ما حوته الحاويات كاشفة عن كوامن الهويات
خرجت من موطني العراق عام 1980م ولم أزر من مدن وادي الرافدين وأقضيته إلا القليل القليل، وعدت إليه عام 2003م وما بعده وزرت كل مدن العراق الثماني عشرة إلا الرمادي بفعل الوعكة الأمنية التي ألمّت بجسد العراق وازداد ثقلها على كتفه الغربي، ومن المدن التي كنت أتشوق الى زيارتها ورؤية أهلها وتنسم هوائها البحري والنهري هي ثغر العراق الباسم البصرة (ثغر الخير) التي حباها الله بالماء والخضراء والوجه الحسن، ومنها حبانا برفيقة درب جمّ المصاعب، وزاد من حسنها خليجها وشطها ونهرها وصيّرها عروسا تجلس على "كوشة" من ذهب أسود، وكنت أحبس أنفاسي لأرى نهرها الذي يشقها نصفين، وأحسب أني سأرى كما رأيت من قبل نهر السين في باريس أو نهر التايمز في لندن أو نهر التيبر في روما أو حتى نهر الكارون في خوزستان، ولكن الأنفاس استحالت الى زفرات وآهات حيث شاه البصر بما رأى من صور، مناظر موحشة دافعة لا جاذبة، حيث الأوساخ والأزبال ومخلفات المنازل والمحال تغطي النهر من جانبيه الى قاعه، وتباطأت حركة تياره بمصدات الأزبال وبخاصة تلك التي يرمي بها أصحاب المحلات والدكاكين المطلة على النهر الأسير.
وما عاد نهر العشار كما رأيته ودرسته من قبل في مادة الجغرافية سيالا بمائه زاهيا من طرفيه يزين المدينة العامرة .. فهل نلوم السلطة المحلية أم نلوم الناس أم نلوم الظروف وشعار الإسلام (النظافة من الإيمان) الذي جعل الغسل عبادة والنظافة عقيدة، وعلى مقربة من النهر رأيت أكوام الزبالة على طرف شارع فرعي، ثم تساءلت مع نفسي، هل من واجب السلطة أن تضع حارسا على باب كل دار تحسب عليه أكياس مخلفاته ونظافته وطهارته، كدت أتهم السلطة المحلية لأنها لم توفر حاويات لولا أن قريبا لي من أهل البصرة قرأ ما يدور في بالي وقال سأريك بما يسد نهمة سؤلك واستغرابك وغربتك، فدلني على بيت وقال انظر من خلال الباب المفتوح الى نهاية الدار، فسرقت نظرة خاطفة ورأيت حاوية البلدية وقد تسلقت عليها مجموعة من الأجهزة البيتية، فابتسم صاحبي وقال أرأيت؟ لقد استولى هذا الجيران المسلم المصلي على الحاوية الكبيرة التي وضعتها البلدية واستخدمها مخزنا له، وأردف قائلا: ولكنه ليس بدعًا عن غيره ففي كل زقاق هناك من استولى على حاوية وعلى المال العام مما يضطرنا الى رمي الزبالة في نهاية الفرع ونحن نعرف أنها موبيء للمكروبات ومنبع للأمراض.
وليس نهر العشار في البصرة هو الآخر بدعًا من الأنهر في العراق التي تحولت الى قنوات للمكبات والمخلفات ومراتع للأمراض، ومثله نهر الحسينية في كربلاء المقدسة من جانب منطقة البوبيات التي لا تبعد عن الحرم الحسيني الشريف سوى بضعة مئات من الأمتار، حيث تحول الى مكب للأغراض المنزلية من ثلاجات وطباخات ودواليب وكراسي ومخازن الملابس وأمثالها فشوّه منظر الماء الجاري الذي هو نعمة من نعم الله نكفر بها عندما نضع شعار (النظافة من الإيمان) جانبا ونرمي الأوساخ في ما يحرم الرمي فيه ثم نفتخر أننا من جيران سيد شباب أهل الجنة، وقد حولنا مدينته المقدسة الى مكب للأوساخ وخضارها الى يباب وأرصفتها الى مطابخ ومضافات ونفايات، وشوارعها الى مواطن للنجاسة عندما يتم نحر البعير أو ذبح الشاة أما أنظار السابلة والدماء تسيح على الأرض وهي نجسة منجسة تحت دعوى ثواب الإطعام، فنطعم الزائرين وننجس أبدانهم التي بها يريدون الدخول الى حرم سيد الشهداء (ع) وأخيه العباس (ع).
الوقاية طريق المناعة
الصور كثيرة وكلنا نستهجن النجاسة، ولكن من أين تأتي الزبالة والأوساخ في مدننا السياحية والدينية ناهيك عن المدن الأخرى؟
سؤال لا يحير المرء في الإجابة عليه، لأن النظافة مسألة فطرية، ولهذا جاء المأثور (من الإيمان) ولم يقل من (الإسلام)، لأن الإنسان السوي يدرك أن النظافة مسألة فطرية يومية وعقلائية، إن حثّ عليها الدين أو لم يحث، فهي لازمة دورية وممارسة دائمة دائبة لا منقطعة.
