مديح الحزب الوطني !
أ.د. حلمي محمد القاعود
مع اقتراب موعد المؤتمر السنوى الخامس للحزب الوطنى فى أول نوفمبر 2008م ؛ بدأت طلائع المداحين تنظم المقالات الطوال فى مدح الحزب وإنجازاته وتطوراته وأخذ بعضهم يتغزل فى الحزب وما يملكه من فكر وقيادات ورؤى سياسية واقتصادية واجتماعية بوصفه قاطرة الحراك والمتغيرات التى شهدتها البلاد فى السنوات الماضية ..
وراح بعضهم يُجيب عن سؤال : لماذا هو عضو فى الحزب الوطنى ولجنته السياسية أو تنظيمه الطليعى وفقا لما كان سائدا فى خالد الذكر الاتحاد الاشتراكى العربى ، وينفى عن الحزب ما يوجه إليها من تهم ، وما يوصم به من عيوب ومثالب ، ويتحدث عن التنمية ، وحجم الحرية التى يتمتع بها عضو الحزب بالمقارنة مع غيره من أعضاء الأحزاب الرسمية والسرّية !
ثم إن من المديح ما يذهب بعيداً ، حيث يعدّ الحزب أفضل المنصات لإطلاق الأفكار التى تصل إلى السلطة والمجتمع فى وقت واحد ! وبالإضافة إلى ذلك فإن الحزب يأخذ موقفاً واضحاً وصريحاً من قضية السلام والعمل من أجله لتتقدم مصر وتتحسن أحوال شعبها وتحق مكانتها بين الأمم ...
ويتبارى المداحون الذين يتمتعون بنفوذ لا يخفى فى لجان الحزب ، فى التفاخر بعضوية الجماهير وإقبالها عليه لدرجة وصولها إلى مليونى عضو ، على حدّ قول أحدهم ، وثلاثة ملايين على حدّ قول آخر ، من بينهم قرابة ثمانية آلاف عضو يحملون درجتى الماجيستير والدكتوراه ..
من واجب مداحى الحزب الوطنى أن يفخروا بما يتحقق على الورق ، وما ليس له وجود على أرض الواقع ، من قبيل التنمية القائمة على الاستثمارات المستمرة فى البشر والأرض والموارد المصرية المختلفة ، من أجل خلاص مصر والمصريين من الفقر والفاقة والمشكلات الدورية والأزمات المتعاقبة .
ويتحدث بعضهم عن إنجازات واقعية وملموسة فى الواقع المصرى حققها الحزب وقياداته الوطنية ، مسّت مصالح الناس ، وصبّت فى اتجاه تحسين أحوالهم المعيشية ، مع الحفاظ على أمن واستقرار البلاد ، ومواصلة حركة التغيير والتطوير والإصلاح فى كل المجالات .
ويرى مداحو الحزب أن معارضى الحزب كذابون ومزوّرون وأن حملاتهم لن تتوقف مما يستوجب حملات مضادة لكشف الحقائق وتوضيح المواقف وتفنيد الآراء ..
وبداية ، فإن من حق القوم أن يفخروا بحزبهم ، وأن يقولوا فيه ما يشاءون ، حتى لو لم يكن له ظل من الحقيقة ، فقد أغدق عليهم الحزب بلا حساب ، ورفعهم فوق ما كانوا يحلمون به ، ولك أن تتخيل مثلاً عضواً بائساً فى حزب العمال الشيوعى تطارده السلطة مع بقية أعضاء حزبه ، ويحاصر فى جريدته ، فلا يكتب إلا بقدر ، ولا ينشر إلا ما يسمح به الآخرون ، وفجأة يتحول إلى عضوية الحزب ، وتنظيمه الطليعى ، ويصبح فجأة رئيس تحرير، وكاتباً فى أعرق الدوريات ، ومتحدثاً فى تلفزة السلطة والفضائيات ومطلوبا فى الندوات والمؤتمرات ، ويجد اهتماماً من كبار المسئولين حين يمرض أو يعايش مناسبة اجتماعية حزينة أو سارة .. وتتدفق عليه الأموال من ذات اليمين وذات الشمال ؛ بينما رفاقه الذين ظلوا فى مواقعهم يتضورون بؤساً ويعانون الحصار والملاحقة ولا يجدون فرصة لتحقيق ذواتهم ، أو التعبير عن أنفسهم .. بلا شك فصاحبنا لابد أن يكون مبالغاً فى مدائحه ، بل مختلقاً لها ، من أجل الاستمرار فى رغد العيش وبلهنيته ، والتنكر لكل القيم التى تربى عليها وسعى لنشرها !
