الفساد والبطالة

جمال الموساوي

[email protected]

عندما انتفض الشباب خلال الحِراك الذي عرفته المنطقة العربية في أواخر عام 2010، كانت القضية المركزية لمطالبهم هي إسقاط الفساد. وعندما نربط بين انتفاضة هذه الفئة تحديداً من الساكنة وبين إسقاط الفساد، فإننا نربط بالضرورة بين الفساد وبين حرمان هؤلاء من التمتُّع بمجموعة من الحقوق من بينها الحقّ في التعليم وفي الصحة وفي العمل.

النمو الاقتصادي والبطالة

قبل التفصيل في تأثير الفساد على ارتفاع مُعدلات البطالة من المهم التأكيد أن لهذا الارتفاع أسباباً أخرى مُرتبطة بالنظام الاقتصادي المُتّبع، وبالموارد التي يتمتّع بها كل بلد، وبمستوى التعليم والتكوين، وكذلك بحجم التقدّم أو التخلّف الذي يعرفه هذا البلد أو ذاك، بالإضافة إلى العوامل الخارجية التي تتحكّم فيها وضعية الاقتصاد العالمي، ونوعية العلاقات الاقتصادية الدولية التي قد تكون بدورها تحت رحمة العلاقات السياسية وخاضعة لشدها وجذبها، بما يتضمنه ذلك من تدفق للاستثمارات ورؤوس الأموال وحجم المساعدات الاقتصادية

وقد لاحظ البنك الدولي في تقرير له سنة 2007(1)، السنة التي تلت فترةً من النمو القوي سجلته اقتصادات المنطقة، أن معدل البطالة تراجع بين 2000 و2005 من 14.3 إلى 10.8 في المئة، نتيجة ارتفاع فرص العمل التي خلقتها العوامل المُحفّزة، خاصة تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي بلغت سنة 2006 نحو 24 بليون دولار، وارتفاع مساهمة الاستثمار المحلي والقطاع الخاص، بالإضافة إلى أثر بعض الاختيارات في السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي ارتكزت على تشجيع حاملي المشاريع على تعزيز النسيج الاقتصادي الوطني بخلق مقاولات، ومن ثَمّ المساهمة في تخفيف حِدّة البطالة.

إلا أن الأزمة المالية والاقتصادية التي عرفها العالم خلال السنوات التالية، ألقت بثقلها على هذا المنحى الإيجابي، وخيّبت توقعات هذه المؤسسة الدولية بأن تكون البيئة الخارجية مُواتية لجني مكاسب أكثر خلال الفترة من 2007 إلى 2009 (2)، لكنها أيّدت بالمقابل توقعاتها بتأثير التوترات السياسية على ثقة المستثمرين الأجانب والمحليين، اعتباراً للتطوّرات الخطيرة التي عرفتها المنطقة ولا تزال مُستمرة إلى يومنا الراهن.

الفساد والاستثمار والبطالة

لقد أثّرت التطوّرات المحلية والخارجية بشكل أكيد على تدهور سوق العمل، أما الفساد، فهو فقط أحد العوامل الأساسية في ارتفاع البطالة، بالنظر إلى ما يؤدي إليه من اختلالات يتم من خلالها حرمان فئات واسعة من الاستفادة من الفرص التي يمكن أن يتيحها الاقتصاد الوطني. وإذا أخذنا في الاعتبار أن البلدان التي تكون في حالة عدم استقرار سياسي أو في مرحلة انتقالية غالباً ما يكون فيها الفساد مُنتشراً على نطاق واسع، والبنيات الاقتصادية في وضعية هشّة مدعومة بعدم وضوح في الرؤية على جميع المستويات، وغياب سياسات واستراتيجيات للإقلاع الاقتصادي، فإننا سنجد أنفسنا أمام نسب بطالة مُرتفعة جداً بالمقارنة مع بلدان أقلّ فساداً وتعيش أوضاعاً أفضل.

في هذا السياق، وبتأمل نتائج مؤشر إدراك الفساد الذي تصدره سنوياً منظمة الشفافية الدولية، فإن الدول العربية التي تتذيل الترتيب المتعلّق بسنة 2014 هي دول تعيش مرحلة انتقالية مطبوعة بعدم استقرار سياسي وبغياب المؤسسات أو بضعفها وعدم قدرتها على ضبط الأوضاع ورسم خطط عمل للمستقبل. فقد احتلت دول سوريا واليمن وليبيا والعراق والسودان على التوالي المراتب 159 و161 و166 و170 و173 عالمياً من أصل 175 دولة مُصنَّفة.

