الجذور التاريخية لظاهرة المقاتل "الانتحاري"!
الجذور التاريخية لظاهرة المقاتل "الانتحاري"!
علاء اللامي
الركن الأخضر 24/05/2014
نجحت وسائل الإعلام الغربية، وبخاصة تلك المعادية صراحة للعرب والمسلمين، في نشر وتكريس فرية مفادها أنّ العمليات المسلحة الانتحارية، هي اختراع "عربي وإسلامي" لا سابقة له في التاريخ البشري. المشتغلون في تعليب وتصنيع الرأي العام في الغرب اشتغلوا طويلاً وبكثافة على هذه الثيمة مستفيدين من إنجازات التنظير الإستشراقي ذي النزوع العنصري التقليدي، وخرجوا بالكثير من الإستنتاجات والخلاصات المؤسسة على هذه الأكذوبة التاريخية. من تلك الخلاصات قولهم، "إنّ طبيعة الفرد العربي وخصوصية دينه الإسلام هي إنتحارية وعنيفة وعدوانية بطبيعتها ومن حيث جوهرها"؛ نفتح قوساً هنا لنُسجل أن التناول الإنتقائي الذي قامت به الأقلام السلفية الجهادية القديمة والمعاصرة لحيثيات عُنفية مجتزأة من التراث العربي الإسلامي العريض، لا يخلو من مثيلاتها أي تراث ديني آخر، وتحديداً من فترات التأسيس وقيام دولة النبوة في يثرب والمعارك الدفاعية التي خاضها المسلمون الأوائل بقيادة النبي العربي الكريم ـــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ أو من فترات الهبوط الحضاري والحروب الأهلية والفِتن التي حدثت في العالم الإسلامي لاحقاً؛ إن هذا التناول السلفي الإنتقائي للحيثيات العُنفية ساهم بقوة في توسيع نطاق هذه الفرية وسهّل انتشارها وتصديقها، واكب ذلك إغفال وتغييب الحيثيات والصفحات المعاكسـة مضمونياً التي يحفل بها التراث الإسـلامي المكتوب كأي تراث ماضوي وهي صفحات لا يمكن حتى لأعداء العرب والمسـلمين نُكران أنها سـلاميـة تشـع بالتسـامح والعطاء والبناء الحضاري الزاهر إلى جانب الصفحات الصعبـة التي مرّ بها في أوقات الحروب والاضطرابات والفِتن.
إن هذا الإفتراء، أو الهُراء غير العلمي، لا يقولـه المتخصصون والمؤرخون الذين يحترمون أنفسـهم وأقلامهم لأنهم يعرفون دقائق وحقائق التاريخ، بل يُكرره الكتبـة المأجورون وخبراء التضليل وغسـل الأدمغـة ضمن ما بات يُعرف بملفات وتمظهرات “الإسـلاموفوبيا”، ويُشـاركهم في ترديده البعض من السُـذج والمغرضين من الكتبـة والإعلاميين العرب.
لتبديد ودحض هذه الفرية نورد أدناه جرداً تاريخياً مبتسراً حول موضوعة “المقاتل الإنتحاري” في التاريخ البشري:
معروف وعلى نطاق، واسع أنّ أول حادثة حربية إنتحارية في تاريخ الحروب التي دارت في التاريخ البشري هي تلك المسجلة باسم المقاتل الشعبي العبري، القاضي الجبار "شمشون بن منوح"، الذي سلمه بنو إسرائيل إلى الفلسطينيين بعد أن أثارهم عليهم ليعاقبوه، ولكنه هدَّ معبد الإله "داجون" على نفسه وعلى أعدائه وآسريه الفلسطينيين فقتل نفسه وأعداءه... (التوراة، العهد القديم، سفر القضاة، الأصحاحات 13 إلى 16. شاعت قصته في القرن 11 قبل ميلاد المسيح). ولولا المسحة الأسطورية بل الخرافية لهذه الحادثة وبطلها ـــــ مثلاً، تروي التوراة في سِفر القضاة أنّ شمشون رمى الفلسطينيين بفك حمار ميت فقتل منهم ألف مقاتل! ـــــ لكان ممكناً للمؤرخين أن يعتبروا "شمشون" العبري، قاتل الفلسطينيين، هو الأب الروحي والحربي لمن يقومون بالعمليات السلفية الإنتحارية الفردية في عصرنا.
