الإرهاب الإكراهي
د. محمد كمال الشريف
في البداية
في البداية كانت القاعدة، ثم جاءت الدولة الإسلامية التي أعلنها تنظيم داعش لتضع المنطقة بل وجميع دول العالم أمام تحدٍ خطير على أمنها. كان الظن أن بالإمكان القضاء على هذه التنظيمات الإسلامية الساعية إلى إكراه الناس على الإسلام وعلى تحكيم الشريعة، لكن الأيام أثبتت أن القضاء على هذه الجماعات المسلحة -التي كان ظهورها ونشاطها مرغوباً من بعض القوى الإقليمية والعالمية- لن يكون سهلاً ميسراً، وقد لا يكون ممكناً على الإطلاق.
نبتت داعش في الشام والعراق وتعهدتها استخبارات بعض دول المنطقة بالسقاية والتغذية بطرق غير مباشرة، بحيث يظن الداعشيون أن المال يأتيهم هبات وتبرعات من أفراد مؤمنين مثلهم، يريدون أن يجاهدوا في سبيل الله بأموالهم؛ فنمت هذه النبتة، وضربت جذورها في أرض الشام والعراق، وصار اجتثاثها عسيراً جداً. سيكون اجتثاث داعش مطلوباً بعد أن يتحقق الهدف الذي من أجله ساعدت القوى الإقليمية والعالمية على نشوئها وتمكنها. فداعش تحقق لهم -دون أن تدري- ما لا يستطيع أحد غيرها أن يحققه.
داعش وانقسام الأمة
تحلم إسرائيل والصهيونية العالمية أن تقسّم الشرق الأوسط إلى دويلات طائفية متناحرة وضعيفة ولا أمل في توحدها من جديد، وأتت داعش والقاعدة وغيرهما من تنظيمات، لتؤدي دورها المشؤوم، المكمل لدور إيران في إثارة الطائفية بين السنة والشيعة، على مستوى المنطقة كلها، بل على مستوى العالم بأكمله. ليس كمثل هذه التنظيمات أحد يستطيع غرس الكراهية والأحقاد بين السنة والشيعة، وبخاصة أن إيران أنشأت ورعت تنظيمات شيعية مقابلة، لا يختلف تفكيرها عن داعش وأخواتها إلا في أنه من منظور شيعي. كلا الفريقين يكفّر من ليس معهم، ومن ليس على عقيدتهم والولاء لهم، ويستحلون قتله ونهبه واغتصاب نسائه. يطلق الجهادي الإكراهي السني النار ليقتل شيعياً يبادله إطلاق النار، ويصرخ الجهادي "الله أكبر"، ويفرح بنصر الله كلما أردى مسلماً شيعياً أو أصابه إصابة بالغة. كما يهتف الشيعي الذي يصوب طلقاته إلى مسلم سني "الله أكبر" و"يا حسين"، ويشعر أنه كلما قتل سنياً نال أجراً عظيماً عند الله وارتفعت درجته في الجنة. فهل هنالك من هو أقدر من هذين الفريقين الضالين على تمزيق الأمة وخلق الأحقاد والثارات فيها؟ هذا هو الهدف الأول لمن يعبثون بمنطقتنا.
الأهداف خمسة
والهدف الثاني لهم هو تنفير المسلمين وغير المسلمين في منطقتنا وعلى مستوى العالم، من تحكيم الشريعة الإسلامية في حياتهم، على الرغم من إيمان أكثرهم وتقواه. إن ما تقوم به هذه المنظمات التكفيرية الإكراهية من تطبيق غبي للشريعة، هو بمثابة التطعيم أو اللقاح الذي يصيب البدن بالمرض مخففاً، كي لا يبقى للمرض سبيل للعودة إلى هذا الشخص. إن ما يرتكبونه من جرائم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ويتقربون إلى الله، يبث في نفوس الجميع الخوف وكراهية أن تحكّم الشريعة الإسلامية في أوطانهم، وبخاصة الطوائف غير المسلمة وغير السنّية.
ثم الهدف الثالث المرغوب والذي من أجله تمت رعاية نبتات هذه التنظيمات فهو ترسيخ تقسيم المنطقة على الأرض وجعل التقسيم أمراً واقعأ لا بد للأمة من الاعتراف به وتقبله ولو بعد حين.
ورابع الأهداف الذي تسعى إليه إسرائيل والصهيونية العالمية هو تدمير بلادنا ومواردنا ليتحقق الحلم الصهيوني في تسخير العمالة العربية للعمل عند الرأسمالية الإسرائيلة والصهيونية، ليكون منهم المال والعلم ومنا السواعد التي تعمل بأقل الأجور.
والهدف الخامس هو تجميع الجهاديين من السنة والشيعة في منطقة واحدة يقتل بعضهم بعضاً حتى يفنون، وإن لم يفنهم القتال ما بينهم تكفلت أمريكا بإفناء الباقين.
رَعَوْهم ثم عادَوْهم
لقد أعانت القوى الإقليمية والدولية على قيام داعش وإعلانهم الدولة الإسلامية، ثم قالوا عنهم "إرهابيون" ونعتوهم بكل وصف قبيح، من مجرمين، إلى عملاء، إلى مرضى عقليين ومتعاطي مخدرات إلى فاسدين مفسدين، لا يتورعون عن الاعتداء على أعراض الناس وتبرير ذلك فقهياً. وكان ذلك مقدمة لإعلان الحرب عليهم، وتشكيل تحالف دولي للقضاء عليهم؛ لكن أمريكا التي تدعي حرصها على تخليص المنطقة من شرورهم، لا تريد سوى تحجيمهم وحصرهم في حدود جغرافية لا يتجاوزونها.
