المونديال والعالم العربي

عابدة المؤيد العظم

عابدة المؤيد العظم

لم أعد أدري هل أنا جاهلة فاقدة للذوق، أم أن الناس قد فقدوا عقولهم!

فأنا أعيش في زمن، تفرق فيه الأرحام، واستنفذت أوقاتهم في متابعة وسائل التواصل، وشغلتهم الدراسة، وقضى عليهم الدوام، واستهلكهم العمل... وما عاد شيء يجمع شتاتهم ويلم شملهم.

وذات يوم رأيت الشوارع فارغة، وما أجملها وهي هكذا! والناس في بيوتها معتكفة، تجمعها غرفة واحدة، وقضية آسرة، عيونها على التلفزيون، وإذا بها تراقب باهتمام بالغ كرة تتدحرج هنا وهناك! ويجلسون ساعتين على هذا الحال، وعليهم مظاهر التفاعل والاهتمام!؟

وحين كنت صغيرة جداً، أردت مرة أن أبين مدى ضيق إحدى السيدات، فقلت لهم تخيلوا أنها لم تجد ما يسليها فجلست تشاهد مباراة لكرة القدم!... وإذا بي أكتشف أن الكرة شيء فاخر، ومراقبتها حدث عظيم، فكانت القاضية!

ولم أكن مقتنعة بمراقبة "كرة القدم" والناس في خير وعافية، فكيف أتقبل هذا في زمن المحنة؟! وأعجب العجب أن المنكوبين أحرص الناس عليها، وهذه الأخبار التي جمعتها:

1- أكثر سكان غزة يحجزون مقاعدهم في المقاهي والساحات العامة التي وضعت بها شاشات، ويصرون على متابعة المباريات التي يعشقونها رغم الخطر!؟

2- صرخات ترتفع في سوريا، ليست للفزع وإنا للفرح بانتصارات الفريق الذي يشجعونه، والمباريات جمعت الشباب والأطفال دون خوف من استهداف النظام!؟ و أخرجهم من صرخات الدمار!

وبدا واضحاً أن المؤيدين والمعارضين مندمجون مع المونديال رغم الحرب والموت والجراح. وتكاد تغيب التعليقات السياسية سوى على النتائج والأداء!؟

3- وقرأت خبراً بث التفاؤل في قلبي "مصر تشعر بالحسرة.".. وتبين أن حسرتهم على انفراد الجزائر!؟ ولأنهم لم يتأهلوا مثلها!؟ ثم جلس بعض المصريين يتابعون المباريات بالمقاهي وفوقهم لافتة "ممنوع الكلام بالسياسة"!؟

وظهرت مشكلة كبيرة جداً: ولا أدري إن كنتم سوف تحتملونها، لقد تراجعت الكرة العربية بتأهل الجزائر فقط لكأس العالم!

و كانت الأمل الأخير للعرب وخرج آلاف الجزائريين إلى الشوارع والساحات في مختلف المدن الجزائرية، ولكنها خرجت من المونديال!؟

وأصبحت القضية كيف نُقيّم مردود المنتخبات العربية؟ وأي عوامل ساهمت في ترسيخ فشلها ؟ وماهي الحلول والبرامج التي ينبغي انتهاجها بهدف تجاوز أزمة النتائج السلبية التي تطارد الكرة العربية؟

وإني حين عجبت من اهتمام الناس بكأس العالم، عللوا فقالوا:

1- نراها لننسى همومنا، فذكروني بمن يشرب الخمر ليغفى.

2- وقالوا: حدث عالمي كيف لا نشارك به؟! وكم هو مؤلم حين تكون متفرجاً لا تملك شيئاً.

3- وقالوا: نتابعها للتسلية ولننسى، وأنى لأمة -في حرب إبادة- أن تنتصر وهي تبحث عن اللهو والمتعة؟!

سوريا وغزة وغيرهم... كانوا يقولون: "نُقتل والعالم يتفرج"، وفي الحقيقة العالم لا يراكم، ويتابع قنوات أخرى، ويحرص على مراقبة كرة تطيش هنا وهناك فتحدث ضجة، فالمونديال أكثر جذباً وأهمية من القتلى والجرحىوهاأنتم هؤلاء وقعتم تحت سلطانه ونسيتم جراحكم!