تاريخياً أيضاً، تُسجل وقائع ومدونات الحروب الصليبية أنّ أول عملية انتحارية بواسطة آلة عسكرية مركبة هي تلك التي قام بها بحارة محاربون صليبيون أثناء الحملة الصليبية الأولى في القرن الثاني عشر الميلادي ضد بلدان الشرق العربي الإسلامي. حدث ذلك حين قامت سفينة تحمل فرساناً من حركة مسلحة متعصبة دينياً تُدعى "فرسان الهيكل" بعملية إنتحارية استهدفت بها سفينة حربية للمسلمين واصطدمت بها فأحرقتها وأغرقتها وقُتل في هذه العملية من الصليبيين والمسلمين الكثيرون بينهم مائة وأربعون مقاتلاً من الصليبيين وأكثر من هذا العدد من المسلمين.
أمثلة أخرى على العمليات الإنتحارية سجل المؤرخون حدوثها خلال الحرب الفرنسية ـــــ الأسبانية (1785)، وخلال سنوات الحرب الأهلية في أسبانيا (1936 ـــــ 1939)، كما نعثر على أمثلة أخرى إبان مواجهة فلاحي فيتنام للمحتلين الفرنسيين التي توجت بمعركة قلعة (ديان بيان فو) عام 1954 التي هزمت فيها القوات الشيوعية بقيادة الجنرال (جياب) قوات الاستعمار الفرنسي هزيمة منكرة أنهت عهد الاستعمار الفرنسي لهذا البلد. علماً أن العمليات المشـار إليها في هذه العناوين التاريخيـة هي في غالبيتها أقرب إلى عمليات إقتحام جريئـة، مشـروعـة عسـكرياً وأخلاقياً، أكثر من كونها "عمليات إنتحاريـة" غادرة تسـتهدف طرفاً مدنياً أو عسـكرياً، ولكنها سُـجلت في التاريخ العسـكري الرسـمي "كعمليات إنتحارية". ولكننا لا يمكن أنْ نحتسب ضمن هذا النوع من الفعل القتالي "الإنتحاري" المستهدف والمؤذي أو القاتل للآخر تلك العمليات الإنتحارية الجماعية التي كانت تحد من وصول المؤن والأسلحة إلى القوات الإستعمارية الإنكليزية في الهند، حين كانت مجموعات من مئات المتطوعين "الإنتحاريين" العُزل من السلاح الهنود تحتشد على سكك الحديد لإجبار القطارات المنطلقة بسرعة على التوقف، ذلك لأن مَن يقومون بها عُزّل من السلاح أولاً، ولأنهم يُغامرون بأرواحهم هم ولا يؤذون أحداً غيرهم كالمقاتلين الإنتحاريين قديماً وحديثاً.
من أشـهر العمليات الإنتحاريـة وأخطرها على الإطلاق في العصر الحديث ما عُرف بعمليات الـ “كاميكاز” اليابانيـة التي اشـتهرت خلال الحرب العالميـة الثانيـة. والـ “كاميكاز” عبارة يابانيـة مؤلفـة من كلمتين تعنيان “الرياح المقدسـة” أو ”الرياح الربانيـة أو الإلهيـة”، وتعود العبارة بجذورها التاريخيـة إلى حادثـة حربيـة يختلط فيها ما هو أسـطوري بما هو تاريخي واقعي. ففي القرن الثالث عشر الميلادي، وبالضبط في سنة 1281، غزا أسطول مغولي صيني بقيادة الإمبراطور (قوبلاي خان) أرخبيل الجزر اليابانية ولكن إعصاراً قوياً ومدمراً هبّ آنذاك وأغرق الأسطول الصيني وأنقذ اليابان، فأعلن اليابانيون أنّ الآلهة هي التي أرسلت "رياحاً مقدسة" لإنقاذ اليابان وتدمير الأسطول المغولي.
هذا بخصوص ظاهرة الفعل القتالي الإنتحاري، ويقترب منه أحياناً ويتداخل معه فعل آخر هو تفخيخ العربات وتفجيرها بواسطة "إنتحاري" يقودها أو عن بُعد بواسطة التوقيت أو بجهاز التوجيه اللاسلكي بهدف تدمير أهداف معادية عسكرية أو مدنية أو حتى مواطنين عاديين في الأسواق والشوارع وأماكن العبادة والمشافي... إلخ.