قبل سنة ونصف كتب كاتب أمريكي عن تقسيم العراق والشام إلى دويلات طائفية، وكان ملفتاً للنظر أن الخارطة المقترحة للمنطقة في المقال، فيها دولة سنية اسمها "سنّة- ستان" تضم الأنبار وأغلب شرق سورية. استغربت يومها هذا التقسيم، فقد كنت قبلها أؤمن أنهم سيقسمون العراق إلى ثلاث دويلات، ثم يقسمون سورية إلى دويلات أخرى، لكن دون تداخل التقسيمين؛ وزال استغرابي عندما أعلن داعش دولته الإسلامية على مناطق سنّستان التي حددتها خارطة التقسيم المقترحة من أمريكا.
قيام دولة سنية طائفية في هذه المناطق مطلب استراتيجي للذين يخافون من امتداد نفوذ إيران، حيث تكسر هذه الدولة الهلال الشيعي، وتحرم إيران وشيعة سورية ولبنان من التواصل عبر طرق برية، يستطيع الطرفان بواسطتها نقل العتاد والسلاح.
كان بإمكان أمريكا والقوى الإقليمية السنيّة أن تنشىء دولة سنيّة موالية لهم، بدل الدولة الداعشية المعادية، وبذلك يتحقق كسر الهلال الشيعي. لكنهم لم يفعلوا ذلك، بل أتاحوا لداعش أن تقيم دولة معادية لهم ومعادية لإيران، لأنها رغم عداوتها لهم ستحقق لهم أهدافهم الخمسة التي ذكرتها أعلاه، لذلك كثر حديثهم عن الحاجة إلى عشرات السنين كي نقضي على داعش ودولته، أي إن نيتهم ترك داعش ودولته قائمة عشرات السنين قبل أن يسحقوها، ليكون ذلك بعد تحقق الأهداف الخمسة كلها.
أما دول المنطقة التي أدركت خطورة داعش عليها فقد عملت بكل طاقاتها لمحاربته وتجفيف منابعه وموارده.. فصنفوه منظمة إرهابية، وصنفوا كل من يقدم له شيئاً إرهابياً، وبالتالي مجرماً يلاحقه القانون، وتناله العقوبات القاسية.
الظن الخاطىء
ظنت هذه الدول -وكلها مسلمة-، أنها قادرة على تجفيف منابع هذه المنظمات الإكراهية عن طريق تصنيفها لداعش والقاعدة وأخواتهما كإرهابيين مطلوبين للعدالة، وعن طريق وصف ما يقومون به أنه جرائم يرفضها الإسلام، وأعلن كثير من علماء الدين فتاواهم بأن هؤلاء الإرهابيين خوارج، يجب قتالهم وقتلهم، ومنع ما يفعلونه من إكراه غير المسلمين على الإسلام، وإلا فإنهم يخرجونهم من ديارهم ويسبون نسائهم ليبيعوهن جوارٍ يستحل من يشتريهن أن يستمتع بهن متعة الزوج بزوجته. تعمل الآلة الإعلامية الموجهة ضد داعش والقاعدة والدولة الإسلامية -التي يرأسها من نصّب نفسه خليفة- ليل نهار، والحكومات تحسب أنها بذلك وبفتاوى العلماء ستنتصر على داعش وتقنع الشباب المسلم بعدم الانضمام إليها.
كان من الممكن أن يصدق هذا الظن، لولا أن داعش التي نزدريها، والقاعدة التي نسعد كلما تلقت ضربة موجعة، وبوكو حرام وغيرهم هم في عيون الكثيرين من المتدينين والإسلاميين شيء آخر مختلف، كما إن هنالك حقائق أخرى هامة لم تأخذها هذه الحكومات في اعتبارها.
لابد من الأخذ بالاعتبار
أول هذه الحقائق التي على الحكومات أخذها في الاعتبار، هي أن الداعشيين والقاعديين ومن على نهجهم، يراهم الكثيرون من الذين يتمنون أن ترجع دولة الخلافة، أبطالاً ومجاهدين مخلصين، أخذوا الكتاب بقوة، كما فعل يحيى عليه السلام، لتصبح قسوة التكفيريين الإكراهيين مبررة ومظهراً لأخذ الكتاب بقوة، لا تأخذهم في الله لومة لائم.
أما ما يكال للإكراهيين من دواعش وغيرهم من أوصاف سيئة، فإن من يراهم مجاهدين أبطالاً، لن يبالي بها‘ وسيعتبرها مجرد دعاية كاذبة تهدف إلى تشويه صورة هؤلاء الأبطال، لتبرير القضاء عليهم وعلى مشروع دولتهم الإسلامية، ولن يكون لهذه الدعاية رغم صدقها أية مصداقية لديهم، وسيبقى متعاطفاً ومؤيداً لهذه التنظيمات الإكراهية، ولن يتردد في دعمها بالدعاء لها، وبالمال، إن أمن على نفسه، أو الانضمام إليها إن أراد أن يضحي بنفسه في سبيل جنة عرضها السماوات والأرض. ومما يرسخ اعجابهم بهؤلاء، وعدم تصديق ما يقال عنهم، أن التحالف الذي يحاربهم، تحالف أمريكي - أوربي إضافة لدول إسلامية، وكثير منهم يعتبرون الكراهية والعداء من هذه الدول -وبخاصة غير المسلمة منها- دليلاً على إخلاص هؤلاء الجهاديين الإكراهيين، وعلى أنهم على الحق، لذلك يحاربهم الجميع، كي لا تقوم للمسلمين دولة تطبق الشريعة وتعيد الخلافة وتفرض عزة المسلمين على الجميع. إنه منطق: عدو عدوك هو صديقك دائماً، وهو منطق خاطىء إذ ما أكثر ما يكون عدو عدوك عدواً لدوداً لك أيضاً.
