انسلالات الإذواء
اكتب! واكتب! واكتب!
عن ماذا أكتب! وأكتب! وأكتب؟!
عن كل شيء وشيء وشيء! وعن كل حَيرة وحيرة وحيرة!
عن ذاتك! عن الناس! عن الموت المُتمدِّد في أعناق أمَّتنا كتاجٍ مِن نيران تُذيب الصُّخور، وتُسيل الصَّلْد، وتُحيل المحيطات إلى مورٍ هائل مِن الاشتِعال والغلَيان والزفير!
عن الأطفال المزروعين منذ وجودهم بين الصُّلب والترائب في مقابر الخراب والدَّمار، والتنكيل والتهجير، والتشريد واليُتْم، والبُكاء والدُّموع!
عن الأمَّهات الموزَّعة أفئدتهن بين لَوعة وغُصَّة! بين شَهقة اختِناق وزفير رُوح! بين صدمة الثُّكل واليُتْم والفقْد والانزِواء على محطَّات الرصاص والمَدافع والطائرات والسَّكاكين التي تُمزِّق الأوردة والشرايين والأوتار والأعصاب! بين نظَرات الأجنَّة والرُّضَّع والأطفال المتَّجهة نحو اعتِصار الألم وتركيزه في البُؤبؤ والأحداق!
عن الصَّبايا اليافِعات المُحتشِدة بأعطافهنَّ براءةُ الرحمة والحَنان والإيثار والتَّضحية! عن بنات يُنافِسنَ الأقمار والنُّجومَ والكواكب، والأزهارَ والجَداول والنَّقاءَ والصفاء - كلَّ ما في الأعماق من شهد المظهر والجَوهر! عن تلك البنات وهنَّ يَتحوَّلن مِن سَوْسَن وياسمين إلى اصفرار مَصفوع بالحرارة واللهيب! عنهنَّ وهنَّ يَحمِلن السُّخام والسواد والوجَع المنقوع بالعجز والكُساح والشلل على كل نبضة مِن نبضات أرواحهنَّ المسكونة بالتحسُّب والتوقُّع! تحسُّب الوقوع بين أنياب المغتصِبين المنزوعين من الإنسانية والآدمية! وتوقُّع رؤية دماء العَذارى يُسفَك على مرأى الأهل والإخوة والأخَوات والأبناء والأزواج!
عن ذلك الطِّفل الذي يبحث بين الأشلاء! بين الأنقاض! بين الأوصال المنحورة بالمُدى والسكاكين والسواطير! عن بقايا أمٍّ أو أبٍ، أو دفتر رسْم كان قد رسَم فيه طموحًا مغذًّى بأمل المستقبل! عن أخٍ لأخ رضيع كان قبل يوم أو نصف يوم يُجلِسه في حِجره ليُرضِعه الحليب مع الحَنان والأخوَّة ومشاعر العائلة المليئة بالدِّفء والحَرارة المُذهلة التأثير والتكوين والملمَس!
عن تلك الطفلة التي وجَدت رأس أمِّها مقطوعًا ومَقذوفًا ككُرة باليةٍ بين كومات مِن نفايات! وبين بقايا مِن جُثث متفسِّخة تَسيل من أطرافها سيولة تكاد تقتَنص الأرواح مِن رائحتها! فتجد عند الرأس تمامًا عروستها الصَّغيرة في قبضة يد عرَفتْ أنها يد أمِّها! كانت هناك بين الجُثَث وحيدةً! فحيث تنظر يُواجِهها الموت المقطع المجزور المفتت! تزحف رعبًا بعد أن فقَدت القُدرة على الوقوف! بين غابات الموت وأحراش الفَناء! مسكونة بالذُّهول والرعب، والانشِداه والانكِسار، والهزيمة والوجع المعتَّق برائحة الموت! يتعربشها الدود الغازي للجُثث! تحاوِل الصُّراخ فتفشَل! تُحِس بسقوط الشمس بحلْقها! تتسلَّل الزلازل إلى قلبِها الصغير المُثقَل بالخوف والرعب! تحاوِل الوقوف فيَجْتاحها الكُساح! يشعُر الدود بنبضاتها، فيَتساقط بحثًا عن جثَّة ترَكها قبل قليل ليُسكِن رعبًا مضافًا إلى قلبِها الصغير!
عن أصحاب الأخدود في ميانمار! الذين يُساقون إلى النار بين خيار الموت حرْقًا، أو أكل لحْم الخِنزير أو الرِّدة! فيَختارون النار التي تشوي وتَصهر وتَحرِق وتُشعِل!
عن أطفالهم الذين يُربَطون بحبال إلى الخلْف، ويُلقَون في الأنهار والبحار فيموتون غرَقًا، وهم يرفعون عيونهم ألمًا وقهرًا!
عن نسائهم اللواتي يُغتصَبن من عصابات بشكْل جَماعي!
عن شَبابهم الذي يفِرُّ من هول الموت والاضطِهاد إلى ساحات المُحيطات فيَسقطون في أعماقِها!
عن الجوع الذي يَنهَش الآلاف منهم نهشًا بطيئًا حتى الرَّمق الأخير مِن العذاب المغطَّس بالصبر والإيمان!
عن بناتهم اللواتي يُسقْن للرذيلة الجبرية من قِبل الجيش والرُّهبان حتى لفْظ النفس الأخير الخارج مع كُلوم الانهيار نحو هاوية الرحيل المحشوِّ بغصَّات حادَّة مُدمِيَة!
عن ألم كل مسلم يُشاهد الرائيَ! فيشهد على هَولِهم ومُصابهم، فلا يملِك غير القَهر والعجز والبكاء والكآبة! عن دموع كل مسلم يَصمُت وصُراخُه يَكاد يمزِّق الآفاقَ رغم بقائه في الحناجِر ليُدميها ويمزِّقها! عن شعور الغضب والانفِجار والقلق المحتجَز في الصُّدور دون أيِّ بارِِقة مِن أمل للوصول إلى مساحات الانفِراج أو الخروج!
اكتُب! واكتب! واكتب!
عن الفيلم الذي جاء ليشوِّه صورة أفضل الخلْق وسيد العالمين! اغضب! واغضب! واغضب! فالغضب رؤية مِن رؤى الحقِّ والحقيقة! وقل كلَّ ما يمكن أن يُقال أو لا يقال عن أولئك الذين خرَجوا مِن مزابل التاريخ وأعناق المجاري والشذوذ الخُلُقي والجنسي! وعن أفكارهم الموبوءة بالحقد والضغينة، والتخلُّف والانطِواء، والتسليم إلى الأهواء المغذَّاة بالكراهية والتشويه؛ لما تحمِل من انكسارات وانحطاطٍ وقَذارة تتفوَّق على الانحطاط والقذارة والقرف والتقزُّز! كيف استطاع محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يَستفِزَّ وجودهم وكَينونتَهم منذ ميلاده وحتى اليوم؟! كيف استطاعَت أفكاره العظيمة المُستقاة من وحي الله - جلَّ شأنه - ترفض إلا أن تُعرِّي الباطل جيلاً خلف جيل؟! وكيف أن السحاب المشبَّع بالعدل والتقوى يسير منذ أجيال وأجيال دون أن يؤثِّر في مسيرته نُباح الكلاب؟! بل نباح مدَّعين تترفَّع مكانة الكِلاب عن التشبُّه بها أو مُماثلتِها في صفة من الصفات!
عن الملايين من المسلمين والنصارى الذين وقفوا ليقولوا قولة واحدة! بأن العظيم لا يَستجدي أحدًا للاعتراف بعظمته! وإنما العظَمة هي مَن تَستجديه للاعتراف بها!
عن رائحة النور التي خرجَت منذ ميلاده - صلى الله عليه وسلم - لتَنتشِر في أعماق القلوب، وتتمكَّن من الأفئدة، وتسكُن الأرواح! عن لون الرائحة التي ما زالت الأرض والسموات تراها وهي تَشُق آفاق الأكوان والضياء والأنوار، لتصِل إلى الحيتان والدلافين والقرش والمرجان والإسفنج والغابات الموغِلة بالتدغُّل في أعماق ثُلثَي الأرض!
عن روعة السَّكينة التي تقتحِم الأعماق حين نصلِّي ونسلِّم عليه في كل صلاة، وكل آذان، وكل دعوة، وكل خَلجة من خلجات أجسادنا ونفوسنا وعقولنا وقلوبنا وأدمغتنا وإنسانيتنا وآدميتنا!