ولك أن تتصور يساريّاً آخر متطرفاً ، يتحول بفعل " البراجماتية " إلى متأمرك متعصب للأمركة ، بعد سقوط " ولىّ النعم " فى موسكو ، ويكون مدخله إلى حزب السلطة بداية لغرقه فى نعيمها وعطاياها ومناصبها ، لدرجة أنه يشير باستعلاء ونرجسية إلى محاضراته وندواته فى العواصم الكبرى ، وكأنه فارس من العصور الوسطى !
إن الحزب الوطنى الديمقراطى هو حزب السلطة بلا ريب ، ويضم قوماً لا يجدون حرجاً فى التحول إلى حزب آخر إذا تحوّل صاحب السلطة إليه ، وسبق أن جاء هؤلاء من حزب مصر الذى كان يقوده رئيس الوزراء الأسبق " ممدوح سالم " بعد أن أعلن الرئيس السادات – رحمه الله – عن إنشاء الحزب الوطمي ، وكانوا قبل عضويتهم فى حزب مصر فى منبر الوسط ، ومن قبله فى الاتحاد الاشتراكى ، ومن قبله فى الاتحاد القومى ، ومن قبله فى هيئة التحرير ، وما زال البعض حيّاً ممن أدركوا تنظيم السلطة فى بدايته ، وإن صاروا قلة نادرة بحكم نهاية الأعمار والآجال لمن رحلوا .
" تنظيم السلطة " كيان وهمى خرافى لا وجود له فى الشارع كما يدعى مداحو الحزب الوطنى ، وإن كانت مقراته ولا فتاته تملأ الشوارع والحارات والميادين ، إلا إنها فارغة من المضمون ، وخالية من المنهج ، اللهم إلا تأييد السلطة ، والهتاف من أجلها ، ولو أخفقت فى كل الميادين والمجالات .
لا يوجد عضو فى حزب السلطة ، على استعداد للتضحية بمكاسبه ومصالحه ، ولذا يهتف ويغنى وينشد للحزب القائد ، ومن المفارقات أن الذين يعلنون أحيانا عدم رضاهم عن سياسات الحزب ، ويهدفون إلى لفت الأنظار إليهم ، لا يستقيلون منه ، ولا يتنازلون عن امتيازاتهم ، لسبب بسيط ، أنهم يمدحون قياداته الملهمة ونظرياتها التاريخية التي تمنح وتعطي !
ومن المؤكد أن الحزب على مدى ثلاثين عاماً تقريباً ، وهو يحكم مصر ، أو يؤيد حكومة مصر ، أخفق إخفاقاً تاماً فى مسألة بسيطة حققتها دول الأرض جميعاً ، وهى توفير رغيف الخبز للإنسان المصرى وجرعة ماء نظيفة ، دون إهدار كرامته وضياع وقته وقتله أحياناً فى طوابير الانتظار والزحام .
ولا أدرى كيف يكون حزباً فاشلاً فى توفير الرغيف وجرعة ماء ، يمكن أن يكون قاطرة التغييرات والحراك الاجتماعى ، وهو الذى لا يتحرك ولا يمضى إلا إذا نزلت عليه التعليمات من أعلا وجاءته التوجيهات من فوق ، ويكفى أن يعلن المسئولون بداية من رئيس الحكومة وأمين الحزب حتى أصغر مسئول فى صفط اللبن ، أنه يعمل بناء على توجيهات القيادة السياسية . فأين هى القاطرة المزعومة ؟
إن الحزب بقياداته التى تسمى رجال الأعمال – وأسميهم رجال القروض – لا يملك من أمره شيئاً لسبب بسيط وهو أن قياداته مشغولة بمصالحها وتنمية مدخراتها فى بنوك مصر ، وبنوك الخارج ، ولا يهمها أن تكون هذه المدخرات حلالاً أو حراماً ، جاءت نتيجة عرق وجهد حقيقى يخدم الملايين من المصريين ، أو جاءت نتيجة تسقيع الأراضى الحرام ، أو بيع الهواء ، أو شركات الاستيراد والتصدير ( استيراد ماذا ؟ وتصدير ماذا ؟ اسألوهم ! ) ، ومن ثمّ ، فإن ما تقوله السلطة هو الذى يتم تنفيذه ، ولو كان مخالفاً للتوافق الاجتماعى ، ومعاديا للطبقات المسحوقة ( تأمل التعديلات الدستورية ، وقوانين الضرائب ، ومرتبات العاملين فى الدولة ) ؛ بل إن بعض القوانين التى تم إقرارها جاء لصالح بعض هذه القيادات ( تأمل قانون المرور على سبيل المثال ) . ولن أتكلم عن الحوادث المشينة التي ارتكبها هؤلاء، ودخلوا السجن بسببه ، فهو مما يعلمه العامةفي مصر وخارجها!