لن يزيد وجود دول مسلمة ضمن التحالف من مصداقية الدعاية المضادة للجهاديين الإكراهيين، لأن للتيار الإسلامي تجارب مريرة مع كثير من أنظمة هذه الدول المسلمة التي لا تخفي عداءها لكل من يسعى إلى تطبيق الشريعة من جديد، ولأن الاعتقاد أن حكومات الدول المسلمة هي إما عميلة ومتعاونة مع الغرب الصليبي أو خاضعة لإملاءاته ولا تجرؤ على مخالفتها.
دعاية مضادة غير مجدية
ومما يجعل الدعاية المضادة للمنظمات الجهادية الإكراهية غير فعالة، أن ما يقال عن أعمالهم، أنها مما يأباه الإسلام ولا يقره بحال من الأحوال، إنما هو تصريحات لعلماء دين، كثير منهم متهم في صدقه، ظنّاً أنهم من علماء السلاطين، الذين يفتون بما يريده الحاكم. وهذه التصريحات يطلقها المفتون دون تأصيل شرعي مقنع، إنما هي شعارات سياسية، على النقيض من الفقه الموروث ومن التاريخ، الذي تباهي به الأمة الإسلامية. نعم وللأسف لم ينجح علماؤنا في إثبات أن الجهاديين الإكراهيين خاطئون من الناحية الشرعية ولم يقدموا أدلة قوية على فتاواهم وتصريحاتهم. وبالمقابل هنالك مفكرون -رغم قلة عددهم- يؤصلون تأصيلاً قوياً مدعما بالنصوص وأقوال العلماء الكبار السابقين، يثبت لهؤلاء، أن ما يقومون به هو الحق الذي يرضي ربنا، ويجب من أجله التضحية بالنفس والمال، دون أن تأخذنا في الله لومة لائم.
من يقرأ لأبي محمد المقدسي مثلاً سينبهر وسيظن أن هؤلاء الجهاديين الإكراهيين على الحق المبين حتى لو كفروا الشعوب المسلمة واستحلوا دماءها، فإن ذلك جهاد قصرت فيه الأمة كثيراً، وأحياه هؤلاء الرجال المخلصون.
هؤلاء الشباب المتحمسون لدين الله، ولاستعادة عزة المسلمين، ولتحكيم شرع الله، والمتعجلون للوصول إلى الجنة من أقصر وأسرع طريق، هم في الغالب زادهم من الفقه قليل وعلمهم الشرعي هزيل.. هم أناس يريدون أن يعملوا دون أن يفلسفوا الأمور، حيث تبدو لهم الأشياء واضحة بسيطة، لا تحتاج إلى تخريجات العلماء، سواء السابقون منهم او المعاصرون، طالما هنالك آيات وأحاديث شريفة ظاهرها يؤيد ما يفعلونه. إنهم لا يريدون إضاعة الوقت والجهد في التنظير، بل هم يستجيبون لداعي الجهاد في سبيل الله، ولا يهمهم من خالفهم أو خطّأهم.
أمور واجبة وحقائق غائبة
لن يمكننا مواجهة خطر هؤلاء الجهاديين التكفيريين الإكراهيين إلا عندما نأخذ في اعتبارنا الحقائق التالية:
1. الإنصاف
أنهم في غالبيتهم شباب مؤمن مخلص، لا يريد غير الجنة ورضوان الله، وإن كان من المؤكد أن فيهم عملاء استخبارات متعددة، ابتداءً بالموساد الإسرائيلي ووكالة الاستخبارات الأمريكية، وانتهاء باستخبارات دول الإقليم، ومن المؤكد أن من هؤلاء المندسين بينهم والمخترقين لهم من وصل إلى مواقع قيادية في هذه التنظيمات، ويبذل الجهد لتوجيهها، لتقوم بما يخدم أعداء الأمة الإسلامية، وذلك سهل عليهم، لأن العلماء والفقهاء نادرون في هذه التنظيمات، وكذلك الخبراء في السياسة، السياسة التي تراعي المصلحة، وتقدمها على الأهداف الإيديولوجية، لتجعلهم يتصرفون بحكمة أكثر وبراغماتية، على النقيض مما يقومون به حالياً من أعمال متهورة تشوه صورة الإسلام والجهاد والشريعة.
قد يبدو ما أقوله دفاعاً عن التكفيريين الإكراهيين وتبريراً لأخطائهم يضر قضيتنا للقضاء عليهم، لكن العكس هو الصحيح. إن الإقرار بإخلاصهم وصدق نواياهم ودوافعهم، يجعلنا أقدر على تقليل خطرهم، وعلى القضاء على تنظيماتهم. إن الإقرار بما لديهم من الحق والإخلاص، والتوقف عن الدعاية المضادة لهم التي تتهمهم بما ليس فيهم، وبما لا يصدقه من يعرفهم عن قرب، هذا الإقرار المرافق لبيان أنهم مخطئون فيما يتبعونه من اجتهادات فقية تتنافى مع روح الإسلام، هذا الدين الحق الذي كان أول دين يعلنها صريحة أن "لا إكراه في الدين"، وأن رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم ما أرسله الله إلا رحمة للعالمين، أي لكل الشعوب والأمم على اختلاف أديانها ومعتقداتها.
