الله في صحيفتي السياسة ، و أخبار اليوم المصرية بتاريخ السبت 26 / 1 / 2008 مقالا بعنوان : " إلى الرئيس مبارك : العيب فينا لا في الأوربيين  "  فيه من السقوط اللغوي والفكري الكثير والكثير ، وفيه من النفاق أكثر فهو : يحمل على جماعة الإخوان المسلمين وعلى حركة كفاية ويسخر منهم سخرية عبثية مرفوضة فيكتب : ظن البعض أن أيمن نور ينتمي لأسرة " البوربون " .  أو أن هنري الثامن كان مرشدا عاما . وأخذ يكيل فيضا من النفاق للرئيس مبارك مثل قوله :   الأمر الذي يوجب علينا, بأمانة, أن نتوجه الى الرئيس محمد حسني مبارك بنداء عربي مبين نقول فيه عفوا يا سيادة الرئيس, فإن العيب فينا وليس في الاتحاد الأوروبي ... ونحن نعرف يا سيادة الرئيس, انك لست ديكتاتورا، وأنك اخترت إشاعة الحريات واحترام الرأي والرأي الآخر, وأنك الضامن الأول لحقوق الانسان في مصر  .

ويمضي مصرًًّا على جلد الذات . أما السقطة البشعة فهي تحريض رئيس الدولة وحكومته وإغراؤهم ليعصفوا بالأبرياء من المواطنين ، فيقول "... بل عليكم أن تأخذوا حق مصر وشعبها الطيب من هذا النفر الـتائه . فالمصريون يقولون اليوم لحركة كفاية : كفاية كدة ، ويدعون الإخوان المسلمين لعدم لعب دور الفاسقين ..." ، إلى آخر هذا السقوط . أما ضعف الجار الله في اللغة فحدث عنه ولا حرج كما نجد في قوله : فأفلتوا ألسنتهم من عقالها . مع أن الفعل أفلت لازم لا متعد . وقوله فأعاب على مصر ما ليس فيها  .  والصحيح عاب .

*********

وأبشع من ذلك ما كتبه في السياسة والأهرام يوم الثلاثاء 13 من يناير 2009     

بعنوان "  اعذرهم يا سيادة الرئيس‏...‏ الجهل أعمي بصيرتهم "   .

وفي هذا المقال تفوق الجار الله على نفسه ، وبلغ من نفاقه أن وظف بعض الأفعال والصفات التى اختص به الله سبحانه وتعالى ، وأسندها للرئيس حسني مبارك مثل : الفعل غفر : فالله هو الغافر ، والغفار ، والغفور. ولا يصح دينا وعقلا أن نخاطب بشرا بهذه الصفة . الله سبحانه وتعالى يقول " ومن يغفر الذنوب إلا الله " آل عمران  135. واستعمل هذا الفعل عشرات من المرات ، وليس فيها إسناد لبشر .  ومن هذه الآيات   " ... واعف عنا واغفر لنا وارحمنا " البقرة 286 ــ "...  ربنا فاغفر لنا ذنوبنا ، وكفر عنا سيئاتنا " ال عمران 193 . " ... رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا ... " نوح  28 .

ولكننا نجد الجار الله قد أسند هذا الفعل لبشر وهو الرئيس حسني مبارك .

فاستهل مقاله الغريب بقوله : اغفر لهم أيها الرئيس مبارك . ( وهو يقصد بـ"لهم" المصريين الذين ينقدون مبارك ونظامه ) . وقلنا ربما اكتشف الرجل خطأه ... بل خطيئته ، ولكنه أصر عليها فختم مقاله بقول " اغفر لهم يا سيادة الرئيس "  . وأعتقد أن هذه السقطة ترجع إلى انعدام ثقافته الدينية ، والقرآنية بصفة خاصة فنجده مثلا يقول في صلب مقاله  "... وعزاؤنا ثقتنا بالله ، وبالحكمة القائلة إن الزبد يذهب جفاء . مع أن ما سماه حكمة إنما هو جزء من آية قرآنية يحفظها الأطفال في المدارس وهي قوله تعالى  " .... فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ " الرعد 17 .     