ويُقوّض الفساد الموجود في العالم العربي، بشكل عام، الأسس التي ينهض عليها التشغيل، بدءاً من الاستثمارات وصولاً إلى نسب النمو السنوية. وتشير تقديراتٌ للبنك الدولي إلى أن الفساد يُضيِّع على الناتج العالمي الإجمالي 5 في المئة في المعدل مع تفاوت بين الدول. فهو، إضافة إلى انعكاساته على مُكوّنات أخرى للناتج الوطني الإجمالي، يؤثر على حجم الاستثمارات الوطنية والأجنبية، وكذلك على فعاليتها ونجاعتها. معنى ذلك أن الفساد يُكبّد المستثمرين تكاليف إضافية لا تسمح بتوسيع حجم فرص العمل، سواء تعلّق الأمر باستثمارات جديدة تقوم بها مقاولات القطاع الخاص أم بالاستثمارات التي تُعلن الدولة بشأنها عن طلبات عروض لإنجاز مشاريع البنية التحتية أو لتفويض تدبير بعض الخدمات العمومية. وحسب أغلب الدراسات الاقتصادية، ثمّة علاقة مؤكدة بين حجم الاستثمارات وبين معدلات النمو الاقتصادي، ومن ثَمّ لهذه العلاقة انعكاسات أيضاً على مستوى البطالة الذي يرتفع، أو يتراجع، بشكل تلقائي تقريباً، وهذا ما يمكن التأكد منه من خلال المقارنة بين فترة ما قبل الأزمة التي هَبّتْ على العالم منذ سنة 2007 والفترة التي تلتها، بغض النظر عن الفساد الذي يأتي ليعمّق الإشكالية أكثر.

لقد أدى تراجع مشروعات الاستثمار الأجنبي المباشر، على سبيل المثال، في الدول العربية من 1338 مشروعاً سنة 2008، وهي السنة التي عرفت استفحال الأزمة العالمية، إلى 870 مشروعاً فقط سنة 2013، إلى تراجع كبير في فرص العمل التي تقلّصت من 327207 إلى 92976، أي إلى رقم قريب من الرقم المُسجَّل قبل 10 سنوات، حيث بلغ عدد فرص العمل 73901 سنة 2003 (3).

وبالعودة إلى ترتيب مؤشر إدراك الفساد، لم تحظَ الدول الخمس التي تحتل مراتب مُتأخرة في هذا المؤشر إلا بنسبة %7.13 من مجموع المشاريع التي تَمّ تنفيذها في العالم العربي في إطار الاستثمارات الأجنبية في الفترة من سنة 2003 إلى سنة 2013، وهذا بالإضافة إلى كونها دولاً تعرف نسب بطالة مُرتفعة (بين%14.6 و%19.2 سنة 2013(4) مع توقعات بالارتفاع على الأغلب في السنوات القادمة)، حسب تقرير المنظمة الدولية للعمل، بالمقارنة مع الدول العربية الأخرى المُتقدّمة في الترتيب، باستثناء موريتانيا وفي غياب المعطيات المُتعلّقة بسوريه(5).

إن الفساد هو نقيض الشفافية وتوفير المعلومات، وهو عامل هدم للبنيان المؤسساتي للدول، ولقواعد المنافسة الشريفة ولقائمة القيم والأخلاقيات اللازمة لضمان نجاعة وفعالية المشاريع، وكل ذلك يؤدي في نهاية المطاف إلى ارتجاجٍ في ثقة المستثمرين وإلى هروبهم بحثاً عن أماكن أقلّ خطراً على أموالهم. وفي هذا تكاد تكون جميع البلدان العربية معنية بهذا الإشكال.

إن التركيز على تأثير الفساد على الاستثمارات بالنظر إلى أهميتها في تنشيط الدورة الاقتصادية وعلاقتها بخلق فرص الشغل، لا يلغي وجود تأثيرٍ لهذه الظاهرة على مجالات أخرى. فالفساد يساهم في تركيز الثروة في أيدي فئات قليلة من المتنفذين، في ما يُعرف في الأدبيات بالجمع بين الثروة والسلطة أو النفوذ، وهو ما يفتح المجال واسعاً للاحتكار، وللتحكّم في الاقتصاد لخدمة المصالح الضيقة بما في ذلك التحكّم في التوظيفات وفي خلق فرص الشغل، من خلال الزبونية والمحسوبية وغيرهما من الممارسات الفاسدة، وذلك سعياً إلى تأمين الأرباح مما يُعرّض فئات كبيرة من المجتمع للبطالة والإقصاء والهشاشة، مع ما يتبع ذلك من اتساع دائرة الفقر الذي قد يُهدّد استقرار المجتمع ويفتح المجال للاضطرابات التي قد تتحوّل إلى مآسٍ. 

* مسؤول وحدة التنسيق والتعاون الوطني بالهيئة المركزية للوقاية من الرشوة

               

هوامش

-1 تقرير حول «آخر التطوّرات والآفاق المستقبلية الاقتصادية، منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لعام 2007: خلق فرص العمل في حقبة من معدلات النمو المرتفعة».

-2 وهو ما أكَّد عليه البنك في تقرير مماثل خاص بعام 2009.

-3 ينظر نشرة «ضمان الاستثمار» للمؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات، عدد إبريل-يونيو 2014، ص9.

-4 نفسه، ص 89 

-5 ينظر تقرير المنظمة الدولية للعمل «اتجاهات الاستخدام العالمية والتوقعات الاجتماعية 2015».