الموقف : بين الصدق والجدية وبين المناورة والمداورة
في عالم النقانق السياسي
شبه دبلوماسي غربي يوما العمل السياسي بأكل النقانق . وقال رغم كل البهارات لابد أن يستشعر الآكل لها ( طعم البراز فيها ) . التشبيه مقتبس ومعبر ، ويقرب المعنى المطلوب في عالم يصنع سياساته قوم مولعون بأكل النقانق عند الصباح ، وعند المساء .
ننزعج ، وننفعل ، ونستغرب ، ونحتج ؛ عندما نجد في عالم الدبلوماسية عدوا يصافح عدوا ، ويبتسم له ، ويخرج بعد لقاء عدمي لم يتحقق فيه شيء معه ، ليقول : اتفقنا على الاستمرار في الاتصال ..
التواصل بين الأعداء ...والخصوم ..وحتى المخالفين، في عالم أكل النقانق هذا ، ليس جسرا يبلغ كل قرين قرينَه : ما الذي يريده ؟ وكيف يريده ؟ ومتى يريده ؟ وماذا يقنعه منه ؟ ..
لافروف مثلا لا يقول لكيري في لقائه معه حول الملف السوري : سنظل نقتل في سورية النساء والأطفال ، لنكشف عجز رئيسكم وضعفه ولامبالاته بالشعب السوري ؛ وحتى تسلموا لنا ما فعلنا في أوكرانيا ، وترفعوا عنا العقوبات التي فرضتموها علينا مع شركائكم الأوربيين ، وإنما يظل يداور بالحديث عن التخويف من الإرهاب ، والحفاظ على سيادة الدول . وكيري لا يرد عليه بالقول : اقتلوا من السوريين من شئتم ، وما شئتم ، فهؤلاء الناس لا يعنون لنا شيئا ، بل هم على الحقيقة إما عدو مجاهر أو عدو محتمل ، ونحن سنعرف كيف نقلب معادلتكم عليكم ، ونحمل بوتين مسئولية الجريمة التي تحدث هناك ، حتى تتعزز العداوة لكم في الشعوب العربية كما تعززت لنا بسبب ما اتهمتونا به من أننا الوحيدون الذين دعمنا إسرائيل . كيري هو الآخر يناور فيتحدث عن القانون الدولي وحقوق الإنسان والجريمة والمسئولية ، ويظل الرجلان يتجادلان ، بطعم النقانق الذي أشار إليه الدبلوماسي العريق الذي نقلنا قوله أعلاه ...
( النقانق السياسي ) هو نوع من الحرب ، يرمي العدو عدوه ، والخصم خصمه بقذائف من نوع ( رفع المصاحف حكما ) يوم صفين . قذيفة تبلبل الآخر ، وتشق صفه ، وتجعله غير قادر على الإجابة بما يتيقن أنه الحق ( لئلا يتحدث الناس ..).
في عالم ( النقانق السياسي ) ، يسارع لافروف إلى الإعلان عن العصابة الأسدية – مثلا – الموافقة على اتفاق ( كيري – لافروف ) الذي هو أشبه بأكل النقانق بحشوتها الطبيعية ، وبدون أي بهارات .
ولافروف الذي سبق إلى إعلان الموافقة على الاتفاق عن بشار الأسد ، أليس قد احتفظ بحقهما بقصف الإرهابيين الذين ما زالوا لا يقصفون غيرهما منذ بضع سنين ...
وينتظر لافروف أن يحدث الاتفاق ( القذيفة ) البلبلة في صفوف الآخرين : يقبلون ..أو لا يقبلون ؟ كيف يقبلون ؟ وهم يرون رأي العين ماذا يُراد بهم ، وماذا يُدبر لهم ؟ ويكثر التحليل الموضوعي ، والشرح الصدقي ، والقراءة الجدية ، ويتلمس المألوم ألمه ، والمجروح جرحه ؛ ويسألك كيف نقبل ، وإلى أين نصير ...؟!
ويبرز في الطريق إشكال آخر ، هو أن الكذاب الذي مرد على الكذب معتمدا على قوة طغيان تدعمه ، يظل كذبه وادعاؤه ومجاحدته مدعوما بقوة العدوان تسوغ وتبرر وتناور وتتملص في كل لحظة ، بينما يبقى أي إعلان من الطرف الآخر بمثابة التنازل الملزم ، الذي يحيط برقبته ، حتى لا يكاد يجد منه فكاكا على مدى الأيام ...
ويبقى السؤال المطروح في مثل الحال الذي نحن فيه : أنصدع دائما بالحق الذي نرى ، ولا نبالي غضب من غضب ، ورضا من رضي ..أم نرفض أن نخدع بخبابة أهل الخبابة ، بل نرد خبابتهم عليه ، فنجيبهم بلغتهم وعلى طريقتهم ، وبما يرد فتنتهم عليهم ، ويكشف ادعاءهم ، ويحبط مكرهم ، ويحاصرهم في مربع الشر الذي رسموه ..؟
وسوم: العدد 685