مشاركة غير المسلمين في الشورى ومؤسساتها في الدولة الإسلامية
مشاركة غير المسلمين في الشورى ومؤسساتها
في الدولة الإسلامية
دندل جبر
إن الشورى هي إحدى الدعائم الأساسية في النظام الإسلامي، وميزة من ميزاته الخاصة، ومرتكز عظيم من مرتكزات الدولة الإسلامية.
والشورى في الإسلام لم تقتصر على جانب من جوانب الحياة، بل تناولت جميع شؤونها، في الحكم، والقضاء، واستنباط الأحكام، وفي الإدارة والتجارة والاقتصاد، وشؤون الحرب، والبيت والمجتمع، وبقية الأمور الخاصة والعامة التي تحتاج إلى مواقف وحلول في حياة الناس، أفراداً وجماعات ومؤسسات.
كانت الشورى في صدر الإسلام المتمثل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم مقصورة على المسلمين. ولهذا الأمر ما يسوغه، حيث إن المشركين ناصبوا الإسلام العداء منذ ظهوره، وحاولوا جهدهم عرقلة مسيرته بل كانوا حريصين على اجتثاثه، واستمر القتال بينهم وبين المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنين طويلة، وكذلك استحكم العداء في نفوس أهل الكتاب – وخاصة منهم اليهود – للإسلام والمسلمين في هذه المرحلة – عدا الفترة الوجيزة التي حكمتها وثيقة المدينة المنورة بين الرسول صلى الله عليه وسلم واليهود، والتي أنهتها خيانات اليهود وغدرهم ونقضهم لهذه الوثيقة – ونتيجة هذا العداء كانت هناك معارك كثيرة بين المسلمين واليهود، انتهت بانتصار الإسلام وإمساكه بزمام الأمور في الجزيرة العربية.
ولكن فترة التنافر والعداء هذه كانت مرحلة مؤقتة، حيث استقر الأمر – بعد ذلك – للإسلام وتعايش المسلمون مع الأقليات الدينية من غير المسلمين – في دولة واحدة وعلى أرض واحدة وداخل وطن واحد، وأصبح مصيرهم واحداً، ونشأت بينهم أواصر التعاون لتحقيق الأهداف المشتركة تحت مظلة الحكم الإسلامي الذي حقق العدل والمساواة لجميع رعايا الدولة الإسلامية من مسلمين وغير مسلمين.
وتقسم مشاركة غير المسلمين في الشورى إلى قسمين:
الأول: حق الانتخاب، أي هل يجوز لغير المسلم أن يشارك في انتخاب أعضاء أو مسؤولي مؤسسات الدولة، وخاصة أعضاء مجلس الشورى الإسلامي، أو أعضاء المجالس النيابية.
الثاني: حق الترشيح لعضوية هذه المؤسسات الشورية.
وسيكون حديثنا في القسمين موحداً لأن كثيراً ممن تحدث في هذا الموضوع قد جمع بينهما.
ومن الأدلة على جواز مشاركة غير المسلمين في عضوية المؤسسات الشورية:
1- قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (النحل – 43) (الأنبياء – 7) هذه الآية تأمر بسؤال المختصين وأهل المعرفة والعلم، وقد وردت في أهل الكتاب خاصة، كما ذهب إليه أكثر المفسدين، والنص يدل بعمومه على جواز استشارة غير المسلم لأخذ الرأي منه.
- قال الزمخشري: "أمرهم أن يستعلموا أهل الذكر، وهم أهل الكتاب حتى يعلموهم أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشراً" (تفسير الزمخشري – جـــــ2 ص562).
- وقال الطبري: "فاسألوا أهل الكتاب من التوارة والإنجيل" ونقل عن قتادة أنه قال: "فاسألوا أهل التوراة والإنجيل" ونقل عن جابر الجعفي وابن زيد: "وقيل أهل الذكر أهل القرآن" (تفسير الطبري – جــــ 17 ص5).
