نقض فقه الخضوع للظالمين
بُغض الظلم غريزة في النفوس السوية ، ومقاومة الظالمين من مطالب الفطرة السليمة ، يستوي في ذلك المؤمنون وغيرهم ، وإنما شنّ المسلمون الحملات العسكرية المتتالية وتتابعت على أيديهم الفتوحات لأغراض سياسية بالدرجة الأولى هي إزالة حكم الطغاة وتحرير الشعوب من جبروتهم ووضع نهاية حاسمة لعهود الظلم ليسترجع الناس حريتهم ويختاروا العقائد والأفكار التي يشاؤون بعيدا عن أنواع الإكراه المادي والمعنوي ، فاختارت أغلبية الشعوب المتحررة الاسلام عن قناعة وتمسكت به عبر العصور وجاهدت من أجله وخدمته علميا ودعويا ، بينما اختارت أقليات كبيرة البقاء على دينها وهي تعيش بين أغلبية مسلمة حياة طبيعية منذ قرون.
لكنّ الخطاب الاسلامي المبدّل المتوافق مع أهواء الأنظمة الحاكمة أصاب الدين في الصميم حين أنكر جوهره التحرّري ولخّص رسالته في بُعد قمعي يفرض العقيدة على الناس عنوة ، ورغم أن هذا التأويل المستبعد تردّه النصوص المؤسسة للإسلام والضابطة لسير شريعته وأحكامه كما تردّده التجربة التاريخية عبر العصور إلا أن أصحابه رتّبوا عليه نتيجة غاية في الخطورة هي التأصيل للظلم و وجوب انصياع المسلمين للظالمين وعلى رأسهم الحكام غير الشرعيين ، وباسم علمانية لا تقول اسمها أشاعوا ثقافة التخلف والهوان والذلّ زاعمين أن في ذلك اتباعا للرسول صلى الله عليه وسلم وثوابا كبيرا يدخل أصحابه الجنة !!! فبرّروا للسلطات الحاكمة قمع الشعوب وشدّدوا على المظلومين بأن يسمعوا ويطيعوا لهؤلاء الحكام " المسلمين " ولو أخذوا أموالهم وجلدوا ظهورهم !!! ومنعوا الجماهير من التعبير عن تذمّرها حتى عبر أكثر الوسائل سلمية كالتظاهر والاعتصام والإضراب عن العمل لأن كل هذا بدع منكرة تخالف الدين وفكرٌ غربيٌ وافدٌ من بلاد الكفار تجب محاربته !!!، بهذا المنطق ناصبوا الربيع العربي الواعد العداء وأطلقوا على ثوراته السلمية أبشع النعوت ، بل انحازوا للجيش الانقلابي ضدّ الرئيس المنتخب ثم منعوا منازعة الانقلابيين لأن حكمهم أصبح شرعيا !!! هكذا يتجاوزون أبجديات الدين وثوابت النفس الانسانية ومقتضيات العقل السليم ويرسمون هذه الصورة المقزّزة المستخفة بإنسانية المسلم والمنتصرة بتبجّح سافر للظالم ضدّ المظلوم.
وقد كان الناس يتضايقون من " رجال الدين " الذين يلعنون الظلام ويعجزون عن إيقاد شمعة لكنهم الآن أمام أحبار لا يلعنون الظلام أصلا بل يباركونه ويحاربون من يحاول إيقاد الشموع... إنه تيار يرتدي لباس الدين وباسمه يحرس الأخطاء ويبارك الخطايا السياسية ، يهدم ولا يبني ، يفرّق ولا يجمع ، ينفّر و لا يبشّر ، يجعل من الاسلام أداة قمعية لاستعباد الأحرار بعد أن جعل منه الرسول صلى الله عليه وسلم أداة ربانية لتحرير العبيد ، وبعبارة مختصرة واضحة نقول إن السلفية الحكومية تعمل على إيجاد شعوب خانعة جهولة تابعة ، هي عبارة عن قطيع تقوده نخبة من " رجال الدين "
تشيع خطابا تقزيميا لإلهاء الناس وإطلاق العنان للحكام الظلمة وكأنهم لا يُسألون عمّا يفعلون مهما طغوا وبغوا.
ولعلّ أشدّ ما في هذا الموضوع أن أصحاب الخطاب المبدل المحرَّف من شيوخ الوهابية استطاعوا إنشاء رأي عام شبابي يتقبّل هذا الرؤية السياسية والاجتماعية الموغلة في مناقضة التصوّر الاسلامي والنزعة الانسانية في إطار التنشئة الدينية الشاملة على أساس أن هناك رأيا صوابا واحدا هو " ما كان عليه السلف الصالح " وذلك في جميع المسائل الكبيرة والدقيقة ، من غير أن يضبطوا معنى " السلف الصالح " لأنهم قصروه في الواقع على المذهب الحنبلي والقراءة الوهابية لأقواله وآرائه ، فأصبح هؤلاء الشباب يتنازلون طواعية عن كرامتهم الانسانية ويزدرون معاني الحرية وحقوق الانسان ليكونوا فريسة سهلة للطغاة المتسلطين ، يحنون لهم ظهورهم فيركبون ويمدّون لهم رقابهم فيجرّون ، حتى إذا بلغ الظلم السافر مداه ولم يبق لبعض الشباب طاقة لتحمّل الهوان والضيم حملوا السلاح وغدوا أداة للتقتيل الأعمى هنا وهناك ، ودائما باسم السلفية ، وهذا مآل حتمي لمن افتقرت تربيتهم إلى الحسّ الحضاري.
