تفعيل الصراع
محمد جلال القصاص
الحضارة الإسلامية تقوم على جمع الناس والتأليف بينهم، تنادي في الجميع:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران : 103] {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء : 92]، وبنيت الحياة كلها على الاجتماع، فالبيت المسلم واسع فسيح يسع ثلاثة أجيالٍ (جد، وابن، وحفيد)، ينقل الحفيد خبرات الجد فيتعلم بالممارسة دروس الحياة ممن عركها، والمسجد جامع يجمع أهل الحي كل صلاة، ومن لا يصلي يُتفقد أو يُعذَّر، والزكاة والصدقة تعاون وكفالة للمحتاج، وبر الوالدين، ورحمة الكبير للصغير، وتوقير الصغير للكبير، وهكذا...
ولذا: حيث تحكم الشريعة تسود الراحة والسكينة والهدوء، وهو ملحظ ثابت في المجتمعات الإسلامية، فقد كان الشغب الذي تحكيه كتب التاريخ في الحكم.. بين بعض الساسة فقط، ولم يتطرق للمجتمع. بل قد حمت الشريعة الإسلامية في منظومتها الفرد من الدولة، فليس لها عليه سبيل ما لم يرتكب جرمًا يخل بالأمن ويتعذر على أهل الحل والعقد في مجتمعه الصغير التعاطي معه، وقد يموت الفرد ولا يرى السلطة الحاكمة ولا تراه، ذلك أن اجتماع المجتمع وتآلفه جعل له كفالة ذاتية، وإدارة ذاتية بعيدًا عن الدولة.
بخلاف الحضارة الغربية فهي تقوم على الصراع.. تقوم على الفردية..أن يبقى كل واحدٍ منفصلًا عن غيره يصارع من أجل ذاته. هذه عقيدة الغرب تنعكس على جميع تفاصيل الحياة التي يسيطر عليها الغرب، فالسكن في شيء صغير لا يسع لأكثر من نصف جيل (شقة)، وبر الوالدين معدوم أو يكاد، والعلاقة في الأسرة علاقة صراعية (تنافسية) بين الزوج وأم زوجته وبين الزوج وأم زوجها، والحكومة تسيطر على كل شيء والناس يقاومون السلطة ويعارضونها، والمجتمع أحزاب وتكتلات،... ولذا حيث توجد الحضارة الغربية يوجد الصراع والتنافس والضوضاء... في جميع المستويات، على مستوى الدولة (السلطة والمعارضة)، وعلى مستوى المجتمع (الأسرة، والشارع....).... حتى التكتلات الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية التي يشيدونها يكون الهدف منها القدرة على الدخول في صراعٍ مع تكتلاتٍ أخرى، فالتكتلات وسيلة للصراع أيضًا، وتكون فيما بينها متصارعة .. متنافسة، كما هو الحال في الكتلة الغربية، والمجتماعات الغربية.
وحتى تتضح لك الأمور أكثر حاول أن تنظر من أكثر من زاوية، (الشارع، الأسرة، السلطة والشعب، الدولة وجيرانها، الدول القوية والدول الضعيفة [الشمال والجنوب]).. صراع لا ينقطع.. ضوضاء.. فردية موحشة... فالفرد بعيدًا عن الشريعة على الحال التي وصف الله ضيق الصدر.. مشتت البال يتجرع الهم لينسى الهم"{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام : 125] {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف : 28]
والغرب إن لم يجد صراعًا صنعه، فهو لا يعرف غير إدارة منظومة صراعية، ويتكئ في إنشاء الصراع وتفعيلة على ثلاثةٍ:
-رؤية كلية، تتشكل من ثوابت لا يتعداها كل منتسب للحضارة الغربية وخاصة ساستهم.
- أدوات لتنفيذ الرؤية، تمتاز بالكثرة والتنوع، والتحديث المستمر.
- خبرة في إدارة الإمكانات المتاحة لتحقيق الرؤية.
وحتى يتضح المقال أضرب الأمثال، وأكتفي بمثالٍ لقضية عامة، وقضية خاصة:
القضية العامة: جني ثمار الحرب الباردة: