إلى من يهمه الأمرُ (أمرُ سوريةَ وشَعبِها)
عندما قامت الثورة السورية سنة 2011 تداعى كثير من السوريين من اجل تأسيس ما عرف في حينه باسم ( المجلس الوطني) وقد حرص المؤتمرون أن تكون واجهته مقبولة دوليا، بالرغم مما اتسموا به من استقلالية.
ووقتها أحسنّا الظن بهم.
وبعد حين من الزمن عُدًّ ذلك المجلس قاصرا- من وجهة نظر آخرين- و أنه لم يستوعب المكونات السورية المختلفة، فتداعوا إلى تأسيس كيان آخر- أكثر قبولا بالنسبة لهم- فأنشأوا مايسمى ب ( الائتلاف الوطني) السوري. وقد حرص المؤتمرون كذلك أن تكون واجهته مقبولة دوليا.
ووقتها سلّمنا جدلا. و قلنا : لعل الله أن يحدث بعد ذلك أمرا.
وقد تمخض الائتلاف بعدئذ، عن حكومة وطنية مؤقتة و عن دوائر سياسية و إعلامية كانت لها أنشطتها في الداخل و الخارج، إلا أنه كسابقه لم يعجب اللاعبين الدوليين و مع ذلك فشل في أن يرتقي إلى مستوى المسؤولية فأساء بدل من أن ينفع و تلك كانت إحدى الكٍبَر بالنسبة لنا.
وقد رسمنا وقتها أكثر من إشارة استفهام حول ذلك الفشل الذي باءت به تلك الحكومة المصنوعة. و بعد استفحال المسألة" ووصول القضية السورية إلى أروقة الأمم المتحدة، تبين أن المجتمع الدولي نفسه ضالع فيها، و أن ثمت محططا قد يكون قيد التنفيذ في المنظقة. و أنه قد يكون جزءا من مخطط الشرق الأوسط الجديد.
و بعد جنيف 3 تبين للعيان أن هناك تآمرا كبيرا على الشعب السوري من قبل الأطراف التي تزعم أنها تناصر القضية السورية و أن الذين كانوا يتباكون على الشعب السوري و يحاولون إيجاد الحلول لسورية و شعبها ليسوا أقل من أعداء خقيقين لسورية و لشعبها و لثورتها المقدسة.
و قد أصبحنا بعد ذلك أكثر لوما للسياسيين الذين خدعوا بالغرب و بمخططاته.
ومن خلال استعراض ميكرو فيلم مصغر عن القضية السورية و الوقوف على مافيه من حيثيات يلاحظ و بدقة أن مصدرر الخلل يعود للصيغ الجاهزة التي فرضت على السوريين أو استجروا إليها جرا و أن ذلك يعود لأسباب خمسة:
السبب الأول: يتعلق بالسوريين أنفسهم ممن تداعوا إلى العمل الثوري داخل سورية و خارجها، و أكثرهم ليس ثوريا، و كثير منهم قد يكون متسلقا وركاب موجة، و بعضهم ينفذ أجندة خارجية أو داخلية معادية لسورية و لشعبها. و لثورتها المباركة.
السبب الثاني: يتعلق ب( اللاعبين الدوليين) و قد تبين و بالقرائن الدالة أنهم يتحركون على وفق مخطط صهيو إيراني، تتعهده و تقوم بتنفيذه أطراف دولية عدة. و تعد إيران و روسيا من اللاعبين على الساحة السورية. و تختص أمريكا برسم سيناريو ذلك و إخراجه بصيغه الخداعة و المضللة.
السبب الثالث: يتعلق بأصدقاء سورية، و هم كثير، و غالبيتهم يتبنون أجندة خارجية معدة مسبقا، مع تظاهرهم بمناصرة الشعب السوري و مساندته في محنته، و هي مسألة شابها كثير من الغموض. بل و كثير منهم لعب دورا فاعلا في إجهاض العمل الثوري، و في إيصال سورية إلى ماوصلت إليه، مع زعمه صداقة سورية و شعبها.
السبب الرابع: الثقة بأمريكا، و الائتمار بأمرها و تنفيذ أجندتها، و بالرغم من تبنيها (مشروع الشرق الأوسط الجديد) الذي لايقتصر على السوريين حسب، و إنما يشمل دول المنطقة كلها. ومنها الدول التي تحسب على أمريكا، أو تعد من المنفذين الرئيسيين لسياساتها في المنطقة.
السبب الخامس: و هو موضوعي يتعلق بحالة الخداع التي خدع بها المعارضة السورية ، و التي حعلتها تمد يدها إلى من يريد قتلها، فتسمع نصحه، و تأحذ به و أكثره يتبع بأجندته المخطط الصهيو إيراني. و يتجلى ذلك في تقليعة مايسمى بالحرب على الإرهاب و بالتشدد الديني، و بالتكفير إلى غير ذلك مما يزعم اللاعبون الدوليون أنهم ضده الأمر الذي قاد بعد إلى الاقتتال الداخلي و إلى التشرذم، و إلى الانشغال بالعدو، فنشأ عن ذلك وضع من الضعف العام، أقل مايقال فيه أنه غير صحيح وفاسد، و أنه نتاج مؤامرة يشترك فيها الأعداء و الأصدقاء معا.
وهذه الأسباب مجتمعة، هي التي وضعت أكثر السياسيين السوريين في خانة المفلسين دوليا، وقد أساؤا للقضية السورية بدلا من أن يحسنوا إليها، وقد حولوا أمرها إلى ضعف بعد قوة!! و ذلك بسبب غبائهم، و قصر نظرهم، و عدم قدرتهم على تحمل المسؤولية.
وتعد مهزلة جنيف3 - و هي القشة التي كسرت ظهر البعير – آخر ورقة توت سقطت عن سوءة أولئك الذين أحسنوا الظن بأعدائهم. وقد تبع ذلك توقف المفاوضات، و العودة بخفي حنين. و انتظار الأسوء مما سيحدث على الساحة السورية. وهذا بدوره قادنا إلى الحقيقتين التاليتين:
الحقيقة الأولى: أن الشرذمة و قد كانت أمرا واقعا قادت إلى الضعف الذي أصبح حقيقة واقعة على الساحة السورية كلها.
الحقيقة الثانية: أن التدخل الخارجي في الشأن السوري قاد إلى الارتباط بالخارج و الائتمار بأمره و هو أمر قاد إلى الضعف كذلك.
و هاتان الحقيقتان و قد كانتا قدر الشعب السوري ساعدتا النظام على إعادة إمساكه بعصا القوة، و على إطالة مدة بقائه في الحكم.
وقد قادتنا رؤيتنا هذه إلى أمور أربع مرتبطة ببعضها. و هذه الأمور هي:
الأمر الأول-: و هو أمر إيماني بحت. يوجب علينا ضرورة العودة إلى الله و الاتكال عليه. و الانشغال به دون سواه.
و علينا أن تكون عودتنا إلى الله بإيمان العارفين ممن تستنير قلوبهم بتقوى الله و تهتدي يهدايته فنحاسب أنفسنا أولا، و نقوّم سلوكنا ثانيا، و نقيم علاقتنا مع الناس على أساس من ذلك ثالثا. ولقد ترك لنا علماؤنا من الفهم الواضح لكتاب الله وسنة رسوله في مختلف العلوم و الفنون مايكفي الإنسان المسلم إذا أراد التوجه إلى الله حقيقة وإذا ما قرّر ربط حبله به قبل أن يربط نفسه بأي حبل آخر.
و الفهم الصحيح من طبيعته أن يقود إلى العمل الصحيح ولذلك كان التوجه إلى الله أولا هو المبتدأ. وبدونه كل عمل أبتر، و كل عمل أبتر لم يذكر اسم الله عليه لابد إلا أن يؤدي إلى الهلاك و العياذ بالله سبحانه.
