كلمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمام منظمة التعاون الإسلامي الرؤية و المفهوم

أ.د.عبد العزيز الحاج مصطفى

 مثّلت كلمة فخامة الرئيس التركي السيد رجب طيب أردوغان، في قمة منظمة التعاون الإسلامي، التي عقدت في إسطنبول بتاريخ14/04/2016 كشفاً جديداً في عالم السياسة،وقد استطاعت أن تشخص العلل و الأمراض، التي يعاني منها العالم الإسلامي، و أن تقدم المقترحات و الحلول، التي يمكن أن تعالج حالات القصور و الضعف فيه، و أن تضطلع بالدور الفاعل،من أجل معالجة الأوضاع المتردية، وذلك بعيدًا عن العفوية و الارتجال ، و من خلال رؤية فاهمة للأوضاع الإسلامية بعامة. و قد شملت رؤى ثلاثاً:

 الرؤية الأولى ـــ تتعلق بالمشكلات التي يعاني منها العالم الإسلامي و هي عنده تصدر عن وجهة نظر موضوعية تنحصر في مشكلات أربع :

 المشكلة الأولى ـــ تتمثّل بالإرهاب : و الإرهاب من وجهة نظره مشكلة عامة أكثر ما يتأذى منها العالم الإسلامي. و هي أكثر ماتقع في بلاد المسلمين، و قد أهرقت جرّاء رؤاها المنحرفة دماء، و أزهقت أرواح و أتلفت ممتلكات، و خرّبت بنى الامة في حاجة إليها و بالرغم من تعرض بعض دول العالم لبعض النشاطات الإرهابية إلا أن غالبية ذلك وقع في العالم الإسلامي. و هذا يتطلب من وجهة نظر موضو عية مواجهة جادة و صارمة، و مواقف أكثر حزما من الإرهابيين الذين أضروا بالعالم الإسلامي بخاصة و بالعالم بعامة. و قد خلفوا جراحا لا تندمل في البلاد التي نشطوا فيها. و قد أساؤا بذلك للإسلام الحنيف الذي يصدر عن التعاليم السمحة التي تمثل الرجمة المهداة للبشر جمعيا.

 المشكلة الثانية_ الطائفية: و الطائفية واقع مرير يعيشه الناس في بلدان كثيرة، و هي إحدى حالات النشاز التي ضربت المجتمعات البشرية قديما وحديثا أو العلل التي يعانون منها و قد ألحقت ضررا بالعالم الإسلامي، و عملت على تفكيك بناه السياسية و تمزيق نسيجه الاجتماعي و شلّه و تعطيل مرافق الحياة فيه. الأمر الذي يتطلب منا جمعيا أن نواجهه بالإجراء الحازم الذي يقتل الرؤى المنحرفة في مهدها، و يمنع الطائفيين من أن يحققوا أحلامهم المريضة في مجتمعاتهم. و قد كانت الطائفية و لاتزال في بلاد المسلمين بعامة المشكلة الأم التي تصدر عنها المشاكل جمعيا فالإرهاب الذي تحدثنا عنه آنفا،هو وليد الطائفية، أو هو بعض نتاجها و ذلك بسبب الأفعال و ردود الأفعال التي قد تكون دامية في بعض الأوقات، و قد تأذى منها بشر كثيرون ممن ليسوا في دائرتها، و مثالنا على ذلك تفجيرات أنقرة و اسطنبول و بروكسل و باريس، و قد أزهقت فيها أرواح كثيرة و هي_ بالتأكيد_ لا علاقة لها بالإرهاب أو الطائفية من قريب أو بعيد. وعلى أساس من ذلك يكون هم السيد أردوغان الشخصي يتمثّل في مكافحة الإرهاب و في معالجة الطائفية، و في مواجهة الرؤى المنحرفة التي تصدر عن ذلك.

 المشكلة الثالثة_المظلومية: و المظلومية واقع مرير يطال العالم الإسلامي. وواجهة ذلك عند أهل الرأي سياسة الكيل بمكيالين و العمل بوجهين . و الموقف الدولي من القضية السورية و من القضية الفلسطنية و من الإرهاب الصهيوني في فلسطين يؤكد حقيقة تلك المظلومية. التي قد تكون إحدى البؤر التي تغذي الإرهاب و التي تعمل على توسيع دائرته و مدّه إلى ما هو أبعد. و هذه الرؤية _ و هي حقيقة واقعة_ يجب أن تصارح بها الدول الغربية بعامة التي يجب أن تعلم أن سياساتها غير المتوازنة، هي التي جعلت كثيرا من الشباب ينخرطون في الإرهاب ويصبحون بعضا من أدواته ، بالرغم مما فيه من تأذٍ، لا يختلف حول أذيته اثنان في شرق أو غرب. و الحديث عن المظلومين أمام قمة التعاون الإسلامي، سيجعل من المسألة مهمة خاصة للتفكير بها بجد، و للتعامل معها بصدق وموضوعية قصد إزاحة كابوسها عن العالم الإسلامي، الذي كتب عليه أن يواجهها و أن يتحمل تبعاتها ، الأمر الذي يعد مشكلة بحد ذاته. فالصداقة مع الغرب يجب أن يعقبها رفع المظلومية أولاً، و ذلك من أجل بناء علاقات وطيدة مع نلك الدول التي تعدّ_ و هي قناعة إسلامية_ متورطة في المظلومية و إلى درجة كبيرة جدا.

 المشكلة الرابعة_ مشكلة اللجوء: و مشكلة اللجوءهذه_ أكثر ماتعاني منها اليوم الدول الأوربية_ وهي تصدر على وفق التقديرات كافة عن طائفية مقيتة أدّت إلى أن يترك الناس بلداتهم، و أن يتحوّلوا إلى لاجئين يمدون أكفهم إلى الناس. وهي مشكلة كما يرى السيد أردوغان تتطلب منا التفكير بعمق. و التفكير بعمق يتطلب البحث في الأسباب المباشرة و غير المباشرة التي أدّت إلى ذلك اللجوء، و إلى البحث عن الحلول المنجعة التي تعمل على تجفيف منابعها و هذه المسألة لاتكون إلا بالقضاء على الأفعى ذات الرأسين التي تتمثّل بالإرهاب و الطائفية. و هي مسألة من شأنها أن تعيدنا إلى المربع الأول ، إلى الإرهاب و الطائفية ، و هما وجهان لعملة واحدة. و هذه الرؤية تضع السياسة الدولية أمام موقف حرج. فبدعمها للطائفية و بتبنيها المشاريع الهدامة في بلاد المسلمين، ساهمت إلى حد كبير بإشعال الحروب الأهلية، و بتحوّل جماعات كثيرة من البشر إلى إرهابيين . و بمتوالية موضوعية نستطيع ان نقول: إن الطائفية تؤدي إلى الإرهاب و إن الإرهاب يؤدي إلى المظلومية، و إن المظلومية و هي نتاج كل ذلك تؤدي إلى اللجوء و تشخيص السيد أردوغان لهذه المشاكل بعامة يصدر عن خاصتين

 الخاصة الأولى ـــ تتعلق بالمعرفة الواسعة التي يملكها ذلك الرجل، و بما هو عليه من ثقافة. و الخاصة الثانية ـــ تتعلق بشجاعته الشخصية و بمقدرته على الطرح الموضوعي. و المتتبع لحديثه أمام قمة التعاون الإسلامي يدرك ذلك و بوضوح.

 الرؤية الثانية_ تتعلق بحالة الهضم التي يشهدها العالم الإسلامي: و كائنا ما كان ذلك الهضم فهو بمثابة حقيقة واقعة في كل بلاد المسلمين و دون استثناء، و حالة الهضم هذه تتمثل في مظاهر ثلاث:

 المظهر الأول يتمثّل بعدم الجدية في حل المشكلات العالقة و منها الإرهاب . و عدم جديتها في مكافحة الإرهاب تتعلق بعدم رغبتها في البحث عن أسبابه الأولية، و عدم معالجة تلك الأسباب معالجة موضوعية و علمية، و بتجرد عن السياسات التي تركض وراء مصالحها، أكثر مما تركض وراء ضمائرها التي و بالتأكيد تؤنبها على مواقفها الخاطئة ، و على ماهي عليه من عدم مصداقية في تلك المواقف. و النظر في الإرهاب أولا، و في الطائفية ثانيا، و في القضايا الإسلامية المعلقة ثالثا يؤكد صحة ما نذهب إليه من رأي.

 المظهر الثاني_ يتمثل في الإسلام فوبيا: و الذي أدى إلى نمو مشاعر الكراهية ضد المسلمين في المجتمعات الغربية بخاصة و هي مشاعر و إن كانت تصدر عن اليمين المتطرف الذي ينشط في أوربا حاليا إلا أنها كذلك تصدر بسبب تلك السياسات التي تعد غير متوازنة في مواقفها مع المسلمين و التي أدّت إلى نمو تلك المشاعر و إلى زيادتها، و هي تعد بمثابة الحقيقة الواقعة التي لاتحناج إلى دليل. وليس أضر من الأفعال وردود الأفعال سيما إذا كانت تصدر عن مشكلة واحدة .

 المظهر الثالث_ يتعلق بتمثيل المسلمين في المنظمات الدولية و منها الأمم المتحدة و مجلس الأمن. و إذ علمنا أن عدد سكان العالم الإسلامي قد تجاوز ربع سكان العالم. و هي مسألة إحصائية، يكون من الحق أن يُمَثَّل المسلمون بمقعد دائم العضوية في مجلس الأمن، و هذا مالم يحدث. و هو الذي قاد و يقود إلى شعور بالهضم، و إلى عدم القناعة بذلك المجلس، و حتى بالمنظمة الدولية التي تهيمن عليها قوى متغطرسة تحتكم إلى القوة أكثر مما تحتكم إلى الحق، و هذه هي إحدى مصائب المسلمين، و ماهم واقعين فيه من هضم و إشكال.