لقد أثبت الحزب جدارته بالفشل الذريع – إن صح التعبير – فى تسيير شئون الناس على مدى ثلاثين عاماً ، وكانت أبرز الكوارث والمصائب مرتبطة بقياداته التى طعمت بعد جوع وأمنت بعد خوف واسأل عن : غرق العبارات ، انهيار العمارات ، انقلاب القطارات حوادث الدويقة وحرائق مجلس الشورى والمسرح القومى ومصانع المحلة و6 أكتوبر ، وغيرها .
إن حجم الحرية فى مصر ضئيل جداً ، وهذا الحجم لا يمنح إلا لمليونيرات الحزب بإصدار صحف صفراء وقنوات مضللة وأبواق منافقة وأحزاب ورقية أو عائلية لا تهش ولا تنش ، وتعمل فى خدة النظام البوليسى الفاشى ، مثلها مثل حزب السلطة .
هل الحرية تعنى إقصاء الأغلبية الحقيقية وحرمانها من حق التعبير السلمى ، ولو فى جريدة أسبوعية ؟
لقد فرض حزب السلطة ، أو طُلب منه أن يلغى الانتخابات التى يشرف عليها القضاء وأن يحرم القطاعات العريضة من حق الترشيح والمشاركة السياسية ، بل وأن يفرض حرمان الشعب المصرى المسلم من تطبيق شريعته فكراً وسلوكاً عقيدة وعملاً ، وأزرى بالتعليم الجامعى والتعليم العام ، بإخضاعه للمؤسسة الأمنية وحرمانه من الإنفاق اللائق ، وصار الأستاذ أو المعلم فى أسوأ الأحوال المعيشية ، مالم يكن له دخل آخر ، حتى صارت جامعات العدو ضمن التصنيفات الدولية ، وليس بينها جامعة مصرية واحدة !
مصر مستبعدة فى ظل حزب السلطة ، ولا تملك من أمرها شيئا ، ولذا فهى على المستوى الإقليمى والدولى ، لا يؤبه لها أو بها ، لأنها صارت أضعف من أن تقوم بدورها ، اللهم إلا إذا كان لخدمة دولة الهيمنة والتسلط ، وما السلام المزعوم والاستقرار المتوهم إلا حالة من الاستسلام والتراضخ لضعف والوهن.
لن أتحدث عن الواقع الاقتصادى ولا الديون ولا انهيار البورصة المصرية ، ولا الأموال المنهوبة والمهربة ، ولا القروض التى كانت تمنح بالأمر السياسى ، وأشار إليها مؤخراً محافظ البنك المركزى المصرى ، ولا .... ولا .... فالحال لا تسرّ ولا تفرح .
وبعدئذ ، يفجعك مداح وطنى بأن الحزب كان هو المبادر لكل إصلاح سياسى واقتصادى واجتماعى فى السنوات الماضية وهو المتحمل – وحده – لضريبة التمسك بسياسات العدل الاجتماعى ، والتمسك بحقوق المواطن والمرأة والطفل !
هل نعتذر لبريخت حين نتصرف فى مقولته : هنالك شئ فى عالمنا أيها " المزيفون " غلط ؟ أم نقول لهم إن كل عالمكم غلط ؟
إنكم لم تعيشوا بين الجماهير ، ولم تسمعوا لأنينها ، ولم تحترقوا بنيران الفقر والجوع والعرى .. منكم لله .