انتهى المونديال.. فهل تغير الحال؟
عبده حقي
ليس من الغرابة في شيء أن يطيش عقل البشرية مع هذه الكرة التي ليست في النهاية سوى جلدة رخيصة نراها الآن بعد بهرجة المونديال معزولة ، ملقاة في الركن مع سقط المتاع مثل شيء تافه لا تستحق حتى ركلها مع الجدار، تلك الكرة التي كانت بالأمس الركلة الواحدة على مؤخرتها تساوي الملايين من الدولارات ...
هذه الكرة التي سلبت عقول كل الفئات الإجتماعية البطالة منها والعاملة .. الثرية والفقيرة .. الجد والإبن والحفيد هي في رأيي ليست سوى تنفيسا سيكوـ إجتماعي عن صراع البشرية الأزلي على كوكب الكرة الأرضية .. فكل تلك الركلات العنيفة والطائشة والهتافات والأناشيد القومية والرموزالقبلية الرياضية .. كل تلك التعبئة السياسية والإجتماعية ليست سوى وجها آخر للنزوع العدواني الأسطوري بين الإنسان وأخيه الإنسان ، وليست أيضا في النهاية سوى صورة بهلوانية لذلك الصراع البيولوجي الوجودي الذي إكتشفه داروين حين كان شاردا في غابات الأمازون البرازيلية باحثا عن مبررات علمية من أجل إثبات نظريته حول صراع "البقاء للأقوى" بين الكائنات الحية ...
لذلك هانحن قاعدون مرة أخرى أمام التلفازأوعلى المدرجات نتفرج على حشائش الملاعب كيف أن البشرية إبتدعت لنفسها طريقة ساذجة لتنتقم من بشاعة تراجيدية وجودها على الكرة الأرضية بركلات كرة تشبهها شكلا وتنتقم منها بضربات الجزاء وضربات المقص والنطح والقذف العشوائي وحتى السب لغاية واحدة أولا وخيرا هي تسجيل أهداف الإنتصاروذلك بركن هذه الكرة اللعينة في مثواها الأخيربشباك الخصم ..
في فيلم "وحيدا في العالم" (Cast Away ) من بطولة طوم هاكنس نرى في لحظة من اللحظات حين هزمت البطل الوحدة والعزلة في الجزيرة كيف شكل من كرة رأس إنسان وضعها أمامه وصاريحاورها ويبثها أحزانه وآلام غربته ويستفتيها في أنجع الحلول للخروج من الجزيرة بعد أن تحطمت طائرة الإرساليات التي كان يشتغل فيها في عرض بحرالباسيفيك ...
وكم نحن أيضا اليوم في حاجة إلى جلسات حوار جريئ أوجلسات أسئلة شفوية في جميع البرلمانات العربية الصورية ليس مع رئيس الحكومة وإنما مع رأس كرة القدم .. تكون جلسة لمحاسبتها ويكون سؤالها العريض : من أين لك كل هذه المليارات من خزائن الشعوب المقهورة ؟
ومما لاشك فيه أن تلك الجلدة الرخيصة والبخسة ليست في النهاية سوى الشجرة التي تخفي الغابة .. غابة جشع الرأسمالية المتوحشة وإنتفاخ بطون الشركات الحاضنة للعبة ومكرصفقات إنتقالات اللاعبين وأجورالمدربين الخيالية .. يصعب على كل إمرء مريض بوسواس العقلانية والديموقراطية وتكافؤ الفرص وترشيد النفقات أن يقبل بهذا الحمق الكروي ، وهذه السريالية الرياضية السوداء التي ضربت عقل العالم في الصميم منذ أن مرغت الشركات المحلية ومتعددة الجنسيات نبل ونقاوة كرة القدم والرياضة عموما في عفن المال ومساومات الإستثمارات ، يعزعلينا أن نقبل اليوم بتعنيف شباب عربي قنوع لايطالب أكثرمن راتب شهري متواضع وشغل قاريسهم به في التنمية الإجتماعية والإقتصادية في وطنه في الوقت الذي تهتم فيه أعلى السلطات بالبلدان العربية ب(براهيش) لاتتجاوزأعمار بعضهم العقدين من الزمن لتذرعليهم الملايين بل الملاييرمن أجل شيء واحد وتافه هوقذف تلك الجلدة وركنها في مقبرة الشباك أوإنقاذ شباك فريقهم من إستقرارالكرة بها إلى الأبد مثل وصمة العار.. في الوقت الذي غاب عن سياستها التفكيرفي إرساء دعامات الإستقرارالحقيقي من خلال إرساء آليات الحكامة الجيدة والسلم الإجتماعي المستدام .
