تداعيات من إسماعيل مظهر

كتب إسماعيل مظهر، مترجم «أصل الأنواع» لدارون، وصاحب مجلة «العصور» وأحد أبرز المنادين بالعلمانية في مطلع شبابه، مقالة في مجلة «المقتطف» المصرية عام 1946 بعنوان: «بلاد العرب للعرب»، يذهب فيها إلى ان «الإسلام فكرة جامعة تجمع الدين والدولة في فكرة واحدة هي فكرة الدفاع عن المجموع الذي يستظل بظلّ الإسلام، مهما تفرّقت فيه النّحَلُ واختلفت المذاهب وتباينت النزعات، كما يقول انه اذا كانت حكومات المسلمين في هذا العصر قد اضطرت مغلوبة على أمرها إلى مجاراة روح النظام في المدن الاوروبية، ففصلت بين الدين والدولة زوراً، فان هذا الفصل ينبغي ان لا يتعدى كونه فصلاً في الأوضاع لا في الروح.

ثم كتب إسماعيل مظهر، بعد ذلك بستة عشر عاماً، في كتابه: «الإسلام لا الشيوعية» انه قبل الرسالة الإسلامية لم يعرف الناس معنى «الإنسانية» وان الإسلام هو اول الرسالات «الإنسانية»، وأنّه «دين إنساني يجمع بين مصالح البشر وينشد سعادتهم، وان ذلك كله في حدود الفطرة.. «في حدود الحرية الكاملة والإستقلال التام، فلا اكراه في الدين، وبالتبعية لا اكراه في الدولة».

ف «إنسانية الإسلام» كما يراها إسماعيل مظهر، تُقدّس حياة الفرد وكرامته وحرّيته، وتقيم العدل بين الناس، وتساوي في الحقوق بينهم اجمعين، وتجعل شريعة الإسلام في خدمة غير المسلم، تقيم له العدل، وتنصب له ميزان الانصاف، وتضمن له «إنسانيته» في ظل السماحة والمساواة والحرية غير موزونة بميزانين ولا مكيلة بمكيالين.

ان رسالة الإسلام كما يراها إسماعيل مظهر، اذ استوى ناضج الفكر، بعد تجربته العلمانية «رسالة للناس كافة، والرسول رسول للناس أجمعين، والفرقان نذير للعالمين، لا للعرب وحدهم، ولا للعجم وحدهم، ولا لجيل بعينه من أجيال البشر، انه كتاب للإنسانية يدعو الناس للأخوّة، ويدعوهم إلى الحرية والمساواة في الحقوق والى العيش متعاونين متكافلين، داعين إلى الخير منّاعين للشر.

ثم يورد إسماعيل مظهر ما قاله محمد اسعاف النشاشيبي في كتابه «الإسلام الصحيح» من أنّ الإسلام دين العِزّة وان «الضعيف بالإسلام قوي، والفقير بالإسلام غني، وكل مسلم بالإسلام عزيز لن يهون».

هذا بعض ما جاء في كتاب إسماعيل مظهر «الإسلام لا الشيوعية» الصادر عام 1964م وهو وارد في سياق حديث مستفيض عن الإسلام والشيوعية استغرق مئة واربعين صفحة، وغلب عليه – على أهمية كثير مما جاء فيه – طابع الدعاية، وتوكيد ان الإسلام صخرة سوف تتحطم عليها الشيوعية والاستعمار لا شبهة في ذلك عنده، بل وضوح، وقول فصل، وتصريح.

ومن يقرأ هذا الكتاب، لإسماعيل مظهر في «مهاجمة» الشيوعية، ويقرأ ما كتبه «العقاد» في نقض أصولها الفلسفية، يعجب للفارق بين منهجيْ الرجلين، مع أنهما كانا علمانييْن أول امرهما، ثم انتهيا إلى ان يكونا من المدافعين عن الإسلام، كلّ على طريقته وبحسب شخصيته.

والذي نفيده من هذا كله، انه لا بدّ من القراءة الموضوعية للتجربة الشيوعية، اذ هي – مهما يكن من أمر مخالفتنا لما احتملته من أفكار وممارسات – تجربة «إنسانية» وضعيّة يجب الاعتبار بها.

وفي الحق أنّ في وسعنا اليوم ان نقرأ، وبهدوء، هذه التجربة وان نكون ظاهرين على أعمال كبار منظّريها، وان نضعها في سياقها التاريخي، وان نرى ما لها وما عليها في ضوء موازين دقيقة وبمبعدة عن دواعي الرضى والغضب وسائر الانفعالات التي قد تُخسر موازين التقييم.

نقول هذا ونحن واثقون من أن النظر الموضوعي كفيل ببيان الفارق بين الإسلام وبين سائر الدعاوى الدينية والايديولوجية في تاريخ البشرية، وانّ منطق الحق وحده هو القادر على «الاعلام بمناقب الإسلام» كما جاء في كتاب ابي الحسن العامري الذي حمل هذا العنوان الجميل.

ومهما يكن الأمر فأنّ نُذُرَ «سقوط الرأسمالية» متتابعة، وان مصيرها هو نفسه مصير الشيوعية، ولا بُدّ للإنسانية من ان تستظل بالدين وقيمه، وبما يحققه لها من كرامة واعتبار.

وسوم: العدد 659