أفكار خاطئة في ذكرى رابعة
تمر علينا هذه الأيام ذكرى فض اعتصام رابعة، رحم الله شهداء رابعة، ولعن كل من سفك الدم الحرام في هذه البقعة الطاهرة من أرض الوطن.
في هذه الأيام الصعبة ... لا بد من تصحيح بعض الأفكار الخاطئة التي تتعلق بهذا الأمر، لكي لا تتحول الذكرى إلى مجرد مناسبة حزينة نجتر فيها ذكرى شهداء أبرار، دون أن نستخلص العبر التي تحول بيننا وبين تكرار مجازر أخرى يراق فيها الدم بلا ثمن، أو يضيع معها القصاص، أو تفرق الصف الثوري، وتقطع اللحمة الوطنية.
الفكرة الخاطئة الأولى:
وقع فيها غالبية المتحدثين في الموضوع طوال عامين، وهو تعبير (مجزرة رابعة) أو (مجزرتي رابعة والنهضة)، والحقيقة أن رابعة مجموعة مجازر، والبعض يصور المشكلة في عدد الذين سقطوا في يوم بدء المجازر (يوم 14 أغسطس)، مع أن هناك مجازر قد سقط فيها المئات ولم توضع تحت مجهر الإحصاء، قبل المجزرة (كالحرس الجمهوري والمنصة)، وفي يوم الرابع عشر من أغسطس، مثل مجزرة ميدان مصطفى محمود، وقد سقط فيها عشرات الشهداء، وبعد يوم المجزرة ... وهي مجازر تكاد تصعب على الحصر.
أستاذنا الدكتور سيف عبد الفتاح تنبه لذلك، فتراه يقول "رابعة وأخواتها" !
الحقيقة المرة أن رابعة مجموعة مجازر لا مجزرة واحدة، وقد امتدت هذه المجازر بلا انقطاع لمدة عام كامل تقريبا، ويكفي أن تعرف أن عدد الشهداء في يوم الجمعة (16 أغسطس 2013) يتجاوز خمسمائة شهيد، سقط غالبيتهم في ميدان رمسيس، وأن عدد من سقطوا في المحافظات بالمئات، فمدينة مثل الإسكندرية سقط فيها في يوم واحد في شارع واحد قرابة ثلاثمائة شهيد.
رابعة لم تكن المجزرة الوحيدة إذاً، وإن كانت المجزرة الكبرى، ومن الإنصاف عدم إغفال سائر المجازر.
الفكرة الخاطئة الثانية:
تتعلق بتوصيف المجزرة، فالبعض يصنفها كحدث سياسي يمثل ذروة خلاف بين حكومة وفصيل ما، أو كصراع على السلطة بين طرفين كلاهما يطمع في الكرسي، أو بين قوتين فاشيتين لا أمان لهما.
والحقيقة أن مجازر رابعة هي الحد الفاصل بين الإنسانية والفاشية، ولا مجال للمقارنة هنا بين من يدوس أبناء الوطن بجنازير الدبابة، ويقصفهم بالطائرات (مهما ادعى أنه يفعل ما يفعله دفاعاً عن الوطن) وبين أي جماعة أو فئة أخرى.
إن خطأ توصيف المجازر كخلاف سياسي يعتبر خطأ أخلاقيا بالدرجة الأولى، وقد سقط في ذلك غالبية مكونات المجتمع، صحيح أن السقوط الأكبر كان في رابعة، ولكن الحقيقة أن بداية السقوط كانت قبل ذلك بسنوات طوال، أعني بداية تبرير الدم، واعتبار القتل والتصفية الجسدية خلافا سياسيا.