إن هذا التوصيف المنصف لحالهم، يجعل دعايتنا المضادة لهم تصل إلى قلوب كثيرين منهم، ممن بهرهم إخلاصهم ولم يفطنوا إلى خطئهم، وإلى الآثار المدمرة لجهادهم القائم على إكراه الناس على دين "اللا إكراه". إننا بذلك نستطيع أن نؤثر على كثير منهم، بحيث يمكن أن يتراجعوا عما تورطوا فيه من الشر وهم يحسبونه خيراً. لقد أقر قرآننا أن الكافرين لديهم من الحق مقادير تزيد أو تنقص، وجاء مصدقاً لما بين يديه من الكتاب لكن مهيمناً عليه يصحح ما أصابه من تشويه وانحراف. إن من أكبر الأخطاء في محاولة إقناع الناس بأنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه أن لا نعترف بصدق نواياهم وأن لا نعترف بالحق الذي معهم المختلط بالباطل الناتج عن سوء الفهم لهذا الدين. إن ذلك يجعل من نخاطبهم دفاعيين لا يفكرون في أن ما نقوله لهم من آراء مخالفة لما هم عليه قد يكون محقاً وصائباً. أنت بخير ما دمت تؤمن أن اجتهادك صواب يحتمل الخطأ، وأن اجتهاد مخالفيك خطأ يحتمل الصواب، وإلا فإنك لن تُعْمِل عقلك في التفكر بما يطرح عليك من رأي يخالف ما أنت عليه.
إننا عندما ننكر ما لديهم من صدق وإخلاص ونقول لهم إن الإسلام لا يرضى بما تقومون به، وما أنتم إلا مجرمين وضالين ومفسدين في الأرض، فإننا بذلك نفقد كل مصداقيتنا لديهم، ونكون في نظرهم أعداء للحق، نوايانا خبيثة، وغايتنا خدمة الطواغيت في الأرض، وليس الاهتداء إلى الصواب والحق.
يجب أن لا نستخف بهذه القضية ونقول: هؤلاء لا أمل فيهم، فقد غُسلت أدمغتهم، وغيّب وعيهم، وباعوا أنفسهم من أجل المال والجنس، فنيأس منهم ولا نجد أمامنا إلا قتالهم وقتلهم. فتاريخنا يروي لنا أن ابن عباس رضي الله عنه، استطاع خلال أيام قليلة، أن يقنع آلاف الخوارج أنهم مخطئون، فتركوا قتال علي رضي الله عنه. وهذا يعني أن من ينطبق عليه وصف أنه من الخوارج، الأصل فيه أنه مخلص جانَبَ الصواب، وأنه قابل لأن يهتدي إلى الحق ويرجع إليه.
لو تمكنا بحكمتنا وبرحمتنا لهم وباعتبارهم "إخواننا بغوا علينا" من جعل بعضهم يصغي إلينا، ويستمع ما نقول، فينسحب منهم، فسيكون ذلك إنجازاً عظيماً، لأن هؤلاء المنسحبين منهم سيكونون مقنعين لأعداد لا تحصى من الشباب المسلم المهيّأ للانضمام إليهم أن طريقهم خاطئة.
ثم إن اقرارنا بما لديهم من إخلاص، يجعل دعايتنا تصل إلى قلوب الملايين، الذين يرونهم أبطالاً ومجاهدين، بحيث ننجح في تجفيف منابع هذه التنظيمات الجهادية الإكراهية إلى حد كبير.
2. الوضوح
لا بد أن يكون خلافنا معهم واضحاً لنا ولهم، هل هو اختلاف حول تكفير من لا يحكم بشرع الله أم هو اختلاف على شيء آخر؟ إن حصر الخلاف معهم في أنهم تكفيريون وأنهم إرهابيون عنيفون لن ينجح، لأن الله أمر المؤمنين بإعداد ما استطاعوا من قوة يرهبون بها عدو الله وعدوهم، ووصف من لا يوحده توحيداً خالصاً أنه كافر. ألم يقل ربنا قد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح عيسى بن مريم؟ ومع ذلك أحل لنا المحصنات من نسائهم نتزوجهن وننجب منهن.
في كل دين معتقدات أساسية من يؤمن بها فهو مؤمن ومن لا يؤمن بها فهو كافر. حتى المسلم الذي هو على هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كافر بالنسبة للذي يؤمن أنه لا نجاة ولا خلاص لمن لا يؤمن بألوهية المسيح. إن كنا نعيب عليهم أنهم يكفرون المخالف لهم فلن يستمعوا إلينا بل سيروننا ضعفاء مداهنين أو منافقين لا نكفر الكافر بل نمتنع عن تحديد موقفنا منه ومن كفره "قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ...." وستضعف حجتنا لديهم لأن التكفير وبخاصة تكفير من لم يحكم بما أنزل الله يبدو هو الصواب لمن هو قليل الفقه لأنه ظاهر الآية الكريمة: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" وسيبدو الخلاف بيننا وبينهم اختلافاً فيما نأخذ به ويأخذون به من اجتهادات مختلفة لا يعني اختلافها أنهم على باطل.