حاولت وسـائل الإعلام الغربيـة على الدوام إخفاء حقيقـة أنَّ هذا الأسـلوب التدميري هو إختراع أمريكي ثم إسـرائيلي تاريخياً؛ فقد كانت أول عربـة شـاحنـة مفخخـة في التاريخ الحديث هي تلك المحملـة بثلاثين كيلوغراماً من المتفجرات و100 كيلوغراماً من قطع الحديد، قد انفجرت بتاريخ 16 أيلول 1920 أمام مقر “جي بي مورجان” أو "مورجان هاوس" في شـارع (وول) في نيوريوك فقتلت 38 شـخصاً وأصابت أكثر من 300 آخرين بجراح... أما العربـة المفخخـة الثانيـة، والتاليـة للأمريكيـة تاريخياً، فقد فجرتها منظمـة “ليحي” الصهيونيـة سـنـة 1948 في قلب مدينـة يافا الفلسـطينيـة وكانت ملغمـة بعشـرات الكيلوغرامات من المتفجرات فقتلت وجرحت 140 شـخصاً من الفلسـطينيين العرب بينهم عشـرات النسـاء والأطفال..!!
كما يمكن للراصد والمؤرخ إدراج العديد من العمليات الإنتحارية التي قام بها مسلحو منظمة “نمور التاميل”وخصوصاً النساء المقاتلات من منظمة ” الجبهة النسائية” في سريلانكا منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي. وفي الفترة ذاتها، وقعت أولى العمليات الإنتحارية الكبرى في العالم العربي: فبتاريخ 23 تشرين الأول/أكتوبر 1982 قاد مقاتلان إنتحاريان من منظمة "الجهاد الإسلامي" الشيعية، والتي كان البعض يعتقد أنها اسم آخر لـ "حزب الله" في لبنان أو أنه لمجموعة مسلحة انضمت لاحقاً إلى الحزب المذكور، قادا شاحنتين مفخختين بالمواد شديدة الإنفجار واقتحما مقرَي قيادة القوات الأمريكية والفرنسية التي تولت احتلال العاصمة بيروت بعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي منها تحت اسم "قوات حفظ السلام الدولية"، وقد قُتل في التفجيرين 241 عسكرياً أمريكياً و56 عسكرياً فرنسياً إضافة إلى السائقين "الإنتحاريين".
وتُعد هذه العمليـة المزدوجـة من أكبر وأهم العمليات الهجوميـة العسـكريـة في التاريخ لعدة اعتبارات: أولها، هو أعداد القتلى والجرحى الكبير من جنود العدو نتيجـة لها ولم تُماثلها أي عمليـة أخرى من هذه الناحيـة حتى اليوم. وثانيها، هو عدم إضرارها بالمدنيين المحليين، وثالثها، من حيث تحقيقها لأهدافها السـياسـيـة الاسـتراتيجيـة؛ فقد هربت القوات الأمريكيـة والفرنسـيـة التي نجت من الموت إلى سُـفنها الحربيـة في عرض البحر وتحررت بيروت تماماً من الوجود العسـكري الغربي..!!
غير أن هذا الإنجاز السياسي والعسكري الباهر الذي تمخضت عنه عمليتا بيروت، والذي لم يتكرر من حيث نتائجه منذ ذلك الحين، لا ينبغي أن يخلط الأوراق ويُغري بتأييد مشروط أو إستثنائي لهذا النوع من العمليات "الإنتحارية". فكل عمل قتالي إنتحاري، فردياً كان أو جماعياً، ينبغي أن يبقى مرفوضاً ومحظوراً من الناحية الإنسانية والثورية والأخلاقية معاً.
لقد توالت العمليات "الإنتحارية" لاحقاً ضد قوات الاحتلال الإسرائيلية التي كانت تحتل جنوب لبنان، وقد تكرر وقوعها بنجاحات محدودة وأحياناً دون نجاح يُذكر ولمجرد تسجيل الحضور الإعلامي من قِبل بعض الفصائل والجماعات، حتى حلّت الهزيمة بالاحتلال الإسرائيلي هناك واندحاره ذليلاً عن أرض الجنوب اللبناني لأول مرة في تاريخ العرب الحديث.