إن قابلية الاستكانة للظلم مصيبة كبرى تحتاج إلى جرعات قوية من العلاج النفسي الذي تتضمّنه آي الذكر الحكيم والأحاديث النبوية وخلاصات تجارب الأحرار عبر التاريخ ، لأن تحوّل بعض المسلمين – وشبابهم خاصة – إلى قطيع ذليل يسبح بحمد الظلمة ويحمي عروشهم باسم السنة النبوية ويثير الرأي العام ضدّ المظلومين وينعتهم بالخوارج دليل على انحراف خطير أصاب الفطرة ذاتها ، لذلك يتعيّن على الأوساط التربوية والدعوية الراسخة أن تجعل أولويتها الأولى نقض هذا التصوّر المبني على الخطاب المبدل وذلك عبر انتفاضة علمية قوية تحيى أدبيات التحرّر والاعتزاز والتمكين ومقاومة الظلم في نفوس طلبة العلم الشرعي بالدرجة الأولى لتحريرهم من الأوهام وتعليمهم موازين الحق والباطل ضمن خطة ينتضمها الوعي والاعتدال تتمحور حول تربية العزائم لترميم التخريب المعنوي الذي أحدثه الخطاب المبدل المحرف في أذهان الشباب " السلفي" ، وقد كان المصلحون يشتكون من العابد الضعيف فصرنا نشتكي من العابد الحامل لذهنية العبودية لغير الله الذي يتخلى عن كرامته وإنسانية طواعية ويؤصّل لذلك بالمرجعية الدينية ، وكان قادة الرأي يشتكون من أصحاب الصفوف الخلفية لأنهم مظنة السلبية وضعف الهمّة فغدونا أمام ظاهرة أكثر إيلاما هي التأصيل الاسلامي للقعود والتخلف والمذلة وقتل المبادرة وترك الصفوف الأولى ومنابر القيادة للمتغلبين بالقوة من أصحاب الشهوات وكانت النتيجة إبعاد الاسلام إلى الماضي والغيب ( دون الشهادة ) والخرافة والشكلية والجدل حتى فقد التأثير في الحاضر والمستقبل ، وهذا يفرض علينا محاربة الأمراض المنتشرة استنادا إلى الفهم الخاطئ للدين وكذلك الأدوية المغشوشة التي يقدمها هؤلاء باسمه.
إن الاستبداد أمّ المصائب الاجتماعية ، والظلم الذي يشيعه بالضرورة من أكبر المنكرات التي يجب حشد الطاقات وشحذ الهمم لمقاومتها في النفوس وفي الحياة العامة بوساطة التربية المبكرة والمستمرة على جميع الأصعدة – والتربية الاسلامية بالأساس – وإنتاج خطاب فقه الحياة الكريمة على أنقاض فقه الذلّ والهوان الذي تعمل الوهابية الحكومية على ترسيخه باسم الشريعة لتوطيد أركان الأنظمة الاستبدادية وقتل جذوة الحرية والعزة في النفوس ، ولن يتمّ ذلك عبر الجدال العقيم مع هذه المدرسة التي جمّدتها النظرة الحرفية الظاهرية التجزيئية ولكن بتسليح المسلمين بالمقاييس الثقافية السليمة التي تتيح لهم العيش عبر الأجيال بقيم القرن الأول ووسائل وأساليب القرون المتعاقبة ، فيتحرّروا من ركام الأقوال الفقهية التي أنتجتها عصور الضعف والانحطاط ، ويرتقوا إلى غايات الوحي الخالدة النابضة بتكريم الانسان ورفض الظلم والعدوان والتسلّط مهما كان مصدرها ومسوّغاتها وبخاصة فتاوى الكهنوت الغريب عن الاسلام الذي تحالف مع الاستبداد السياسي ضدّ الأمة وحقوقها ، بهذا ننتهي إن شاء الله إلى نقض فقه الخضوع للظالمين ، ويتحرّر الشباب الغض من قبضة شيوخ ليست مشكلتهم في علمهم ولكن في ضمائرهم وأخلاقهم ، يحذّرون من فتنة " الخروج على الحاكم " رغم عدم شرعية حكمه ورغم ظلمه البيّن وبغيه القبيح ، ويتغاضون عن فتنته للناس في أرواحهم وأرزاقهم وكرامتهم ، وقد بلغ بهم الهوان أن منعوا الدعاء للفلسطينيّين وغيرهم من المسلمين المظلومين لأنهم "ليسوا من أهل السنة الجماعة بل أشاعرة وإخوان وصوفية " !!! هكذا سمعنا خطباءهم يقولون ، ولو اتبعوا الخطاب الاسلامي الأصيل لأيّدوا المظلوم وإن كان كافرا.
وسوم: 641