في المغرب لايمكن تفسيرهزائم المنتخب الوطني وغيابه عن التظاهرات الإفريقية والعالمية سوى باعتباره سيناريو كروي قد يكون ماكرا ومفذلكا يروم أساسا تحويل إنشغالات الرأي العام بإخفاقات البرامج التنموية الإجتماعية والسياسية في ظل الحكومة الملتحية ، إلى تعويضه بالإهتمام بإخفاقات كرة القدم وجعلها محورثرثراته اليومية في قعوده كما في قيامه وفي غذوه كما في رواحه ..
فمنذ مايناهز عقدا من الزمن ورأس الكرة يفتش عن قائد كروي وطني لن يحقق للشعب المغربي إنجازا تاريخيا أكثرمن رفع الكأس الإفريقية اوحتى العالمية والطواف بها حول الملعب مع فوضى تدافع اللاعبين لحملها بالتناوب .. ثم ما أقسى أن يفتح الناس عيونهم غذاة سهرة التتويج على حقيقة كابوس معدل نمو لن يتجاوز 5∙2 % كما أكدت ذلك قبل شهورالمديرية العامة للتخطيط والظرفية الإقتصادية ..
أما في الجزائروبعد كوميديا الإنتخابات الرئاسية فقد كانت جرعة التنويم المغناطيسي الكروي أكثر نجاعة في تأجيل إنتفاضة الشعب الجزائري في وجه نظام ديكتاتوري شمولي إستبدادي لم يخرج بعد من زمن الحرب الباردة ولم يتخلص من ثوابت مصطنعة لا شرعية لها لاتاريخيا ولا دستوريا .. ثوابت مايزال جدارها الجدارالأوحد القائم في شمال إفريقيا بعد إنهيارجداربرلين ..
لقد تجندت وتعبأت كل أضلع السيستيم السلطوي من أجل جعل الشعب الجزائري يخلق من وهم إجتياز فريقه للدورالأول أقوى أحلامه ومتمنياته القومية وكان من الطبيعي أن تسهرالدولة على إنجاح رهانها السياسي على كرة القدم مادامت هي اللعبة الشائعة ، المسيطرة على عقول الشباب والقادرة على اللف والإلتفاف على أذهانه لنسيان مطالبه وأولوياته وتعطيل قنبلته الموقوتة إلى حين .. لكن ماذا كان سيتغيرفي الأزمة السياسية والإقتصادية والإجتماعية في الجزائرأو غيرها من بلدان العرب حتى لو إفترضنا أن الفريق القومي الجزائري قد أحرزكأس العالم وهزم في النهائي الفريق الألماني ب 10 ل 0 ؟ ثم كيف يمكن للفريق الجزائري أن يحقق أهدافه في كذبة المونديال إذا كانت السياسة التي تقوده وتخطط لرياضته ومستقبلها سياسة يعاني عقلها المدبر من الزهايمر ويتنقل جسدها المقعد على كرسي متحرك ؟
وفي بعض دول الخليج العربي التي مازال أفيون الكرة غريبا عن مجتمعاتها لحسن الحظ فقد يبدو الأمر صادما أكثر حين ترى بنيات تحتية رياضية عملاقة من دون رياضيين محليين وحين ترى بعض نجوم كرة القدم العالميين الذين تخلصت منهم أنديتهم مثل الريال والبارصا وتشيلسي بعد أن تجاوزت سرعة الكرة وتطورتكتيك التداريب قدراتهم البدنية وعطاءاتهم الفنية كيف يقبلون بإنهاء مشوارهم الكروي بما يمكن أن نسميه (قدم بلوس) في الإنضمام إلى أندية خليجية مغمورة وبطولات فاقدة للندية وبمدرجات من دون جمهور..