أعتقد أن خلافنا معهم هو على قوله تعالى: "لا إكراه في الدين" وليس في أنهم جهاديون ولا في من نكفر من الناس ومن لا نكفره. هؤلاء إن أردنا الإنصاف أناس يجاهدون في سبيل الله وفق ما وصلنا من فقه السابقين الذي يصر على أننا مأمورون أن نقاتل الناس، كل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وعندها فقط تكون دماؤهم وأموالهم معصومة. لقد بينت فيما سبق من فصول هذا الكتاب أن الناس المقصودين في الحديث الشريف إنما هم مشركوا العرب في جزيرة العرب في زمن الرسالة، لكن لم يتبنَّ أحد من أئمتنا لا الشافعي ولا غيره هذا الفهم، بينما عمل الصحابة كان واضحاً ولم يختلفوا أبداً في أن دماء المشركين وأموالهم وأعراضهم معصومة باستثناء القبائل العربية التي كانت تسكن أرض العرب، ولم يسجل التاريخ أن المسلمين خيروا أحداً خارج أرض العرب بين الإسلام والقتل، على رغم شرك أقوام كثيرة تغلب عليها المسلمون وفتحوا بلدانها. هل منا من ينكر أن المجوس الذين يعبدون النار مشركون وأن الهندوس والبوذيين وعبدة الشيطان وغيرهم مشركون؟ هل أجمع صحابة رسول الله والتابعون على أن يخالفوا أمر رسول الله طمعاً في جزية يتقاضونها من الكافر المغلوب المصر على كفره؟ هل يعقل هذا؟ إن التاريخ يثبت أن كلمة الناس في هذا الحديث لا تعني البشرية كلها والاعتقاد أنها تعني كل البشر هو فهم خاطىء، حتى لو أصر عليه الشافعي أو غيره من الأئمة.
صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يطبقوا آية السيف على أحد من غير المشركين العرب في أرض العرب، ومن المستحيل أن يتواطؤوا كلهم على عدم تطبيق أوامر الله ورسوله من أجل جزية ضئيلة لا تؤخذ إلا من القادرين عليها.
خلافنا مع من نسميهم إرهابيين هو على جواز إكراه الناس في الدين أو وجوب ترك الحرية لهم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. إن إرهاب عدو الله وعدو المؤمنين مطلوب بنص القرآن لذلك لن يفيد وصفنا لهم بالإرهابيين شيئاً عندهم وعند كل من يراهم مجاهدين مخلصين يقدمون أرواحهم في سبيل الله.
إن التوصيف الصحيح الذي لا يلتبس ولن تختلف فيه التعريفات هو أن هؤلاء إكراهيون، ننسبهم إلى الإكراه في الدين الذي ظنوا أن الله كلفهم به ليسوقوا الناس إلى الجنة سوقاً. ومع أن تراثنا الفقهي يحتوي اجتهادات فقهية كثيرة تفيد أن إكراه الناس أو إكراه المسلمين في الأمور الدينية شيء مرغوب بل مأمور به. يجب أن لا ندفن رؤوسنا في الرمال وننكر جذور المشكلة وأسباب العلة التي أصابت أمتنا في السنين الأخيرة. إن هؤلاء الإكراهيين أناس مخلصون في غالبيتهم يقدمون أرواحهم في سبيل استعادة الحكم بما أنزل الله، لكنهم ضحايا لاجتهادات عديدة في ديننا تحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر فيها لنتبين أن الإسلام دين الرحمة ودين الحرية ودين اللا إكراه في الدين، ولولا ذلك لما بقي في العراق أمة تعبد الشيطان ولا تدعي الإسلام والعراق كان حاضرة الخلافة العباسية. لقد مكث المسلمون حكاماً ومستوطنين في اللأندلس ثمانية قرون وعندما سقطت الأندلس بيد الفرنجة كان ما يزال حوالي نصف أهلها نصارى ويهود لم يتعرضوا لأي نوع من الإكراه في الدين، بل كان هنالك تقصير في دعوتهم وجذبهم إلى الإسلام.
علينا إن كنا فعلاً نريد تجاوز الإكراه في الدين الذي تفوقت فيه تنظيمات داعش والقاعدة وبوكو حرام وغيرها من تنظيمات إسلامية تسيء إلى الإسلام ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، علينا إعطاء مصداقية لما جاء في هذا الكتاب من فهم للإسلام يحترم حرية الناس ولا يكرههم في الدين على شيء. لا أقول أن تتبنى الأمة كل ما جاء فيه فالاختلاف طبيعة البشر ولن تتوحد الأمة على فهم واحد لهذا الدين إلى يوم الدين، إنما يمكن أن تقوم لجنة من العلماء بدراسته ويكفي إن وجدوه مفيداً أن يعلنوا أن الاجتهادات الواردة فيه هي اجتهادات مستساغة قد تكون صحيحة ولا حرج على من يشاء أن يأخذ بها.
كتاب الميزان هذا يحتوي تأصيلات لفهومات للإسلام من الممكن أن تكون مقنعة وتستطيع أن تواجه الإكراهيين وتثبت أن ما هم عليه ليس هو اليقين في فهم الإسلام وأن الإسلام يتسع لتدين قائم على اللا إكراه في الدين.