الفكرة الخاطئة الثالثة:
اعتبار مجازر رابعة بداية مجازر العسكر في مصر، ويشترك في ذلك الخطأ من يعتبر معركة الجمل أو جمعة الغضب هي البداية، والحقيقة الدقيقة أن مجازر العسكر بدأت في مطلع الخمسينات في عهد الرئيس محمد نجيب، وما إعدام خميس والبقري عنا ببعيد وإن طال الزمن، واستمرت المجازر تحت رعاية أجهزة الأمن والتخابر في الستينات، ثم في عصر السادات، وفي انتفاضة الخبز عام 1977، ثم في عصر مبارك بالتعذيب في السجون، وبالرصاص الحي في أحداث الأمن المركزي (عام 1986)، وبالقتل بالمرض والجوع، ثم بعد أن اندلعت ثورة يناير، وبدأ المجلس العسكري بالقتل، في ماسبيرو، ومحمد محمود، ومجلس الوزراء ... الخ.
كل هذه دماء مصرية طاهرة، وكل هذه مجازر حكم العسكر في مصر، حتى المجازر التي حدثت في عهد مرسي ... فالمسؤول عنها هم العسكر (مع اتفاقنا على اشتراك الرئيس في المسؤولية السياسية على الأقل).
الفكرة الخاطئة الرابعة : تأميم المجزرة !
وهذه خطيئة !
خطأ قاتل أن تعتبر مجازر رابعة التي طالت سائر مكونات المجتمع قضية تخص جماعة، أو حزبا، أو فئة من الناس، وأن يقصى عنها أي فرد من مظاليم الشعب المصري.
فقتلى هذه المجازر غالبيتهم ليسوا أعضاء في جماعة، وانتماءاتهم أكثر اتساعا من الأفق الفكري المحدود للإسلاميين، وحتى شهداء الإخوان في هذه المجازر ليسوا للإخوان وحدهم، بل هم مصريون، ودمهم ملك الأمة كلها، وتألم لقتلهم بهذا الشكل ملايين المصريين على اختلاف انتماءاتهم، وقد انقشعت الغشاوة مع الوقت ومع تعميم البطش عن أعين غالبية ممن أيدوا فض رابعة بأي ثمن في بادئ الأمر.
الفكرة الخاطئة الخامسة : تضخيم دور المنصة !
أسوأ ما في اعتصام رابعة كان المنصة، ولولا هذه المنصة لتضاعف عدد المنضمين لهذا الاعتصام، خصوصا بعد أن اعتدت قوات الأمن على المعتصمين في مجازر مروعة قبل يوم الفض بأسابيع.
لقد كانت منصة طائفية عنصرية، لا تعرف في مجمل خطابها معنى التجميع على مشتركات الوطن، بل كانت تفرق المجمع، وتقلل الكثير، وتعطي مبررات البطش والتنكيل والتحريض.
المشكلة الكبرى أن الاعتصام قد تم فضه ... ولكن خطاب منصة رابعة ما زال يملأ الفضاء، وما زال يعلو صوته من وقت لآخر، فيمنع توحد الثوار، ويؤخر اصطفاف المظلومين، ويعرقل ثورة الكادحين.
اتصل بي بعض الشباب من المعتصمين في ميدان رابعة قبل الفض بحوالي أسبوعين يطلبون مني أن أتعاون معهم من أجل تغيير خطاب منصة رابعة، ويبدو أنهم قد وصلوا لاتفاق بأن يصبح الشباب مسؤولا عن نصف الوقت (هؤلاء الشباب بعضهم استشهد، وبعضهم في انتظار الإعدام، وبعضهم في المنفى)، ولكن هذا الاتفاق لم ينفذ، واستمر كهنة المعبد في السيطرة على كل شيء، وما زال كهنة المعبد (برغم فشلهم الذريع خلال سنوات طوال) يحاولون منع سنة الله في التغيير، ويقصون الشباب من القيادة، ويضرون حراك الشارع، وينفرون الناس، وأقاموا مشاريع إعلامية فاشلة ... ليست أكثر من تكرار سخيف لخطاب منصة رابعة.
