بين علماء السلاطين وعلماء الأحزاب
إن مما اشتهر عن سلف الأمة النهيَ عن مخالطة السلاطين والأمراء الظلمة، أو طلب التقرب والزلفى عندهم، حتى جعل كثير من السلف ذلك عنوانا للتمييز بين العالم الرباني والعالم المداهن، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من ذلك أشد التحذير، وكان مما صحّ عنه قوله: (( إنها ستكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون، فمن دخل عليهم، فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولست منه وليس بوارد عليّ الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم، ويعِنْهم على ظلمهم، فهو مني وأنا منه، وهو وارد عليّ الحوض )).
وعن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: " إياكم ومواقف الفتن! قيل وما مواقف الفتن؟ قال أبواب الأمير؛ يدخل الرجل على الأمير، فيصدقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه ".
ولم يكن تحذير السلف خاصا بالأمراء فقط، بل شاملا لكل من تولى مسؤولية في دولة ظالمة، واليا كان أو قاضيا أو عاملا لهم على جباية وغيرها، قال ابن الحاج -رحمه الله تعالى- في المدخل: " وقد نقل بعض علمائنا رحمة الله عليهم أن العدل إذا تردد لباب القاضي فإن ذلك جرحة في حقه وترد به شهادته، فإذا كان هذا في التردد إلى باب القاضي وهو عالم من علماء المسلمين سالم مجلسه مما يجري في مجالس من تقدم ذكرهم، فكيف التردد لغير القاضي! فمن باب أولى وأوجب المنع من ذلك". وقال الأوزاعي: " ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملاً ".
ونصوص السلف والعلماء في هذا الباب كثيرة، لا أرى حاجة لذكرها فهي معروفة مشتهرة، وللسيوطي –رحمه الله تعالى- رسالة " ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين" قال فيها بعد أن ذكر ما روي في ذلك من أحاديث: " ذهب جمهور العلماء من السلف وصلحاء الخلف إلى أن هذه الأحاديث والآثار جارية على إطلاقها، سواء دعوه إلى المجيء، أم لا، وسواء دعوه لمصلحة دينية أم لغيرها ".
ولحجة الإسلام الغزالي –رحمه الله تعالى- تفصيل في المسألة في كتاب الإحياء، ومما قاله: "اعلم أن لك مع الأمراء والعمّال الظلمة ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: وهي شرها أن تدخل عليهم.
والثانية: وهي دونها أن يدخلوا عليك.
والثالثة: وهي الأسلم أن تعتزل عنهم فلا تراهم ولا يرونك.
أما الحالة الأولى وهي الدخول عليهم فهو مذموم جداً في الشرع، وفيه تغليظات وتشديدات تواردت بها الأخبار والآثار ...
الحالة الثالثة: أن يعتزلهم فلا يراهم ولا يرونه وهو الواجب؛ إذ لا سلامة إلا فيه؛ فعليه أن يعتقد بغضهم على ظلمهم، ولا يحب بقاءهم، ولا يثني عليهم، ولا يستخبر عن أحوالهم، ولا يتقرب إلى المتصلين بهم، ولا يتأسف على ما يفوت بسبب مفارقتهم " وقال كذلك: " معاملة قضاتهم وعمالهم وخدمهم حرام كمعاملتهم بل أشد ... وقد قال سفيان لا تخالط السلطان ولا من يخالطه. وقال: صاحب القلم وصاحب الدواة وصاحب القرطاس وصاحب الليطة بعضهم شركاء بعض ".
وإنما شددوا في هذا الأمر هذا التشديد فلأن في الدخول على المسؤولين الظلمة مفاسدَ كثيرة في الدين والدنيا، يبيع فيها العالم دينه، ويضيّع على المظلومين دنياهم، ويلبس على الظالم أمره؛ فيرى الظالم لنفسه الحق فيما يفعل.
قال الغزالي رحمه الله تعالى: " إنما فسدت الرعية بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء فلولا القضاة السوء والعلماء السوء لقل فساد الملوك خوفاً من إنكارهم ".
فمن المفاسد التي يقع فيها هذا الصنف من العلماء، هي الثناء على الظلمة، وهذا يستوجب غضب الله تعالى، وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: " لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن يكُ سيدًا، فقد أسخطتم ربكم عز وجل " وما يقع به هؤلاء من مدح السلاطين أعظم من ذلك بكثير.
ومن المفاسد كذلك تضليل للناس بتبرير عمل السلطان الظالم، فإما أن يصدقه الناس فيضلهم بتسويغ الباطل، أو أن ينكر عليه الناسُ فعلَه فيكون سببا لنفور الناس من الدين.
ومن أعظم المفاسد في مخالطتهم هو تبرير ظلمهم، وهذا أعظم من الظلم نفسه، لأن فيه تحليل الحرام بتحريف كلام الله ورسوله ليوافق أهواء الظلمة، وهو جناية على الشريعة، فيجعلون من أنفسهم جسورا يعبرون عليها إلى ظلم الناس. وقد مرّ قول الغزالي أنه لولا فساد العلماء لقل فساد الملوك خوفاً من إنكارهم. وترك إنكار المنكر كبيرة من العالم فكيف بتسويغ فعلها!
وغير ذلك من المفاسد العظيمة التي لا تخفى على أحد، وقد رأينا من ذلك في زماننا ما لم يحدث من قبل أبدا.