عن عوالق هذا الزمن وطُفيلياتِه! عن انحِراف الإنسانية أو بالأحرى عن انتِفاء الإنسانية من الشكل والإهاب الذي يَرتديه مَن وصَل إلى اعتبار حرية التعبير نوعًا مِن قذْف الحق والحقيقة بالكذِب والتدليس والحقد والضغينة! عن النقمة التي تسكُن مثل أولئك الذين حاوَلوا وما زالوا يُحاوِلون إطفاء نور الله بأفواههم، دون أن يُدرِكوا أن مَن قبلهم - بقَضِّهم وقضيضهم في فترات التاريخ - حاوَلوا ما يحاولون اليوم! لكن الله أتمَّ نوره وسيَبقى مُتمِّمًا لنوره رغم كل حقد وغضَب وحسد وكيد وضغينة!
اكتُب! واكتب! واكتب!
عن زمن تتغايَر فيه الأصول وتتنافَر الحَقائق! عن زمن مَصقول بأدوات الزَّيْف والخداع والكذب! زمن الجهلاء والمدَّعين والرُّوَيبِضة! عن زمن انفِلات الحق مِن أصابع الأُمَم ليحلَّ محلَّه زمن الغَباء المطبق بالغباء!
عن زمن يخرج الرأس من الجسد! ويقذِف القدرة نحو منابت القنوط واليأس! عن زمن يتحدَّث فيه ممثِّل أو ممثلة - تلتصِق سيقانهم ببعضها أمام الملايين دون أدنى حياء أو خجَل - عن هموم الأمة ومستقبلها! عن ممثِّلة تخلَع ملابسها كاملة أمام الكاميرات، وممثِّل يتفحَّص العُري بعيونٍ تقطُر شهوة وانحِرافًا وشُذوذًا وبهيمية! ثم يخرُجان على الشاشة ليحمَدا الله على ما منَّ عليهما من موهبة وقدرة على مُزاوَلة الرَّذيلة والانحِطاط والانخساف الروحي والخُلُقي! عن ممثِّل مهرِّج، لا يتقِن سوى فن النُّباح والعُواء، ويخرج بعدها لينبِح ويَعوي بأفكار تناقِش مكامن الهزيمة والتخلُّف في المجتمع! عن أمة تسمَع لمِثل هؤلاء! ولا تسمع ممن يدعو إلى العَفاف والطهارة والخُلُق والإبداع والحِشمة! عن أمة ترى في اللحية قضية يُمكن أن تؤثِّر على سير حضارة الأمة! ولا ترى في الولوغ بالعَهر والصَّفاقة والزنا أمام الملايين سوى دعمٍ لخُطى الحضارة والانفتاح!
عن أمة لا يُساوي فيها رأس العالِم أو المفكِّر قدَم لاعب كرة قدم، أو صوت مُطرِب أو مطرِبة يتغنَّجان بشبَقٍ وزفير حيواني! عن أمة لا تَعرف قيمة "زكي نجيب محمود" و"عبدالرحمن بدوي" و"عباس محمود العقاد" و"حافظ إبراهيم" و"محمود سامي البارودي"! وتعرِف عن ممثِّل أمريكي متخصِّص في إهانة العرب والمسلمين والإسلام! عن أمة تُشاهِد في رمضان المبارك مسلسلات تدعو إلى تفكيك الأسرة والتحلُّل من الأخلاق وهجر الفضيلة، ولا تُعطي من وقتها قليلاً لمعرفة الجوع والسَّغَب الذي يعيشه أهل الصومال وبنجلادش واليمن وفلسطين والأردن!
اكتُب! واكتب! واكتب!
واغضَب! واغضب! واغضَب!
وإلا فما الفَرق بين الإنسان والحيوان؟! وما الفرق بين من يُدرِك ومن لا يدرك؟! وبين مَن طُبِع على قلبه ومَن لم يُطبَع على قلبه؟! وما الفرق بين مَن مَثلُهم ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الجمعة: 5]، ومَن تمثَّل القرآن فتمثَّلته الحضارات والأمم والتاريخ؛ كعمر بن الخطاب والصدِّيق وعثمان وعلي وبلال وسَلمان - رضي الله عنهم وأرضاهم؟!
اغضَب؛ لأن أمتنا لم تُنجِب منذ فترة طويلة مَن يَصرخ ليقول لامرأةِ وامعتصماه: لبيكِ وألف لبيكِ! لبيكِ قولاً وعملاً! جيشًا وقادة! اغضب على أمة ترضى بالذل والخنوع، والاستسلام والجوع، والفقر والفاقة، ولا تُفكِّر في البحث عن خليفة حين أمِن العباد قال: "انثُروا القمح فوق رؤوس الجبال؛ حتى لا يُقال: جاع طير في بلاد المسلمين"!
اكتب عن الأطفال المشرَّدين بين متاهات الشوارع والأزقَّة والطرقات! وهم يَحمِلون على كواهلهم الصغيرة عَناءَ الفقر والحاجة والقَسوة والانهيار! وعلى ذات الكاهل يحمِلون تقزُّز الناس منهم ومِن تَكوينِهم وأفعالِهم! عن أطفال يَتزاوَجون في الشوارِع دون زواج! فيُنتجون جيلاً جديدًا من التشرُّد والضَّياع واللاوجود، والانخلاع مِن الانتِماء والتواصُل والتعانُق مع الحياة والفرح والحُبور! عن أطفال تَذوي أجسادهم جوعًا وقهرًا وألمًا وضياعًا وتشرُّدًا! وعن أطفال يتكرَّشون تُخمة وبَطَرًا ومُغالاةً تتجاوَز ما فوق الإشباع درجاتٍ ودرجات! عن وطن لا يَبحث عن أطفال كانوا يومًا في حُلم السواقي والتراب والخُصوبة والعَطاء والنماء! عن وطن يُحاسِب أطفالاً تلوَّتْ قلوبهم وأمعاؤهم من جوع مُمسِك بالعقل والفؤاد دون أن يُشفِق أو يفكِّر بالشفَقة على كمِّ الألم والتلاشي والذَّوبان الذي يُمسِك بأحشائهم التي تَقتات على ذاتها! عن أمَّهات في الوطن الممتدِّ من العذاب إلى العذاب وهنَّ يُشاهِدنَ أجساد أطفالهنَّ تلتصِق بالعظام حتى تصل إلى درجة الهَشاشة والنُّثار والاندماج بغُبار الأرض حتى لا يعود هناك فرق بين العظام وبين الرمال! عن أمهات يربِطن أولادهنَّ بالحبال حتى لا يفِرُّوا إلى مجاهل الصَّحارَى من شدة الجوع وبطْش السَّغَب! عن أمهات يُفارِقن الحياة جوعًا وعيونُهنَّ ترصُد اللحظات الأخيرة لوجوه أطفالهن المنزوعين من قدرة المقاومة والبقاء والحياة!
اكتُب! واغضب! وأشعل الحروف بحمَم براكين لا تهدأ ولا تسكُن ولا تبرُد! اكتب، واجعل كل حرف من الحروف فيضانًا مِن غضب موصول بالغضب! ماذا تبقَّى لك غير الكتابة والغضب! غير القهر المحشوِّ بالعجز والقهر! اكتُب! واجعل الكلمات زلازل تَخُض الأرض وترجُّها وتنفُضها! تقلب سافلها عاليَها وعاليَها سافِلها! قوم لوط هنا اليوم! يحلُمون بمجدِهم الغابر! ثمود وعاد ليسوا ذِكرًا مِن ذِكر التاريخ فقط! هم يتربَّعون على عروش مَصايرنا وعزَّتنا ووجودنا! يجدِلون الظُّلمَ ضَفائرَ مِن سَطوات لا يُمكن تحمُّلها أو احتمالها! مَن قال: إن الفراعنة رحَلوا؟! مَن قال بأنهم هناك جُثث محنَّطة في أهرام مصر أو المكسيك أو السودان! هم الآن سادَة العصْر وأسياده! من قُطب الكون إلى قطبِه! مِن أَخمَص القدم إلى قمة الرأس! وتسألني عن ماذا تكتُب؟!
اكتُب عن سوريا! حيث هناك يَقف نيرون وهتلر وكورتيز وموسوليني وشارون وبيغن وستالين ورهبان بورما كأطفال في فنِّ القتْل والسَّفك، والذبح والجَزْر، والجريمة والتفجير، وهدم المساجد والمآذن، وحرْق المصاحف والمدارس والجامعات! عن قوة الوحشية التي ترفُض أكثر الحيوانات افتراسًا أن تصِل إلى هذا الكمِّ مِن المُتعَة والاستِمتاع في سحْق الكرامة والعزة والشرف والفضيلة والإنسانية! اكتب عن الفتيات اللواتي يزهرنَ رحمة وحنانًا، وهن يَقعنَ بأيدي مخلوقات مركَّبة من الانحطاط والقذارة، ليتحولْنَ إلى مُغتصَبات مَقهورات لا تكفي محيطاتُ العالم دموعًا لمواساتهن! عن الأطفال الذين يُذبَحون بالمُدى والسكاكين أمام الأمهات في حلب وحماة ودير الزور ودرعا واللاذقية ودمشق! عن النساء اللواتي يُغتصَبن أمام أولادهنَّ وأزواجِهنَّ وإخوتهنَّ وأهلهنَّ! عن الطائرات التي تهدِم البيوت وتحرِق الغابات وتَغتال الحيوانات! عن مَجازِر كل شبر في الوطن السوري! عن المجازر اليومية التي تمارَس أمام آلات التصوير ليراها العالم بوقاحة وصَلافة لا تُضاهيها وقاحةٌ أو صلافة!
عن الكفر الذي يفوق كُفْرَ الفراعنة والجاهلية وكل كفر نعرفه أو لا نعرفه! عن مخلوقات مركَّبة مِن العَهر والفِسق والرذيلة والزنا، وهي تُجبر الناس تحت تهديد الموت المشبَّع بالعذاب والألم للسجود لصورة حاكم قاتلٍ مُغتصِب جزار، لا يَعرف عن الدِّين أو الإنسانية شيئًا! عن تلك المخلوقات وهي تحرِق الثوار أمام الشاشات! وهي تدفِن الناس أحياء! وهي تذبَح ببطء شديد الرُّضع والأجنَّة في الأرحام بمُتعَة لا تُضاهيها مُتعة! عن المشرَّدين والمهجَّرين من بيوتهم ووطنهم! عن أهلهم وأحبَّتهم! عن جذورهم وجذور أجدادهم؛ لأنهم رفَضوا السجود إلا لله الواحد القهار! عن الأحلام المدفونة تحت الأنقاض مع جُثث الأطفال والآباء والأمهات!
عن النبَّاحين العوائين النهَّاقين الذين يَجدون مُبرِّرًا للقتل والتدمير والتهجير! عن سَحْنتِهم المَطليَّة بالعار والخزْي والذلِّ والهوان! عن قلوبهم المتيبِّسة الصوانيَّة التي لا تنتفِض لمشهد الأطفال المنزوعةِ أظفارُهم، والمخلوعةِ أجهزتُهم التناسلية! عن الشباب الذين ثُقبوا بالمثاقب رويدًا رويدًا، حتى خرجَت الروح متلوية مُغرَقة بألَم لا يوصَف! عن الرجال الذين يوضَعون في إطار سيارة ويَبقَون تحت هول الكيِّ والسَّلخ أيامًا قبل أن يرحَمهم الموت، ويَعطِف عليهم القبر! عن الرجال والنساء والشباب والشابات والأطفال الذين نُفِخوا وهم أحياء في أقبية السجون والطرُقات، وسُلِخوا وهم أحياء يتنفَّسون الوجع والعجز والكُساح!
عن الهواء المعبَّأ بالحُموضة والمرارة والاشتعال والغاز، ورائحة الجثَث المتفسِّخة المتعفِّنة بكل طريق وكل زقاق! عن الورود والأزهار التي تحوَّلت إلى أنواع لا تقوَى على البقاء بعد أن أصبحَت تَشرب الدماء بدلاً من الماء، وتتغذَّى على فُتات البشر بدلاً من تكوينات الأرض! عن الزيتون والبرتقال والليمون المعتصر الذي لا يُخرِج غير الدماء والأرواح والجروح الراعفة الراجفة، والأرواح الهائمة المشرَّدة، قبل دخولها عدالة القبر وظُلمته، التي تُعتبَر نورًا فيَّاضًا بجانب الهول الذي يحدُث فوق التراب السوري! عن والدك الذي كان يدعو ويُشدِّد بأن هذا الزمان باطنُ الأرض خير من ظاهرها! عن أجيال آمنت بهذه المقولة، وسارت نحوها وهي محمَّلة بكل الانكسارات والهزائم والضجيج والصَّخب المتكوِّن بزمنهم وزمننا! عن الرمان والكرز الذي أصبح ينقُط دمًا ويَسيل عذابًا! عن النمور والأسود والفهود والضِّباع والثعالب والذئاب التي اختطَف ما تراه ذهولَها ودهشتها وافتراسها؛ فوقفت مستنكِرةً رافضة أن تَتشابه معهم بأي صفة أو جارحة!
عن رجال قالوا: إنهم يعرفون الله - جل شأنه - فارتادوا المساجد والجوامع وحلَقات العِلم والدعوة، وفي طرفة عين تحوَّلوا من صفِّ المظلوم إلى صفِّ الفرعون الذي فاق الفراعنة وقوم لوط وعادًا وثمود!
اكتب عنهم وهم يحمِلون خزيهم وعارهم، وجُبنهم وذُلهم؛ ليحرِّفوا كلام الخالق - جلَّ شأنه - ويحوِّروه من أجل حاكم فجَر فأمَرهم بالفجور! ربما لم يأمرهم بل اندَفعوا بكل طاقتهم ليكونوا أعداء لله والتاريخ والدين والحضارة والإنسانية! ولماذا ربما؟! هو لم يأمرهم، حتى لو أمَرَهم! أوَليس من يؤمِن بقدرة الله وقوته وعزته وجلاله وعدْله وأمرِه أقوى مَن أن يخاف موتًا أو يخون تلك المعرفة!
اكتُب! اكتب! اكتُب!
عن النمر الذي افترَس قردة فوضَعت جنينها لحظة الافتراس! لحظة الموت الأخيرة! فارتعَدتْ مكامِن الرحمة والشفَقة في قلب النمر ارتعادًا أنزل الدمع من عينَيه! فحمَل الجنين بين أنيابه برفق الحيوانية إلى مكان قَصيٍّ، وتولَّى رعايته كأبٍ وأمٍّ! إلى الندم الذي وصَل قلب النمر فلم يجرؤ بسبب الرحمة التي تمكَّنت منه أن يأكل جسد الأم الميتة، رُغم جوعه وتمزُّق معدته وأحشائه! عن العنكبوت الذي وقَع الضفدع في شِباكه وحين اقترَب ليلتهِمه عرَف أنه سام لا يصلُح للالتهام، فقام بتقطيع الشبكة من حوله ليكون حرًّا طليقًا! عن الكلاب التي ماتت حُزنًا وكمدًا عند قبور أصحابها! عن الخيول التي بقيت جَوعى حتى خروج الرُّوح وفاء لصاحبها الذي غادَر الحياة! عن الأسد الذي أطلقه صاحبه بعد أن تعهَّده بالرعاية، وعاد بعد سنوات إلى المنطقة التي أطلَقه فيها فأسرَع الأسد إليه يحتَضِنه ويُداعبه ويضُمه إلى جسده ويشَم رائحته! ثم قدِم بزوجته وأولاده؛ ليعرفوا معنى الوفاء والالتزام والعهد والأمانة وحفْظ الجميل!
عن قطيع الثيران الذي هاجَم مجموعة من الأسود؛ من أجل تخليص عجل وقَع بين أنيابها ومخالبها! عن مشهد الفِداء والتضحية والبَسالة والإقدام والإيثار والوفاء الذي قدَّمه قطيع الثيران للإنسان حين واصَل بقوة محمومة وإصرار عظيم تخليصَ العجل وخلَّصه!
عن فرس النهر الذي هاجَم التمساح من أجل جُؤذُر وقع ضحية بين أنيابه! كيف نقَله من الماء إلى اليابسة، وحاوَل بكل ما يَملِك من طاقةٍ إنعاشَه وردَّه إلى الحياة! كيف كان الجؤذر يئنُّ أنينَه الأخير، وفرس النهر يُدخِل رأسه بفمه وهو يشعُر بالنقمة والحسرة على الأنين الموصول بالموت!
عن القِردة الأم التي هاجمَت التمساح، وخلَّصت ابنها من بين أنيابه، وحملتْه إلى مكان عالٍ فوق الصخور وهو جثة هامدة، وظلَّت تتعلَّق بأمل الحياة أن ينهض فيه من جديد!
اكتب! واكتب! واكتب!
ربما يكون هناك مَن يَسمع أنين الحروف وتشظِّيها وخلخلتَها وخَضخضتَها! ربما يخرُج من بين الحروف بريقٌ يقود إلى انعتاق أو تحرُّر أو ثورة! ربما! وربما! أعرف وتعرف! عن ماذا نبحث، أو نحاوِل البحث، عما نودُّ أن نبحث.
وسوم: 642