 الرؤية الثالثة تتعلق بالأفكار المستجدة عنده: و هي تصدر عن معرفة موضوعية، للعلاقة غير المتوازنة مع الدول الغربية بحاصة و لما في العالم الإسلامي كذلك من أمراض و علل و مشكلات عالقة، تتطلب حلولا منجعة و لما هو في مستوى الطموح من رقي و تقدم لدول العالم الإسلامي كافة و هذه الرؤى تتمثل في:

الرغبة في إصلاح بنية الأمم المتحدة، و جعلها تتسع لأعضائها كافة، مع الأخذ في الحساب العدد السكاني لتلك البلدان و المساحة التي تشغلها كذلك. و عدم تركها شلّاء و بحكم الضعيف و القاصر، الذي يستجدي المانحين بالرغم من ثرواته الكثيرة، و إمكانيته الضخمة. و ماهو عليه من فائض. الرغبة في إقامة نظام تحكيم إسلامي خاص، و في إقامة محكمة إسلامية خاصة يكون مقرها إسطنبول،و ذلك من أجل حل الخلافات التي قد تنشأ بين الدول الإسلامية بعضها من بعض، أو بين الشعوب و حكامها و هي مسألة غاية في الأهمية، فمشكلات المسلمين يجب أن تحل من قبل المسلمين، و هي رؤية تنبع من الواقع الذي يعيشه المسلمون، و من حالة الشعور بالغبن و الهضم التي يعيشونها حاليا. و محكمة لاهاي التي لم تبت بقضية الحريري بعد أكبر دليل على ذلك. الرغبة في حل المشكلة الفلسطينية على أساس من حلّ الدولتين و ذلك بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، و عدم ترك أمر الفلسطينيين معلقا . و المعروف أن أصابع الإرهاب الصهيوني لاتزال تطالهم و تعتدي عليهم يوما بعد آخر، و مع ذلك لا تحرك المنظمة الدولية ساكنا من أجل نصرتهم. و مطالبة السيد أردوغان بحل مشكلة الفلسطنيين هو جزء من السياسة التركية التي تهدف إلى ان تكون فاعلة في منظمة التعاون الإسلامي التي تأخذ على عاتقها معالجة المشكلات العالقة في العالم الإسلامي و عدم وقوفها عند حدود المشكلة بدون محاولة حلها حلا منصفاً. الرغبة في استقلالية القرار الإسلامي، و في أن يكون ذلك القرار نافذا. و المعروف أن القرارات الإسلامية في الدول الإسلامية، تعد معطلة تقريبا. و الدعوة إلى تفعيلها و إطلاقها تعبير عن الاستقلالية و هو بعض من التزام أدبي و موضوعي يتطلب من الجميع أن يكون مشاركا فيه. الرغبة في أن يكون للمسلمين هلال أحمر قائم بذاته من أجل خدمات المسلمين. الرغبة في عقد مؤتمر نسائي إسلامي عالمي، و في أن يكون له مقرا دائما في إسطنبول. و ذلك من أحل الدفاع عن المرأة المسلمة، و الاهتمام بها، وتحريرها من ربقة الفساد الذي قد تكون قذفته إليها الثقافات المتخلفة و المزيفة، و التي تعد علّة مجتمعاتنا الحديثة في الوقت الحاضر.

و في الختام:

 فإن رحلتنا الممتعة هذه، في رحاب الكلمة الطيبة، التي ألقاها فخامة الرئيس التركي، السيد رجب طيب أردوغان، و ما حفلت به من معان كريمة،تضعنا أمام تصورات ثلاثة:

 التصورالأول_ أن نفكر بموضوعية و تجرد، و أن نفهم ذواتنا و غيرنا، و أن نصدر عن ذلك بصدق و امانة و مسؤولية و أن يكون طرحنا منطلقا من قناعتنا و من رؤانا كذلك.

 التصورالثاني_ أن يكون تفكيرنا صادرا عن انتمائنا، و التزامنا، و أن يكون انتماؤنا و التزامنا مصدرا لمواقفنا ولقراراتنا التي يجب أن تتصف بالالتزام وبالجدية أولا_ و ألّا يحول دونها و دون ذلك الالتزام أية عوائق اخرى كائنة ما كانت تلك العوائق. ومنها التبعية للأجنبي.قبحها الله.

 التصورالثالث أن نكون جديين في طرحنا، و في آرائنا و في مواقفنا العملية، و أن نتبع ذلك بما يعزز مواقفنا و يجعل من قراراتنا قرارات نافذة. و هذا هو الذي قصده السيد رئيس الجمهورية، و هو مايتطلع إليه عامة المسلمين و خاصتهم.

وفق الله فخامة رئيس الجمهورية السيد رجب طيب أردوغان،

وسدد خطاه، من أجل خدمة المسلمين بعامة.

والله من وراء القصد

أ.د.عبد العزيز الحاج مصطفى

رئيس وحدة الدراسات السورية

مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية

وسوم: العدد 665