وليعلم أنه ما من عالم افتتن بالدخول عليهم إلا وهو ويستشهد بدخول بعض السلف عليهم أو يتعذر بأنه يريد مصلحة المسلمين وإعانة المظلومين، وما هي إلا فتنة وذريعة للدخول، فيسوغ لهم باطلهم وظلمهم بحجة دفع مظلمة قد لا يتحقق دفعها، وقد قال سفيان الثوري –رحمه الله تعالى-: " إياك والأمراء أن تدنو منهم وتخالطهم في شيء من الأشياء، وإياك أن تُخدع فيقال لك: تشفع وتدرأ عن مظلوم، أو ترد مظلمة، فإن ذلك خديعة إبليس وإنما اتخذها فجّار القراء سلما ".
وقال الغزالي: " فإن قلت فقد كان علماء السلف يدخلون على السلاطين فأقول نعم تعلّم الدخول منهم ثم ادخل " ... ثم قال بعد ذكر بعض قصص السلف: " فهكذا كان دخول أهل العلم على السلاطين؛ أعني علماء الآخرة، فأما علماء الدنيا فيدخلون ليتقربوا إلى قلوبهم فيدلونهم على الرخص ويستنبطون لهم بدقائق الحيل طرق السعة فيما يوافق أغراضهم. وإن تكلموا بمثل ما ذكرناه في معرض الوعظ لم يكن قصدهم الإصلاح بل اكتساب الجاه والقبول عندهم ".
فهؤلاء هم علماء السلاطين، وقد مرّ أنه لا يختص بالسلاطين أنفسهم بل يشمل الولاة والقضاة والعمّال والمسؤولين ومن شابههم.
ونحن نزيد هنا على ذلك الأحزابَ التي اجتهدت في الدخول في العمل السياسي، وإذا كان يحق لها أن تجتهد في ذلك فإننا لا نرى للعالم أن يكون منتميا لحزب من هذه الأحزاب، سواء انتماء رسميا أو انتماء روحيا؛ فإن المحاذير التي ذكرت عن علماء السلاطين والمسؤولين هي هي نفسها موجودة في علماء الأحزاب هؤلاء، فالمحسوب على هذه الأحزاب أبعد ما يكون عن أن ينطلق من موضع الحياد في وزن مواقف هذه الأحزاب السياسية التي كثيرا ما تكون خارجة عن ضوابط الشريعة، بل جانية على شريعة الله تعالى في مواقف كثيرة. فيترك هؤلاء العلماء إنكارَ المنكر، ويصمتون على انحرافات هذه الأحزاب بحكم ميولهم الشخصية تجاهها، بل كثيرا ما يتجاوزون جناية الصمت ويجعلون وظيفتهم هي تبرير كل فعل يصدر عنهم، وتغليفه بغلاف الشريعة، هو هو نفس الغلاف الذي يغلف به علماء السلاطين ظلم الحكام وفسادهم، لا يختلف عنه قيد أنملة.
أو يمارسون دور احتقار عقول الناس فيوحون إليهم أن القائمين على الأحزاب يعلمون ما يفعلون، وأنهم لا يمكن أن يخالفوا الشريعة، وأنهم أعلم بمصالح الناس منهم، وأنهم يطلعون في الخفاء على ما لا يطلع عليه عامة الناس، وهو نفس أسلوب علماء السلاطين إحياءً لنظرية فرعون {ما أريكم إلا ما أرى}! حتى في مواقف صريحة في خروجها على الشريعة، فهلّا كانوا كمؤمن آل فرعون!
وعالم الحزب غير عالم العامة، لهذا يحترم عامة الناس العالم البعيد عن هذه الأحزاب أكثر بكثير من العلماء الذين يميلون إليها؛ لأنهم يرونهم أسرى لهذه الأحزاب يميلون معها حيث مالت، ويجوزون لأحزابهم ما لا يجوزونه لأحزاب غيرهم، فما يفعله أولياؤهم هو الحق وعين الشريعة، وما يفعله غيرهم هو الباطل وعين الخيانة حتى لو كان نفس الفعل! فيمارسون مع أحزابهم دور عالم السلطان ومفتي الدولة الرسمي!
فلا يليق ولا ينبغي لعالم أن يجعل من نفسه جسرا لحاكم أو حزبٍ يعبرون به إلى ضلالتهم، ويجملون به سوء صنيعهم، وتقتصر وظيفته على حرف قواعد الشريعة لتناسب أفعالهم، ويدلّهم على الرخص، ويستنبط لهم بدقائق الحيل طرق السعة فيما يوافق أغراضهم. كما سبق عن الإمام الغزالي.
فاللهَ اللهَ في دين الله تعالى يا علماء الأمة، واللهَ اللهَ في دين الناس أن تضلونهم بغير هدى أو تنفرونهم من عمائم العلماء! فلا تكونوا علماء رسميين أو حزبيين، {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}، كونوا علماء ربانيين يعيدون لدين الله تعالى في قلوب الخلق هيبته، وفي واقع الناس رونقه، ودعوا الأحزاب تجتهد، وأبعدوا أنفسكم عن أن تميلوا إليها، لتلجموا ميل الهوى أن يحيد بكم عن جادة الطريق، فتنصحونهم إذا مالوا، وتوقفونهم عند حدود الله تعالى إذا تجازوها، بدل أن تجعلوا وظيفتكم وظيفة مفتي الدولة (الحزب) الرسمي! فأنتم أمناء على ثغور الإسلام لا ثغور الأحزاب! فعودوا إلى مواقعكم يرحمكم الله.
وسوم: العدد 681