لن ننجح في تجفيف منابع الإرهاب الإكراهي ما لم نهز قناعات الأمة بفهوم لبعض نصوص القرآن والحديث الشريف يستخدمها الإكراهيون حججاً وأدلة على أن ما يرتكبونه هو الذي يرضي ربنا ويبرىء ذمتنا أمام خالقنا. لن تستطيع الحلول الأمنية والحروب أن تقضي على ما يسمى الإرهاب التكفيري، لأنك لن تخيف من يريد أن يموت، بل هو في عجلة من أمره، يريد الانتقال الفوري إلى الجنة ونعيمها، وحتى لو قضيتَ على أكبر عدد منهم، فإنك لن تقضي على المشكلة، لأن الأمة عائدة إلى دينها، وطالما اهتدى من المسلمين إلى الالتزام بهذا الدين أعداد كبيرة جديدة كل اليوم، وطالما تلقى هؤلاء العائدون إلى دينهم أو الداخلون الجدد فيه ما تراكم عندنا من تراث فقهي يؤصل للإكراه في الدين ولاستباحة دماء وأموال وأعراض كل من نعتبره مشركاً أو مرتداً أو كتابياً يأبى الدخول في الإسلام ويرفض أن يعطي الجزية عن يدٍ وهو صاغر، طالما استمر الحال على ما هو عليه، فإن كل إكراهي، أي إرهابي يُقتل أو يُؤسر، سيخلفه اثنان أو ثلاثة من المسلمين الذين يريدون اختصار الطريق إلى الجنة، وستكثر الضحايا منهم ومن الأمة ومن الأمم الأخرى.
أقولها ثانية: إنهم وضحاياهم ضحايا الموروث الفقهي الذي يقدم هؤلاء الشباب الإكراهيون الذي يسمون الإرهابيين أرواحهم رخيصة من أجل تحقيق بعضه في أرض الواقع، ومن يقتل على يديهم أو يؤذى هو ضحية جهاد نابع من هذا الفقه الموروث.
الأمة تشعر أن ما يرتكبه الإكراهيون من أفعال تحرج المسلمين، وتضر بقضاياهم وبسمعتهم، وتنفر الناس من الإسلام، تشعر أنه لا يمكن أن يكون ديننا يأمر بهذا... لكن الموروث الفقهي عندنا يأمر بما يرتكبونه. ومشكلتهم الكبرى من منظور هذا الفقه، أنهم يأخذون بأشد الأحكام، ويطبقونها بقسوة لا رحمة فيها، ويستسهلون قتل الناس بناء على اجتهادات موروثة، كانت محض اجتهادات أي آراء للفقهاء القدامى تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب.
3. ليسوا مجانين ولا سايكوباثيين
لابد لنا أيضاً ان نعلم أن هؤلاء الإكراهيون ليس منهم مرضى نفسيون أكثر مما من باقي الأمة، وأنهم ليسوا مجرمين يرتكبون ما يرتكبونه بدوافع إجرامية، حتى لو كان منهم أصحاب سوابق جنائية لكنهم تابوا واهتدوا أو دخلوا في الإسلام وهم في السجون. نعم من كان طبعه على مدى سنين طويلة أن لا يشعر بمعاناة البشر الآخرين ولا يتعاطف مع آلامهم، فيكون بلا ضمير، ويكون ممن لا يستحيون، ولا يلومون أنفسهم أبداً مهما ارتكبوا، من كانت هذه حاله ثم اهتدى إلى الإسلام، أو تاب وأراد أن يصلح، لن يكون من خيار الأمة حتى لو انخرط في الجهاد في سبيل الله مضحياً بحياته، ذلك أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم قال: خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا، وبالمقابل يغلب أن يبقى شرارنا في جاهليتهم، شرارنا بعد عودتهم للدين، وتكون لديهم الجرأة على العدوان على الناس بقسوة، إن ظنوا أن الجهاد في سبيل الله يستدعي منهم ذلك، فيبطشون إذا بطشوا جبارين، ويميلون إلى الأخذ بالفتاوى القاسية التي تبيح لهم دماء الناس بحجة الشرك أو الردة أو الفساد في الأرض. لكن في الأغلب لن يصل هؤلاء إلى موقع القيادة والريادة وتوجيه المسار، لأن طباعهم تجعلهم عاجزين عن القيادة والتخطيط المتروي، ويغلب أن تكون لديهم مشاعر إيمانية شديدة بلا فقه على الإطلاق أو بفقه قليل، وبطبعهم الأصيل الميال للعدوان فإنهم يكونون مجاهدين سيئين عندما يجاهدون. المهم هؤلاء ليسوا الأغلبية بل قد تضم أغلبية الإرهابيين الإكراهيين بعضاً من خيرة رجال ونساء هذه الأمة من حيث الإخلاص والرغبة في رضوان الله.
لن ننجح في القضاء على شرورهم ما لم نعرفهم ونفهمهم جيداً، لنعرف كيف نتعامل معهم بحيث يكفون عن عدوانهم أو يُقتلون أو يؤسرون. ويجب أن لا يدفعنا كرهنا لهم إلى أن لا نكون منصفين.. إنه متوقع من الحكام الذين يستشعرون من هؤلاء الإكراهيين الخطورة على مناصبهم أن يكون عداؤهم لهم شديداً، لكن الإنصاف والواقعية والتعامل الإسلامي الحق معهم هو الذي يدفع خطرهم وضررهم عنا جميعاً حكاماً ومحكومين.
4. بُغاة لا مجرمون
علينا أن نعاملهم على أنهم بغاة ونطبق عليهم أحكام البغاة لا أحكام المجرمين الجنائيين، وعلينا أن لا نعذب أحداً منهم أو نظن أنه منهم مهما بدا لنا أن المعلومات التي سننتزعها منه مهمة ومفيدة. لأن قسوة الجهات الأمنية في كثير من البلدان المسلمة ولدت حقداً في نفوس من تقع عليهم هذه القسوة وفي قلوب أهليهم وأصحابهم ومن لا يعلمون عنهم إلا خيراً باستثناء جهادهم الإكراهي الإرهابي. هذه الأحقاد تجعل الكثير من المسلمين يأخذون بالاجتهاد الذي يرى الحكام ورجال أمنهم الذين لا يتورعون عن البطش بلا رحمة وعن العدوان على المشتبه بهم، وعلى الذين وقعوا في الأسر منهم، يراهم كفاراً أو مرتدين أو منافقين، فتفرخ هذه الأحقاد إرهابيين إكراهيين جدداً، وتستمر السلسة لا انقطاع لها وتدوم معاناتنا وخسائرنا.
إن كانت هنالك شبهة كبيرة في أن واحداً من الناس هو منهم ويخشى خطره، فإن ديننا يحتم علينا إن ارتأينا أن نسجنه لنكف أذاه المحتمل، أن نعامله برحمة، إذ قد يكون بريئاً، وحتى لو كان منهم، فإنه باغ متأول يكفينا سجنه ولو مدى الحياة، لكن دون أن نعتدي عليه بالتعذيب الجسدي أو النفسي أو حبسه في ظروف غير إنسانية، كما لا داعي لاتقاء شره بإعدامه، بل يمكن بناء سجون تكون الحياة فيها لائقة بالبشر، وتكون فترة سجنهم فرصة لمحاولة إصلاحهم وإقناعهم بالاجتهادات التي يحتملها ديننا وتنهى عن الإكراه في الدين بإطلاق، ولا تنسى دولنا زوجاتهم واطفالهم، سواء كانوا إرهابيين إكراهيين، أو كانوا مشتبهاً بهم فحسب، فتنفق عليهم وترعاهم.
لن ينصلح الجميع بالتأكيد، لكن لو عاملناهم على أنهم إخواننا بغوا علينا، متأولين اجتهاداً فقهياً موجوداً في تراثنا، أو ابتدعه أحد من المعاصرين، فإننا سننجح أكثر في إصلاحهم، وسيتشجع من تصله رسائلنا الإصلاحية على أن يتركهم، ويعود إلى الصواب، لأنه يأمن على نفسه من أن يُقتل أو يُعذب، تماماً كما هو حكم المفسدين في الأرض، الذين يقطعون الطريق، ويشكلون عصابات مسلحة، تقتل وتسرق وتغتصب، فإنهم تسقط عنهم عقوبة الدنيا إن هم تابوا من قبل أن نأسرهم ونقدر عليهم. وما ذلك استهانة من ربنا بحقوق ضحاياهم، إنما هو إبقاء لخط رجعة لهم، يسهل توبة من يقرر التوبة منهم، بدل أن يدفعه خوفه من العقاب على ما ارتكب من جرائم إلى أن يستميت في الدفاع عن نفسه، كي لا نأسره، ويُفضِّل أن يقاتل المجتمع حتى يُقتل أو يموت، وهو في دفاعه المستميت عن نفسه، يقتل ويسرق ويغتصب أعداداً كبيرة من الأبرياء، الذين ما كانوا ليصيبهم الأذى لو كان قد تاب من قبل أن تجمعهم به الأقدار.
5. إكراهيون وإرهابيون
مفهوم الإرهاب فيه غموض وعدم تحديد، بحيث يراه أغلب المسلمين المتدينين، مجرد تسمية قبيحة للجهاد في سبيل الله، لا تضر من صدق النية وباع نفسه لله، يقاتل في سبيله، فيقتُل أو يُقتل. إننا عندما نقول عنهم إرهابيين، ونحاربهم نريد استئصالهم لأنهم إرهابيون، نكون قد أسدينا لهم خدمة عظيمة، لأن أغلبهم وأغلب المتدينين لا يميزون بين الجهاد والإرهاب.
والأنكى من ذلك أنهم يُحارَبون لأنهم جهاديون، وهم وباقي المؤمنين المتدينين يرون الجهاد أحب الأعمال إلى الله بعد الإيمان به. إن مهاجمتنا لهم بحجة أنهم جهاديون إرهابيون تكفيريون تجعلهم أكثر إصراراً على ضلالهم، وتُكسبهم تعاطفاً أكبر من المتدينين في أنحاء العالم كلها، بحيث لا تنقطع عنهم المعونات المالية، وبحيث ينضم إليهم كل يوم المزيد من شباب هذه الأمة.
بالمقابل عندما نعيب عليهم أنهم إكراهيون ونبين لهم بالأدلة الشرعية القوية أن الأصل في الإسلام هو "اللاإكراه في الدين"، ونستفيد من كتابي هذا في تأصيل هذا المبدأ العظيم، ونروّج للاإكراه في الدين في وسائل الإعلام، وفي المناهج الدراسية، ليتسع أفق المسلم المعاصر، وليرى هؤلاء الإكراهيين مخطئين رغم صدق نياتهم ونبل أهدافهم، فإننا سننجح بعون الله نجاحاً عظيماً في تجفيف منابعهم، وفي جعلهم مجرد ظاهرة وموجة، مرت بها أمة الإسلام وتجاوزتها، ولن تقع فيها من جديد أبداً.
الجهاد عبادة عظيمة في الإسلام، والمسلم المخلص لن يثبطه أن نسمي الجهاد في سبيل الله إرهاباً، ولن تنفّر هذه التسمية ملايين الشباب المسلم العائد إلى دين الله، فلا ينضم إليهم ولا يؤازرهم بالمال والجهد والخبرة.. بينما الإكراه في الدين شيء بغيض تستنكره الفطر السوية للمسلم وغير المسلم، وبخاصة إن أثبتنا للناس أن الظن أن الإكراه في الدين مرغوب ومطلوب في دين الله ظن خاطىء.