فأي سحر تملكه الكرة؟ حتى جعلت الناس يذهلون عن مصيبتهم؟! أعطوني الكرة لأفحصها هل وضعوا فيها أفيوناً أو مخدراً؟

 

"المونديال" أصبح تجارة عالمية وتصرف البلد المضيفة الأموال الباهظة على كرة القدم فى ظل احتياج المواطنين لأبسط الخدمات كالسكن و التعليم، والذين يعشقون كرة القدم في البرازيل هم من أدرك هذا !

فانتشرت المظاهرات فى أنحاء البلاد فالشعب لا يريد كأس العالم ولكنه يريد الأكل والشرب و السكن و التعليم ويرفض البذخ والنفقات الكبيرة، لقد خافوا على أموالهم من الهدر (وقد كلف الحدث 14 مليار)، فثاروا... والمونديال يقام على أرضهم وعائده السياحي لهم!؟ وتفطنوا لأن إنشاء الملاعب باهظ التكلفة، وأنه أدى إلى ارتفاع أسعار العقارات واضطرت الأسر المنخفضة الدخل لترك منازلها. وهذه آثار اللهو العالمي على الفقراء والمعوزين.

هذه خسائرنا وهي نفسها مكاسبهم فانظروا وتأملوا:

تخيلوا أن تذكرة دخول مباراة الافتتاح بلغ سعرها 10 آلاف، وليلة واحدة في البرازيل تكبد الفرد 682 دولار.

وفي سوريا يدفع الشخص الواحد ما بين 300 الى 500 ليرة يوميا. لحضور مباراة واحدة في المقهى، فإذا كانت في بيته تكلف 400 دولار أمريكي للمونديال.

في لبنان وبعد التخفيض 20% أصبح الاشتراك ب300 دولار

البرازيل أنفقت أكثر من 850 مليون دولار لتوفير الأمن ونشرت 57 ألف جندي و100 ألف شرطي لحراسة الفنادق والملاعب والمطاراتوستوفر البحرية 13 ألف وأربع فرقاطات وسفينة حربية و21 زورق دورية. وسترسل القوات الجوية 24 طائرة من طراز سوبر توكانو وثلاث طائرات رادار و 11 مروحية!؟ وكأننا في حرب!؟

وخسرت الأرجنتين ملايين الدولارات بسبب انصراف موظفيها للمباريات وكلفةالمشاهدة تفوق (74.8 مليون دولار) لكل مباراة. وتكلفة ساعات العمل المهدرة في كلشركة تبلغ في المتوسط (5.31 دولار) عن كل ساعة.

و قدمت قطر لأنها ستحتوي المونديال 2022 ملفاً اقتصادياً ورياضياً وإنسانياً إلى الاتحاد بتكلفة إجمالية تصل إلى 60 مليار دولار. هذه بعض الأمثلة

كرة القدم لم تعد لعبة! لقد أصبحت تجارة كبيرة تربح من الإعلانات وتربح من البث التلفيزيوني... مبالغ طائلة، وتربح شركة التلفاز آي تي في" التي تتقاسم أرباحها مع شبكة "بي بي سي" حوالي نصف مليون دولار لكل 30 ثانية إعلانية وتبلغ قيمة الجوائز المالية المقدمة للمنتخبات المشاركة في مونديال البرازيل بـ 146 مليون دولار كما سيحصل الفائز على لقب المونديال بجائزة مالية تُقدربـ 35 مليون دولار

ونقلها إلى اللغة العربية كلّف الجزيرة الرياضية1.2 مليار دولار ثمناً لحقوق النقل وهو يعادل ثلاثة أضعاف ما دفعته قناة فرنسية لقاء الحصول على الحقوق نفسها!!؟؟ وهنا القضية التي أرجو أن ينتبه لها الناس. فهل المشاهد العربي أكثر نهماً من الفرنسي (مع أن فريقاً عربياً واحداً وصل إلى النهائيات)؟ أم أن المال العربي حلال للنهب والسرقة، أم أن العرب أغبياء حين ينفقون مالهم بلا حساب؟!

وصحيح أن سوق المشاهدة الرياضية كبير جداً في العالم العربي إلا أن الخبراء قالوا أنه لا يمكن أن يصل إلى تعويض هذه المبالغ الباهظة، فعلام؟

وبدأ الاحتكار عام 1998 عبر قنوات آي آر تي وعتبت عليهم من يومها لأنهم أضروا بالفقراء، وتطور حتى بات أمراً مبالغاً فيه، وبلغ أضعاف ما تدفعه الدول الأجنبية مما اضطر المشاهد العربي لدفع مبالغ طائلة لقد دخلت المباريات الرياضية عصر التجارة والاستثمار من أوسع أبوابه.