الأمر الثاني- الاعتماد على الذات: و توطين النفس على التفكير بالقدرات الشخصية أولا، و عدم جعلها تعتمد على الآخرين- فالاعتماد على الأجنبي و التطلع إلى مافي يده يجعل صاحب القضية مرتبطا بغيره، و هذه بدورها تقود إلى التبعية و ليس أخطر من التبعية و لا أضل منها طريقا. ولذلك فإن المشاريع الناجحة هي التي يكون رأسمالها شخصيا، و تكون محكومة بقرارات أصحابها، و بإرادتهم. و لا نظن أن أمرا ما أضّرَ أو يمكن يضرَّ أكثر من الارتباط بالأجنبي أو الارتهان لقراراته كائنة ما كانت تلك القرارات. و هذه المسألة هي التي يجب أن تكون موضع نظر رجال الأعمال من الذين يتبوأون الصدارة من القادة و المسؤولين، ممن استنارت بصائرهم، وممن وطنوا أنفسهم أن يكونوا صالحين و مهتدين في تصرفاتهم كافة. فتصدر آراؤهم عن تجرد و فهم موضوعيين جدا.
الأمر الثالث- الثبات على الموقف: و هو سمة الصادقين من رجال الدعوات، و أصحاب الرأي بعامة. و في المحن، و في أوقات الشدة،يبقى الثبات على الموقف هو العصمة من الزيغ أو الانحراف أو التفلت، كما أنه يؤدي إلى قوة الجماعة و صمودها في وجه المتغيرات التي قد لاتكون سهلة. و في سيرة النبي صلى الله عليه و سلم و هو يرد عرض قريش" و الله ياعم لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري ماتركت هذا الأمر ختى يظهره الله أو أهلك دونه" الأسوة الحسنة لأصحاب المواقف بعامة. وليس أعظم اليوم من رجل موقف في موقفه: أن يكون صابرا محتسبا، و أن يكون حريصا على ذلك الموقف حرص الغيارى، الذين لايضرهم من خالفهم، و لا يفتّ بعضدهم، و لايوهن قواهم، ضعف او شدة كان ما كان من تقلب الأمور ومن اشتداد و طأتها و جبروتها، ماداموا يستمدون قوتهم، من صدق موقفهم، و من عدالة قضيتهم، ومن فهمهم الصحيح لحقيقة ماهم فيه و ماهم مقبلون عليه من أزمات. و فضلا عن ذلك فهو التزام خاص بموقف خاص به يشرف الإنسان و يمجد في حياته كلها. وبسبب ذلك الالتزام الذي يجعله من أصحاب المواقف المشرفة، يعرف الحق و يلتزم به و يدور معه حيث دار و هو التزام عام بموقف عام به تكرم الحياة بقيم الشرف و الفضيلة التي ينافح عنها المجاهدون، و هي بمعناها الحق عقد حماعة تضطلع بما أمر الله به و لايضرها من خالفها مادامت على الحق و من أجله تضحي و تكافح.
و الخلل يعقد الجماعة و بوحدتها هو من صفة المهزومين و الفاشلين و المهزوزين فكريا و المشوهين عقليا و المنحرفين.
و مخاطر أن يكون الإنسان مهزوزا كمخاطره أن يكون مهزوما، و في كلا الحالين تكون الخسارة شخصية و عامة، و هو مايجب أن يحذره الإنسان سيما في مثل هذه الأوقات، و قد أصبح الكذابون و المنحرفون هم الأروج بضاعة، بالرغم من تكشف كذبهم و انحرافهم، و بيان ماهم فيه من مواقف باطلة.
و في الختام فإن هذه الأمور الثلاثة- رسالة موجهة إلى من يهمه أمر هذه الأمة من الصديقين الصالحين، عسى و لعل- و هذا من الطموح الشخصي- أن يعيد كل منا حسابه ليجدد علاقته مع ربه، و ليعيد النظر في موقفه، و في علاقته مع الآخرين، و لما يجب أن يفعله في القادم من هذه الأيام بعد تكشف الأمور و بلوغها المستوى الذي بلغته في الداخل و الخارج.
أ.د.عبد العزيز الحاج مصطفى
مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية
وسوم: العدد 655