- وقال ابن كثير: "أي اسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف" (تفسير ابن كثير – جــــ 3 ص215).
- وقال القاسمي: "أي العلماء بالتوراة
الإنجيل..." ثم قال: "وفي الآية دليل على جواز الاستظهار بأقوال أهل الكتاب
ومروياتهم لحجّ الخصم وإقناعه".
(تفسير القاسمي – جــــ 11 ص4251).
ب- وقال جل شأنه: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) (النساء – 83).
وقد فسر العلماء قديماً (أولي الأمر) بالأمراء والحكام والعلماء بينما فسرها العلماء المحدثون بأوسع من ذلك مما يشمل أهل الاختصاص والمعرفة عامة. (الدكتور محمد الزحيلي – الإسلام والذمة – المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية – مؤسسة آل البيت – سلسلة معاملة غير المسلمين في الإسلام – جــــ 1 ص1- عمان – 1989م).
وقد نقل الدكتور محمد الزحيلي عن بعض العلماء ممن توسعوا في المراد من (أولي الأمر) (المصدر السابق نفسه).
ومما ورد في نقله:
- "قال الشيخ محمد عبده: "إن أولي الأمر في زماننا هذا هم كبار العلماء ورؤساء الجند والقضاة وكبار التجار والزراع وأصحاب المصالح العامة، ومديرو الجمعيات والشركات وزعماء الأحزاب، ونابغو الكتاب والأطباء والمحامين الذين تثق بهم الأمة في مصالحها، وترجع إليهم في مشكلاتها" وقال أيضاً: "أهل الذكر منهم يعني أولي الأمر، وهم أهل العلم والرأي في مصالح الأمة". (محمد رشيد رضا – تفسير المنار – جــــ5 ص181 و 198 وجــــ4 ص25).
- وقال الشيخ محمود شلتوت: "أولو الأمر هم أهل النظر الذين عرفوا في الأمة بكمال الاختصاص في بحث الشؤون وإدارة المصالح والغيرة عليها، وفي الأمة جوانب متعددة بتعدد عناصر الحياة كالجيش والأمن والقضاء والمال والاقتصاد والسياسة الخارجية، ولكل جانب رجال عرفوا فيه بنضج الآراء وعظيم الآثار، وهؤلاء الرجال هم أولو الأمر في الأمة وليس أولو الأمر خصوص الحكام والفقهاء" (الإسلام عقيدة وشريعة – الشيخ محمود شلتوت – ص371).
ثم يقول الدكتور محمد الزحيلي بعد أن يورد هذه الأقوال وغيرها:
"وهذه الأوصاف لأهل الاختصاص والخبرة، وأهل العلم والمعرفة وأصحاب المهن الفنية وغيرها تشمل المسلمين وغير المسلمين، ولذلك فلا مانع من استشارة غير المسلمين في هذه الشؤون الفنية والعلمية والاستعانة بهم في مؤسسات الشورى" (الدكتور محمد الزحيلي – المصدر السابق – جــــــ1 ص161).
ومن أقوال بعض العلماء والمفكرين المسلمين المعاصرين:
- يقول الدكتور عبد الكريم زيدان: "يتضح لنا بجلاء أن اختلاف الذميين (الأقليات الدينية) مع المسلمين في العقيدة لم يقم حائلاً دون إشراكهم في إدارة شؤون الدولة، وتكليفهم بوظائفها" ثم يقول: "مع هذا نجد دولة الإسلام بتوجيه من الإسلام تتسع لغير المسلمين، وتفتح صدرها لهم ولا تضيق بهم، بل تشركهم في أعباء الدولة والمساهمة في إدارة شؤونها" (الدكتور عبد الكريم زيدان – أحكام الذميين والمستأمنين – ص84).
