الكهنة المسلمون على خطا الكهنة المسيحيين
إلى جحر الضب النتن
شبرا بشبر وذراعا بذراع
زهير سالم*
عندما ثارت الشعوب الأوربية على الكنيسة ورجالها كانت تملك الأسباب الحقيقية للثورة والرفض والسخرية : ( اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس ) كان الشعار الأكثر حرارة للثورة الفرنسية . يقول فولتير في نكتته السائرة والذائعة أن أفعى ضخمة عضت قسيسا فماتت الأفعى على الفور ..!!
بالقياس الموازي اليوم لا يستطيع رجل أوربي أن يتفهم ثورةً للربيع العربي يحركها الدين . ويكون وقودها رجال يحملون رايته . فالدين في مخيلة الإنسان الغربي وفي خلفيته الثقافية التاريخية : معدن الاستبداد والفساد والجهل والخرافة والتعصب والقسوة والتطرف والجمود وهذا الذي يحاول أن يكرسه قساوسة الإسلام في كل أقطاره اليوم كما كرسه قساوسة النصارى في ضمير أتباعهم من قبل.
لا أدري لماذا أصبحنا نتذكر كل هذا عندما نرى وجوه الكثير بل الأكثر من المطارنة والقساوسة المسلمين على مقاعد سادتهم من الحكام القتلة والمجرمين . ظننا لوهلة عابرة أن مفتن سورية نسيج وحده في طراز الكهنة المسيحيين في الزي الإسلامي . ثم ما أن امتدت أيام الربيع العربي حتى كدنا لا نستثني من هؤلاء إلا القليل . تابعوا معي بعد أن مللنا الحديث عما يصدر عن مفتي سورية هذه الجرأة على الدماء المعصومة ممن سمي بمفتي مصر أو الفتاوى التبريرية التي تصدر عن كهنة المسلمين في أكثر البلاد وكل واحد منهم يروج لقاعدة : ( ما أفلح مفتن قال لولي أمره لِمَ ؟! ) سبعين سنة قمرية عمري لم أسمع صاحب فتوى على مقعده يفتي بغير ما يريد صاحب السلطان ، على كثرة الفتن ، واتساع الخرق ، وضياع الكثير من معالم الحق . حتى لو دخل صاحب السلطان جحر ضب نتن لاتبعه صاحب القلنسوة البيضاء إليه .
ثورة الأوربيين على رجال الكنيسة أصبحت بعد قليل من الزمان ثورة على الدين نفسه . فنبذ القوم الدين ونبذوا الإيمان ونبذوا القيم وأخرجوا الله من حياتهم وكان فساد رجال الدين واستبدادهم على مدى قرون ، والذي ما زلنا نطالع فصولا منهم حتى اليوم في عدوان جنسي مقيت لمطارنة وبطاركة وقسس وشمامسة ، هو المدخل الطبيعي لكل ما حصدت الشعوب المسيحية من جحود وكفران ...
على العكس من ذلك فما خلفه فينا التاريخ الإسلامي من نماذج حيّة وضاءة لعلماء الإسلام الحق على مدى التاريخ ، ولا أستثني عهدا أو حقبة ؛ جعل هؤلاء العلماء الضمير الشعبي للإنسان ، إنسان العامة رجلا أو امرأة ، مسلما كان أو غير مسلم ؛ كان الناس كلما وقع عليهم ظلم ، أو حزبهم أمر ، أو اشتدت عليهم وطأة . في كل وقعة يرفعون رؤوسهم يبحثون عن عالم مسلم راشد يكون مجنا لهم ، مدافعا عنهم ، مجاهدا عن حقوقهم ، معرضا نفسه للموت في سبيل دفع الضر عنهم بغض النظر عن هوية هؤلاء الناس أو انتماءاتهم حتى الدينية منها ...
عنّ لأحد سلاطين بني عثمان يوما أن ينهي ظاهرة الثنائية الدينية في دولة الخلافة ويخير المخالفين للمسلمين في دينهم بين الإسلام والرحيل ...