إن محاربة فكر الإكراه في الدين لا محاربة "الجهاد من أجل تطبيق الشريعة" لن تستثير غَيْرة الكثيرين ليدافعوا عنه. بل محاربة الإكراه في الدين بهذا الوضوح، سينهض بالأمة إلى درجة أعلى وأرقى في فهم دين الله كما أراده الله. وسيجعل الأمة -ممثلة في متدينيها وإسلامييها- تتبنى إيديولوجيا جديدة، فتسعى لاستعادة عزة المسلمين، ولتحكيم شرع الله، لكن دون إكراه، بل ستكون إيديولوجيا قائمة على الإيمان، بحرية الإنسان المستخلف في الأرض، والمسؤول عن خياراته وأعماله.
لا يمكن أن نقضي على الضلال ما لم ننشر الهداية، ولن نقضي على الزنا ما لم نيسر الزواج، ولن نقضي على الربا ما لم نيسر التجارة والاستثمار الحلال. لا بد من ملء الفراغ الذي ينشأ، عندما يزول الباطل، فالباطل كالظلام، لا يمكن طرده إلا بإحلال النور محله.
إن المصلحة تقتضي ترويج فكر اللاإكراه في الدين حتى لو كانت قناعتنا به لم تكتمل ولم تترسخ، لأن خطر الإكراهيين علينا جميعاً خطر عظيم، سيقضي علينا إن لم نقضِ عليه نحن أولاً. علينا أن نتجاوز تعصبنا لمذاهبنا المختلفة، ونتخلص من فرح كل حزب منا بما لديهم، أي اختيالهم وفخرهم بما عندهم، وازدراؤهم للآراء المخالفة التي تقوم عليها المذاهب الأخرى، فتعمى الأبصار وتُصَم الأسماع عن الحق الذي لا نجاة لهذه الأمة، وللبشرية من ورائها إلا باتباعه.
6. الإسلام المعتدل
إن أعداء الأمة ومعهم أصدقاؤها المتضررون من جهاد الإكراهيين، يدعونها إلى تطوير فهم معتدل للإسلام، ليبرالياً أو غير ليبرالي، بحيث يصبح إسلاماً مسالماً لا مخالب له، وهم لا يدركون أنه دين، وأن ليّ أعناق نصوصه، ونشر الفهوم المرجوحة لها، عن قصد وتعمد، إنما هو خروج من هذا الدين، واختراع لدين وضعي بشري بدلاً عنه، لا ينفعنا في آخرتنا، ولن يقبله الله منا، بل سيكون رداً علينا.
كتابي هذا يبين ان العودة إلى النصوص وفهمها فهما مباشراً لا تأويل فيه، ولا يخرجها عن سياقها التاريخي، ولا عن سياقها ضمن المنظومة الفكرية المتكاملة للإسلام، هو الخلاص مما نحن فيه، وهو العودة إلى الاعتدال الذي أفقدنا إياه، سوء فهم أجدادنا لبعض النصوص، عندما بنوا فقههم على أصول قائمة على الفلسفة والمنطق، اللذين دخلا في صميم فهم المسلمين لدينهم، وقامت علوم اللغة عليهما، ليقوم الفقه على علوم اللغة، وعلى أصول اجتهد فقهاء متأثرين بها في وضعها، فجعلت العِبرة في "عموم اللفظ"، لا في "خصوص السبب"، منتزعة بذلك النصوص من سياقها ضمن منظومة الإسلام ككل، ومن سياقها التاريخي الذي لا يمكن فهمها الفهم الصحيح دون اعتباره، وسيكون فهمنا لها مدعاة للغلو والتطرف عندما ننزع النص من سياقه ونستنتج منه مبادىء شاملة ومُطلقة، ثم نأخذ بها، ونؤوّل النصوص الباقية في ضوئها، هذه المبادىء التي نظنها الحق وهي ليست منه.
إنها السلفية الإسلامية عندما تبلغ أعلى وأرقى درجاتها، فتصبح "سلفية نَصِّيّة" تقرأ نصوص الإسلام من جديد ضمن سياقاتها الطبيعية، فتدرك أن كلمة "الناس" مثلاً، لا تعني البشرية كلها في كل نص جاءت ضمنه، وأنها كانت بلغة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تعني أهل قرية من القرى أو حي من الأحياء أو حتى أمة بعينها لا تتعداها إلى غيرها، فنعلم أن الناس في القرآن والحديث الصحيح قد تعني العرب الذين فيهم بُعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو حتى بعضهم "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم"، ونفقه ديننا كما فقهه الصحابة الذين تركوا لنا تاريخهم، ولم يتركوا لنا كتباً ولا مراجع تفلسف فقههم وتضع له الأصول.. وبالتأكيد لن نختلف على أن الصحابة الذين فتحوا أصقاع العالم القديم، ووصلوا إلى مشرقه ومغربه، لم يُكرهوا مشركاً واحداً على الإسلام خارج أرض العرب، ولم يخيِّروا أحداً بين الإسلام والقتل سوى مشركي العرب في جزيرة العرب حصراً. لا نحتاج إلى أصول يجتهد العقل البشري في وضعها ليصبح أسيراً لها، فلا يفهم نصاً قرآنياً أو نبوياً إلا وفقها، حتى لو كانت البداهة الإنسانية common sense تنكر هذا الفهم وتتعارض معه.