ثم يقول في موضع آخر مؤكداً جواز انتخاب ممثليهم في المجلس النيابي وترشيح أنفسهم لعضويته: "أما انتخاب ممثليهم في مجلس الأمة، وترشيح أنفسهم لعضويته، فنرى جواز ذلك أيضاً لأن العضوية في مجلس الأمة تفيد إبداء الرأي وتقديم النصح للحكومة وعرض مشاكل الناخبين، ونحو ذلك، وهذه الأمور لا مانع من قيام الذميين بها ومساهمتهم فيها" (الدكتور عبد الكريم زيدان – المصدر السابق – ص84).
- ويقول الدكتور توفيق الشاوي: "إن الشورى تفرض مساهمة جميع أفراد المجتمع وتعاونهم في اتخاذ القرارات ولذلك تضمن لهم جميعاً بما فيهم الطوائف أو الأقليات حق الحوار الحر، ومناقشة الحجج والمبررات التي يقدمها المتشاورون لأنه حوار يدور حول القيمة الموضوعية لكل رأي أي مدى تحقيقه لمبادئ الحق والعدل لا إلى مجرد إرادة الأغلبية أو من يدعون تمثيلها". (فقه الشورى والاستشارة للدكتور توفيق الشاوي – طـــــ2 – 1413هــــــ - 1992م – ص84 – 85).
- ويرى الدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد: "أنه يصح في العصر الحديث استشارة الذمي في الأمور الدنيوية كالمسائل التجارية والصناعية والتشريعية والعلمية طالما أنها لا تتصل بشؤون الدين أو بأحكام الشريعة" (مبدأ المساواة في الإسلام للدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد – ص143).
- ويؤكد هذا الرأي الدكتور عبد الحكيم حسن العيلي بقوله: "ولم يثبت في صدر الإسلام اشتراك الذميين في البيعة أو الشورى. وقد كان ذلك متمشياً مع ظروف بدء الإسلام وإحاطة الدولة الإسلامية بأعدائها من اليهود والروم المسيحية.. مما لم يكن مقبولاً أن يلجأ النبي والخلفاء بعده إلى استشارة أهل الذمة ولكن الخلفاء في العصور اللاحقة كانوا يستشيرون أهل الذمة في الشؤون التي لا تتعلق بالعقيدة – ولم يرد في القرآن والسنة نصوص تمنع ذلك مما يرجح أن المنع كان – مرحلياً – ينتهي بزوال أسبابه.. ولذلك فلا نرى مانعاً في عصرنا الحاضر من مشاركة أهل الذمة للمسلمين في حق الشورى والانتخاب فيما لا يختص بشؤون العقيدة وما يتصل بها" (الحريات العامة للدكتور عبد الحكيم حسن العيلي – ص431).
- ويقول الدكتور محمود الخالدي: "أباح الشرع لغير المسلم أن يبدي رأيه في تطبيق أحكام الإسلام عليه، وفيما يلحقه من ظلم الحاكم... ولذلك كان له أن يوكل عنه من يشاء في الرأي، مسلماً أو غير مسلم، وأن يكون هو وكيلاً عن جماعته وقومه، وقد أباح الله سؤال أهل الكتاب عما لا نعلم، بقوله: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (النحل – 43) (الأنبياء – 7).
- وبالنظر لما تقدم من الأدلة وآراء الفقهاء والعلماء والمفكرين والمتقدمين والمعاصرين أن الذي أراه في هذا الموضوع:
1- إمكان مشاركة المواطنين غير المسلمين في المجتمع الإسلامي بأعضاء يمثلونهم في مجالس الشورى أو المجالس النيابية على أن يكون هؤلاء الممثلون لهم بمثابة مراقبين حين مناقشة الأمور والقضايا التي لها صفة دينية تشريعية أو عقائدية إسلامية وعدم التصويت عليها من قبلهم، أو عدم حضورهم لمثل هذه المناقشات لهذه الأمور.
2- كما أنه من الممكن مشاركتهم في المجالس أو اللجان الاستشارية التخصصية التي تعتبر قراراتها بمثابة اقتراح أو توصية إلى أصحاب القرار في مجلس الشورى أو المجلس النيابي أو مؤسسات السلطة التنفيذية صاحبة القرار النهائي في الأمور المطروحة عليها.