أما أخطاؤه التاريخية ففاضحة فهو مثلا يقول " ...  وهم (الإيرانيون) ظنوا ان صلاح الدين الأيوبي الذي حرر بيت المقدس أصله من فارس‏,‏ وأن قطز الذي هزم التتار وحمي مصر وبلاد الشام في معركة عين جالوت أصله من طهران‏  " .

 وبصرف النظر عن هذه السخرية التافهة غاب عن صاحبنا ( الأبيض ) أن البطلين صلاح الدين وقطز لم يكونا عربيين : فصلاح الدين كردي ، وقطز مملوكي ، وهذا لا يعيبهما لأن الإسلام دين وجنسية ووطنية وقومية ، فهو قد ذوب هذه الأجناس في بوتقة واحدة هي بوتقة الإسلام . وهذا يذكرني بأحد الشعراء القدامى حينما سئل عن أبيه : أقيسي هو أم تميمي ؟، فأجاب :

أبي الإسلامُ لا أبا لي سواهُ       إذا افتخروا بقيس أو تميم  

ويظهر أن الجار الله  " الأبيض " نسي ــ أو تناسى ــ أن سلمان الصحابي الجليل كان فارسيا ، وقد قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم " سلمان منا أهل البيت " .

ومن أخطائه القاتلة كذلك ما نراه في قوله  " ...   لقد دخل التتار بغداد عندما خان أحد أعوان السلطان العباسي بلاده‏  " .   وهو يقصد الوزير الخـائن "ابن العلقمي ‏" ،  (وإن لم يذكر اسمه ) . مع أن المسئولية الأولى ترجع إلى الحاكم الفاسد الخليفة المستعصم .  والمستعصم (609 - 656هـ)  تولى الخلافة بعد أبيه المستنصر العباسي في جمادي الآخرة سنة 640, وكان ــ كما وصفه ابن طباطباــ "مستضعف الرأي, ضعيف البطش, قليل الخبرة بأمور المملكة, مطموعا فيه, غير مهيب في النفوس, ولا مطّلع علي حقائق الأمور, وكان يقضي زمانه بسماع الأغاني والتفرج علي المساخرة... وكان أصحابه مستولين عليه, وكلهم جهال من أرذال العوام...."

هذه كانت صورته: خليفة ساقط الهمة, عديم الحزم, ضائع الهيبة, همه في حياته المتع والملاذ وجمع المال, دون شعور بالمسئولية والخطر الزاحف إليه من قِبَل التتار .  فالمسؤل الأول هو ذلك السلطان اللاهي الساقط ، وكانت نهايته أن قتل ـ رفسا ـ أي بأقدام التتار وأحذيتهم .

واندفاعا بعاطفة هوجاء نرى الجار الله ينثر إفرازاته الكريهة على الكثيرين

 ممن  ينقدون الرئيس مبارك ، وهذا حقهم . فهم في نظره سفهاء ، أغرار ، جهلاء  ، مخربون مدمرون ، لا يحسنون التفكير والتقدير ، مغرضون إرهابيون  عملاء لإيران التى يسميها " الأبيض " بلاد فارس ، أما الإخوان المسلمون ففاسقون  ... الخ .

وكلها إفرازات كريهة فاض بها الجار الله " الأبيض " ، ولم يقدم دليلا واحدا على صحة ما يقول .

ولكننا في النهاية ندعو الله سبحانه وتعالى أن يرفع الغشاوة عن عينيه ، وأن يطهره من إفرازاته ، وان يشفيه من "الأنيميا الثقافية" ، ومن عقد الضعة ، والتعاظم ، وأن يرزقه فضيلة التواضع ،والاعتزاز بالنفس والقيم العليا ، حتى يغفر الله له ولنا .