يمكن أن نُسـجل أيضاً أن العمليات "الإنتحاريـة" لم تكن حُكراً على المنظمات والجماعات المسـلحـة ذات المرجعيات والخلفيات الدينيـة والطائفيـة، السـنيـة أو الشـيعيـة، بل أن أحزاباً وجبهات قوميـة علمانيـة قامت ببعض منها لعل من أشـهرها العمليـة المعروفـة بإسـم "عروس الجنوب سـناء محيدلي” بتاريخ 09/04/1985، وسـناء مقاتلـة شـابـة من الحزب القومي الاجتماعي السـوري، فجرت سـيارتها المفخخـة وسـط تجمع كبير لجنود وضباط جيـش الاحتلال الإسـرائيلي في جنوب لبنان.
أما الأحزاب والجماعات اليسارية الماركسية كالحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي (اللذين أسسا جبهة المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي للبنان) والجبهتين الفلسطينيّتين، الشعبية والديموقراطية وغيرهما، فقد رفضت أو تحفظت على الأخذ بهذا الأسلوب القتالي، مع أن هذه الجهات قامت بالعديد من العمليات الإقتحامية الشجاعة والتي قُتل فيها بعض المهاجمين أو كلهم كعملية إقتحام “إذاعة الأمل”؛ ففي شهر تشرين الأول من العام 1985 نفّذ أربعة من مقاتلي الحزب الشيوعي اللبناني هجوماً إقتحامياً ضد مبنى إذاعة “صوت الأمل” الناطقة باسم ميليشيات أنطوان لحد فدمروه وخاضوا معارك واسعة مع حُراسه قبل أن يُستشهدوا وهم: إلياس حرب، ميشال صليبا، حسام حجازي وناصر خرفان.
كما يمكن أن نحتسب على هذا الغرار من العمليات التي تتوسط موضعاً وسطاً بين العمليات "الإنتحارية" والإقتحامية ثلاث عمليات جرت خلال السنة ذاتها 1985 واحتُسبت على ملاك لعمليات "الإنتحارية" "الإستشهادية” أولها العملية النوعية التي قامت بها المقاتلة الشيوعية "لولا عبود" والمتمثلة بزرع عبوة ناسفة عند مدخل موقع للعدو الإسرائيلي في القرية التي ولدت فيها “القرعون”، بغية تفجير رتل من الآليات وقُتلت أثناء العملية بعد أن تمكنت من القيام بالتفجير. والثانية هي التي قام بها مقاتل شيوعي لبناني آخر هو "جمال ساطي" والذي تمكن من تفجير مقر الحاكم العسكري في "نادي زغلة" وقُتل خلالها، والعملية الثالثة هي التي قامت بها المقاتلة الشيوعية "وفاء نور الدين" ضد دورية لجيش عميل (إسرائيل) أنطوان لحد، وهي أقرب هذه العمليات إلى العمليات التي سميناها "إنتحارية" ويُسميها المؤيدون لها "إستشهادية".
وقد قام "حزب العمال الكردستاني" في تركيا بزعامة (عبد الله أوجلان)، الذي يُحسب على اليسار الماركسي، وكانت بدايات نشاطه في سوريا ولبنان، بعدة عمليات "إنتحارية" ضد القوات والأهداف التركية. أما في حرب أفغانستان والتي بدأت في أواسط الثمانينات فقد حدثت عدة عمليات "إنتحارية" مع أن بعض المتخصصين بالشؤون الأفغانية ينفون وقوع أية عمليات من هذا النوع طوال العامين الأولين من تلك الحرب، وقد بلغت هذه العمليات ذروتها في الهجمات "الإنتحارية" التي قام بها عناصر من تنظيم "القاعدة" داخل الولايات المتحدة نفسها في ما عُرف بهجمات 11 أيلول / سبتمبر 2001 "الإنتحارية".
بعد هذا التاريخ، فُتح الباب على مصراعيه للقيام بالعمليات "الإنتحارية" بأيدي ومفخخات السلفيين الإنتحاريين فلطخت يوميات الشعوب في العراق وسوريا وأفغانستان والباكستان ولبنان واليمن وغيرها بالدماء البريئة وما تزال تُلطخها كل يوم وتُلحق أفدح الضرر بالمسلمين والإسلام معاً.