وطمع مالكو الحقوق بالحصول على مبالغ مضاعفة من الدول العربية وقنواتها، لقاء الحقوق نفسها التي تبيعها في أوروبا وبعض الدول الأفريقية والأميركية الجنوبية بأسعار أقل!؟ فلماذا؟!

ولقد كنت أدرك وأقدر أن الرياضة متنفس للشعوب الضعيفة العاجزة، وأتفهم أن المونديال أكبر حفل عرفه البشر وحدث عالمي كبير، والرياضة تجمعهم، وقد أحصى تويتر تبادل 12.2 مليون تغريدة بين رواد الموقع من 150 بلدا بشأن المبارايات

ولكنه أيضا استنفار عالمي لأجل كرة، ومساهمة عربية إسلامية في تجارة عالمية جديدة تذهب بأموالنا إلى جيوب المنتفعين، والخاسر هو الشعوب، تخسر بالاستعمار وتخسر بالديكتاتوريات وتخسر بالثورات... والغريب أن تحرص على خسارة المزيد بإرادتها!؟

وإني أحقد على هذه الرياضة، ليس لصناعة المشيخة فهي حلال، وليس فقط من أجل الثورات، وإنما من أجل الإنسانية، ومن أجل الحفاظ على بقائنا وكياننا:

1- لأنها قضت على الرياضات الشعبية مثل سباقات الخيل

2- لأنها اللعبة التى سيطرت على النفوس وخلبت الألباب، وشغلت الناس فأصبحتكالمخدر! وهي أصلاً تعد جزءا من الثقافة الغربية

3- لأنها تذهب بمبلغ محترم من ميزانيات الدول العربية، فيعدون لها أربع سنوات كاملة من أجل ال32 مباراة هذه، وفي كل مرة يخسر العرب، فعلام يشاركون؟! وإذا تأهلوا جنوا وكأنهم استعادوا القدس! وهذه الصين لم تشارك ولم تتأثر تجارتها أو شعبها. إني سعيدة لأن العرب خسروا فيها، وكلي أمل أن يتوقفوا أيضاً عن متابعتها.

4- لأنها غير نزيهة، وفيها منافسات غير شريفة وإيذاء للاعبين جسديا (حين كسروا فقرة في ظهر أبرز لاعب ) ومعنويا حين أساؤوا قديماً للاعب مبرز آخر واتهموه بعرضه. وأحياناً يتحيز الحكام.

5- لأنها غيبت الفقراء وأصبحت متعة نخبوية ولعبة من يملكون المال، من البارونات ومافيات الرياضة العالمية وأصبحت مصدراً جديداً للربح الفاحش، وسبباً وجيهاً لخصخصتها وتسليع كل ما يتعلق بها.

6- لأنها تعتمد على الاحتكارات المالية مثل بيع حقوق بثها إلى قنوات مشفرة، أو التشويش المتعمد على قنوات بث المباريات.

وتحولت من حدث رياضي كبير ممتع وشيق إلى استثمار مالي مربح تلقفته الشركات الكبرى وندفع نحن ثمنه! وبدأت رسوم الاشتراك بالارتفاع عاماً بعد عام، وبرز المال عاملاً ترجيحياً في تحديد البلد المستضيف، ودخلت شركات المراهنات والسمسرة شريكاً رسمياً

7- لأنها إهدار لقيمة الإنسان فبرشلونة تبيع ميسي إلى ريال مدريد مقابل 250 مليون يورو، بل يفتحون مزاداً عليه وعمليات البيع والشراء أصبحت تخضع لمفهوم السوق والعرض والطلب، مثل تجارة العبيد!؟ إذا كان اللاعب ماهراً ولامعاً يتنافس عليه المقامرون

8- ولا تنسوا الخسائر المعنوية: فالناس لا يتسلون كما كنت أظن، وإنما ينفعلون ويحزنون ورأيت بكاءهم وعويلهم بالأخبار بسبب خسارة فريق بلدهم أو الفريق المفضل لديهم!؟

لقد باتت "كرة القدم" فى حياة الشعوب بحجم الكرة الأرضية، وتحولت من مجرد لعبة إلى ظاهرة سياسية واجتماعية عالمية، وأهم شيء -وهنا والمشكلة الكبرى والعظيمة- "انتقال أموالنا لأيدي أعدائنا"... فما لنا ولها؟!

دعوها فقد أصبحت منتة.