للأسف الشديد ... هناك من يعتبر أن منصة رابعة بكل ما فيها مبرر للقتل والسفك وحرق الجثث والاعتداء على الأعراض، ونلوم من يفعل ذلك مائة مرة ... ونلوم كهنة المعبد الذين لا يتعلمون، ويصرون على استنساخ منصة رابعة ألف مرة.
الفكرة الخاطئة السادسة : اعتبار رابعة موسما أو ذكرى !
هناك من يرى في هذا اليوم فرصة لاجترار الأحزان ونشر اليأس، وبعض هؤلاء من أصحاب النوايا الحسنة، وبعضهم ليس كذلك.
وهناك من يحول هذا اليوم للشتيمة والشماتة، وهؤلاء أيضا فيهم من أصحاب النوايا الحسنة، وفيهم غير ذلك.
وهناك من يراه فرصة لاستعراض القوة بالتظاهرات والمسيرات، بغض النظر عن ملائمة الوضع تكتيكيا واستراتيجيا لذلك، وهم بين حسن النية، وبين أمر آخر.
وهناك من يرى في رابعة موسما سياسيا لتشكيل الكيانات وإطلاق المبادرات، بغض النظر عن ملائمة ذلك الوقت لهذا العمل السياسي أو ذاك، وهؤلاء أيضا فيهم وفيهم، فبعضهم يفعل ذلك بحسن نية، وبعضهم لا أظنه حسن النية أبدا !
إن هذا اليوم ليس سوقا للسياسة، ولا هو فرصة لـ"فش الغل" !
إنه يوم لتجميع الناس على ثوابت قتل في سبيلها آلاف الشهداء، وسجن وأصيب وجرح من أجلها مئات الآلاف، ودفع في سبيلها أغلى الأثمان ملايين المصريين !
لا تتاجروا بمجازر رابعة ... بقصد أو بدون قصد.
الفكرة الخاطئة السابعة :
أن يتوهم بعض المجرمين الذين شاركوا في القتل أو بعض الضحايا اليائسين أن هذه المجازر ستمر دون حساب !
وأن يتوقع كذلك بعض الضحايا أن الحساب كله سيكون في الدنيا !
للفئة الأولى نقول ... سنحاسبكم ولو بعد مائة عام، وسنورث رغبة إقامة العدل وبناء الوطن لأبناءنا وأحفادنا مهما طال الزمن.
وللفئة الثانية نقول ... ليس كل الحساب في الدنيا، ومن فضل الله علينا أن جعل اليوم الآخر لإقامة العدل المطلق، لأن ما حدث في مجازر رابعة أكبر من كل أنواع عذاب الدنيا، ووالله الذي لا إله إلا هو ... إن جميع عذابات الدنيا لا تستطيع أن توفي هؤلاء المجرمين حسابهم، ولن يأخذوا جزاءهم الأوفى إلا بعذاب الآخرة.
الفكرة الثامنة الخاطئة : تعميم الانتقام !
خطأ كبير أن يتصاعد الغضب، فتصبح الغايةُ الكريمة في العدل رغبةً في الانتقام الأهوج، وأن يصبح الحقُّ في القصاص رغبةً وحشية بدائية في تعميم الثأر ممن أخطأ أو ممن لم يخطئ، ممن تراجع واعتذر وممن ما زال سادرا في غيه، وأن يتساوى من أطلق الرصاص مع سبق الإصرار والترصد بمن يدفع ثمن اعتراضه على المجزرة في السجن أو في المنافي.
هذه الحالة اللاعقلية اللامنطقية تطيل عمر الاستبداد، وتقوي حاضنته الشعبية المتهالكة.
هذه أخطاء وقعنا ونقع فيها ... أنبه لها في هذه الأيام الأليمة ... وكلي أمل أن نحاول أن لا نكرر المزيد من هذه الأخطاء.
عاشت مصر للمصريين ويالمصريين...
وسوم: العدد 629