وأصدر فرمانه بذلك ، في عصر لم يكن فيه للقانون الدولي شرعة ولا لحقوق الإنسان منظومة أو منظمة ، ولكن من ترون غير عالم الإسلام ورجله وحامي حقوق الخلق كل الخلق يتصدى لذلك الظلم الذي كاد أن يقع فيه السلطان ؟! فيسارع المفتي الذي عينه السلطان بأمر منه يقول له : يا صاحب السلطان ليس لك . وهؤلاء موجودون بيننا ليس بإرداة منك بل بإرادة من ( له الخلق والأمر ) والذي إذا حكم ( لا معقب لحكمه ) . فألغيت فورا إرادة السلطان وعلت كلمات الله ..
هذه النماذج التاريخية لم تكن المحدودة أو المعدودة في تاريخنا الإسلامي بل هي التي ميزت هذا التاريخ ، وكرست الفرق بين رجال ملة قرروا الاستسلام لقيصر ثم حولوا هذا الاستسلام إلى نوع من التحالف معه ، ثم تطور هذا التحالف إلى مستوى منافسته في الفساد والاستبداد والظلم والتمكن من ظهور الناس ، وبين رجال ملة رفعوا راية الحق وجعلوا من قواعده الانحياز إلى الضعيف في مواجهة القوي ، والوقوف في وجه الغني لمصلحة الفقير ...
في يوم موقعة (عين جالوت ) الشهيرة ، والتي غيرت مسيرة التاريخ ، وصدت طوفان التتار عن العالم كل العالم ، أراد أصحاب السلطان من فرسان المماليك أن يفرضوا ضريبة جديدة على العامة يعني ( عليّ وعليك ) وتصدى لهم الشيخ الشامي اللاجئ إليهم ( العز بن عبد السلام ) لم يخرج على المنبر ليسوق إرادة السلطان أو ( ولي الأمر ) كما يسميه بعض الكهنة اليوم ، فما أسهل الأمر تحت عنوان ( الجهاد ) و ( المجهود الحربي ) أو ( ياغيرة الدين ) أو ( الدفاع عن الأوطان ) كان يمكن لسلطان العلماء أن يمرر الفتوى وهو اللاجئ إلى مصر كما يمررها اليوم التيوس المستعارة في الكثير من بلاد الإسلام ...
الشيخ قال لصاحب السلطان لن أقر دفع (الضريبة ) على العامة ، حتى أراجع قيود خزينة الدولة ، دولة المسلمين ، وأعرف مدخلها ومخرجها ، وأموالها المنقولة وغير المنقولة ثم نضع موازنة معركتنا على أساس من تقوى الله .
وكانت نتيجة المراجعة اكتشاف العالم أن رقاب الملوك مملوكة للعامة المساكين فقال نبيع من مملوكاتنا ما لا حاجة لنا فيه قبل الوصول إلى اقتسام لقمة الفقير . وباع سلطان العلماء الملوك ..
بنماذج مثل هذا أصبح العالم العامل المسلم ضمير الأمة ، وموضع أملها ومحط نظرها . وبكل ما نراه من فتاوى التسويغ والتبرير والتحليل والتحريم أيضا يفتتن الكثير من المسلمين عن دينهم اليوم نفورا وتملصا واشمئزازا. وبين العالم المبشر الغائب والكاهن المنفر الحاضر تنزلق اليوم أمة الإسلام بعيدا عن الإسلام ؛ الدين والعقيدة والشريعة ؛ تحت عباءة النفور من هؤلاء الكهنة المزورين . فلا هم على دين عيسى ولا هم على شرعة أحمد . وحين نستمع إليهم يبيعون فتواهم لمن يريد على النحو الذي يريد لا نملك إلا أن نقول : قاتلهم الله أنى يؤفكون ..
لقد عجز الغرب بكل تمويهه وزخرفه عن تسويق ماديته الجافة والمشوهة بين ظهراني المسلمين ، ولكنه اليوم وبعد طول جهد يجد مدخله الصحيح لنقض عرى الإسلام وتحطيم وحدة المسلمين . يجد ضالته في قوم جعلوا أنفسهم فتنة للذين آمنوا فنفّروا المسلم من دينه وهو يراهم ( يفسدون في الأرض ولا يصلحون ) .
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية