بيت سيد درويش حظيرة ماعز!

في تسعينات القرن الماضي سرق اللصوص من إحدى مكتبات استوكهولم كتابين اثنين أُثريين يعودان إلي القرن السابع عشر، وبعد فترة ظهر الكتابان في مزاد ألماني واشتراهما أحد الأمريكيين. لكن السويد ظلت على مدى ربع قرن تكافح في الجهات الألمانية والأمريكية كفاحا دبلوماسيا وقانونيا مستميتا إلي أن استردت الكتابين في أكتوبر هذا العام وأعادتهما إلي الرف في المكتبة الوطنية العامة. هكذا تكون كل ورقة من التراث القومي معركة جديرة بالقتال، لأنها ورقة من ذاكرة الوطن وتاريخه. وفي النمسا ، وطن الموسيقار " موتسارت" الذي غنت فيروز اللحن الأساسي من سيمفونيته رقم أربعين بكلمات عربية " يا أنا يا أنا وياك" أطلقوا اسم موتسارت على مطار مدينة " سالزبورج" التي ولد فيها الموسيقار العبقري، وأقاموا له تمثالا ضخما، وأطلقوا اسمه على أشهر أنواع الشيكولاطة، وحافظوا على بيته الذي نشأ فيه – ويرجع بناؤه للقرن الثاني عشر – حتى أمسى أحد أهم المعالم السياحية. وفي مدينة " بون" بألمانيا حيث ولد " بيتهوفن" أصبح بيته مزارا ومتحفا تحيطه الزهور ويقصده سنويا أكثر من مئة ألف إنسان، وحافظوا فيه على البيانو الأخير الذي كان يجلس إليه العبقري الأصم ليسمع العالم أجمل ما في قلبه من نغم. وكان ل " تشايكوفسكي" الموسيقار الروسي منزل عاش فيه فترة قصيرة في ضاحية تبعد عن العاصمة نحو تسعين كيلومترا، حولته السلطات إلي متحف يزوره الآلاف سنويا علاوة على متحفه بالعاصمة. أما البيت الذي ولد فيه سيد درويش في كوم الدكة بالاسكندرية فقد أمسى مجرد خرابة ومرعى للماعز بالمعنى الحرفي للكلمة، مع أن دور دور سيد درويش في حياتنا الثقافية وتشكيل الشعور القومي لا يقل عن دور أي من أولئك الموسيقيين العظام، وهو الذي انتقل بالموسيقا إلي"تعددية الأصوات" وقفز بها من الطابع الفردي إلي الطابع الجماعي ومن نغم المدينة إلي نغم الشعب بقدرة تصويرية فذة. وقد ترك لنا درويش ثروة تتألف من نحو 31 عملا غنائيا مسرحيا منها 12 أوبريت أشهرها        " العشرة الطيبة" و" الباروكة" و" شهرزاد"، مع 12 موشحا وعشرة أدوار، و66 طقطوقة ومونولوج، و12 نشيدا أشهرها " بلادي بلادي". وفي مارس القادم ستحل ذكرى مولد درويش المئة والرابعة والعشرون بينما مازالت الأوبرا تتجاهل تقديم أعماله إلي الأجيال الجديدة. وإذا كانوا في ألمانيا يطوقون منزل بيتهوفن بالزهور فإننا نحاصر بيت درويش في كوم الدكة بالماعز وكاوتش السيارات القديمة ونحوله إلي مخزن ومنشر لجلابيب أهل المنطقة، وخرابة! ولا يمكن أن نكون جادين في حديث – أي حديث- عن التنوير والثقافة وإن كنا نطمر أنوار ثقافتنا في الظلمة ونتركها نهبا للفئران والزواحف! تكفي أي إنسان زيارة واحدة لكوم الدكة ليرى بيت سيد درويش بنفسه ويتأسف على"آثارنا " التي ليست كتابا أو كتابين بل بيتا كاملا نمت بين جدرانه عبقرية مصرية فذة. وقد سبق لمحافظ الاسكندرية عادل لبيب أن أصدر قرار منذ خمسة أعوام بنزع ملكية البيت من الورثة لتحويله إلي متحف، وظلت التصريحات حبرا على ورق. ومؤخرا صرح مسئولون بمكتبة الاسكندرية بتصريحات مماثلة لا نلمس فيها هي الأخرى أية جدية. لقد بنى سيد درويش مجد مصر الموسيقى فخربت بيته، ترنم بمحبتها من كل قلبه: "بلادي.. بلادي"! وردا على المحبة طوقت بيته- ليس بالزهور- لكن بفضلات الماعز المقيمة!     

د. أحمد الخميسي . كاتب مصري

وسوم: العدد 644