فلمن إذن يجري ويبلل قمصانهم كل هؤلاء النجوم ولمن أيضا تسجل كل تلك الأهداف في المرمى إذا لم يكن هناك جمهورينتشي بجمالية توقيعها وإذا لم تجلجل هتافات الإلتراس في أرجاء الملعب وتقرع الطبول والصنوج بالأهازيج التراثية وترفع لوحات التيفوات عاليا .. ماجدوى كل ذلك إذا لم يشعرهذا النجم العالمي الميليارديربأن هناك جمهورا يراقبه ويحاسبه إن على إخفاقاته أو إنجازاته . وأخيرا ماجدوى كل هذا الجنون الكروي المصطنع إذا لم تتوج الرياضة بالإحتفالية والفرجة الجماهيرية الشعبية التي تسهم على الأقل في إذكاء الشعوربالإنتماء للوطن .
لقد أثبتت العديد من الدراسات والتقاريرالإقتصادية في بعض البلدان التي نظمت تظاهرات دولية في كرة القدم مثل اليونان وجنوب إفريقيا والبرازيل أخيرا أنه من بين أسباب خرابها الإقتصادي الراهن وتفاقم عجزها المالي وأزماتها الإجتماعية هو إنفاقها المتهورغير المحسوب العواقب على تشييد المنشآت والملاعب العملاقة ومرافقها الصحية والإعلامية واللوجيستيكية من أجل تنظيم تظاهركروية لن يدوم عرسها أكثرمن شهرعلى أكثر تقدير.. ذلك العرس الذي يتحول إلى جنازة لهذه المنشئات التي تصيربعد إختتام التظاهرات إلى ميادين مثل مسارح الأولمب اليونانية المهجورة ، تصفرفيها الرياح وتعدوفي حلباتها الجرذان والقطط والكلاب الضالة وينام على مقاعدها المشردون الذين لامأوى لهم .
وفي ذروة هذا الإنفاق والإسراف والإستثمارالمخاطرفي كرة القدم يحدث أحيانا ما يحدث من فواجع ومصائب تصل إلى حد تفجيرحروب عصابات وعمليات قتل وفتك أنصارهذا الفريق بأنصار الفريق الغريم كما يذهب ضحيتها أيضا بعض رجال الأمن الذين يعجزون عن صد تسونامي جمهورمقرقب هائج وفاقد للوعي ، ولاتقف في غالب الأحوال المناوشات في المدرجات بل تمتد عدوانية عنفها إلى الشوارع والأزقة فيعمد المتربصون والإنتهازيون والحشاشون التتارإلى التدميروالنشل وتعنيف المواطنين الأبرياء وتخريب وسائل النقل العمومي والخاص كيفما كانت نتيجة المباراة ياللعجب مما يعني أن الأمر لا يتعلق بنصرة فريق على فريق وإنما هي فرصة حشودية سانحة للإنتقام من أعداء مفترضين ووهميين يتمثلون في الفقروالبطالة والهشاشة الإجتماعية بشكل عام ، ويبقى المستفيد الأول والأخيرفي هذه الدراما الكروية كمشة من الأذكياء وسماسرة اللعبة الذين يجيدون (تتياك الكارطا) ويسخرون الإعلام وكل وسائل الميديا للرفع من مفعول التخذيرللجماهيروحتى للشعوب بشكل عام .
لست ناقما ولاحاقدا على هذه اللعبة الشعبية الأولى في العالم ، فما حققته كذلك من تعارف بين الشعوب ونهوض قوي بالتربية البدنية وبالإعلام ودعم للمجتمع المدني ليعد إنجازا ماكان ليتحقق لولا تلك (الجلدة) التي ستبقى بالرغم من مقالبها ومكرها وعنفها وفرجتها لعبتي المفضلة أيضا دائما وإلى الأبد.