هذه الحقيقة شغّل مكنستها المحقق الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتيب (شريعة النظافة) الصادر في بيروت حديثا (2016م) عن بيت العلم للنابهين في 40 صفحة ضمت بين أسطرها (81) مسألة فقهية إلى جانب 8 تعليقات مع مقدمة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، صدّره الفقيه الكرباسي بتمهيد أوضح معنى النظافة وفرقها عن الطهارة ودور الإسلام في التأكيد على النظافة بوصفها ممارسة عملية وتطبيقية لمفهوم الإيمان.
ولا يخفى أنّ النجاسة والطهارة تدخلان عاملا مهما ومائزا في إداء الفروض والنوافل وعموم العبادات والمناسك، فهي مرحلة متأخرة عن النظافة، فربما يكون البدن وسخا أو الملابس وسخة وهذا مما لا يحظر العبادة، وما يمنع هو حينما يصيب البدن او اللباس أو مكان العبادة النجاسة، فيحتاج عندها الى طهارة، من هنا قال الفقيه الكرباسي في التمهيد: (لقد اصطلحنا بإطلاق النظافة على سائر الأمور التي تشمل النقاوة مما لا يدخل تحت عنوان الطهارة التي اصطلح عليها الفقهاء والتي عرفت بالمطهرات في قبال النجاسات، فهذا المعنى هو المعنى اللغوي الدال على خلو الشي من الوسخ والدنس ليكون نقيًّا طيِّبًا، وما يفصله عن المطهرات أن الأول عام يشمل الثاني، ولكن الثاني خاص بالتجنّب من نجاسات معينة حدّدها الشرع حيثما وجدت، فإن تداولها يوجب الكثير من الضرر، ومن هنا أمر الشرع بإزالتها وتطهيرها مادية كانت أو معنوية، وأما النظافة فهي إزالة الوسخ)، فالنجاسات غير الأوساخ، فالأولى غير منجزة للعبادات والثانية منجزة، وفي ذلك يضرب الشيخ الكرباسي مثلا في لباس المصلي، فالطين كثر او قل الملتصق بالثوب لا تحيله نجسا وتصح فيه الصلاة، ولكن الدم والبول والغائط وأمثالها قليلها يحيل بين المرء والصلاة، ولأن الفطرة ترشد البشرية الى إتباع ما صحّ من أمور الحياة فإن الإسلام الموافق لناموس الحياة كما يضيف الفقيه الكرباسي: (هو بحد ذاته دين نقاوة وطهارة ونظافة، حثّ أتباعه بل وغيرهم على نقاوة الظاهر والباطن وعلى نظافة النفس والجسد، بل شمل كل شيء يمتلكه الإنسان أو يستخدمه، ووصل أمر هذه النقاوة إلى أن عدّها الإسلام من الإيمان، فمن لم يلتزم بالنظافة لم يكن مؤمنا بمفهوم ما روي عن الرسول(ص): النظافة من الإيمان) وما جاء في الأثر: (تنظّفوا فإن الإسلام نظيف).
وظاهر المرء كاشف عن معتقده وإيمانه ونظافته وطهارته، وكما يفيد الفقيه الكرباسي: (الإسلام ليس عقيدة فحسب بل ممارسة وتطبيق، فالإتّباع هو المأمور به من حيث الشرع، والإتّباع لا يتحقق بالقول فقط بل به وبالعمل، وقد قال تعالى: قل صدَق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا. آل عمران: 95)، وحتى لو لم يدعُ الدين الى النظافة فإن واقع الحياة حاكٍ عن أهمية النظافة والطهارة في حياة الإنسان، لإن الوساخة باعثة على القذارة والقذارة مقدمة للنجاسة والنجاسة حاضنة للجراثيم والمكروبات الضارة والحاضنة مرتع الأمراض والأوبئة، ولما كانت القاعدة العقلائية (الوقاية خير من العلاج) والقاعدة الفطرية (الدفع أولى من الرفع)، فإن الوقاية من الحواضن الضارة خير من العلاج من آثارها المدمرة، ودفع السوء ومسبباته خير من رفع الضرر وتبعاته، وخلاصة الأمر في النظافة كما يذهب إليه الفقيه الكرباسي أن: (الإسلام يريد أن يكون المسلم صاحب مناعة يبتعد عن البيئة التي يمكن أن تنمو فيها الجراثيم وتساعده على نشر المرض والعدوى، والأجواء النقية والملابس الطاهرة هي خير طريقة للإحتراز عن ذلك ..).
النظافة معيار الفطرة السليمة
من الثابث أن النظافة يقابلها الوساخة والنجاسة هي الضد النوعي للطهارة، والوساخة بالامكان ازالتها بالمزيلات وكذلك النجاسة، ولكن مزيلات النجاسة في الدائرة الفقهية مختلفة كليا عن المزيلات في الحياة اليومية، وكما يضيف الفقيه الكرباسي في التمهيد: (ومما يمكن أن نميّز الطهارة عن النظافة حسب المصطلح الفقهي المتداول أن في الطاهرة لابد من الإلتزام بمواد مطهرة نص الشرع عليها وهي الماء والتراب والشمس والأرض، بينما في النظافة لا يخصص بشيء معين، بل كل مزيل للتلوث يتكفّل أمر التنظيف) حيث أن الطهارة في المناسك تتم عبر الوضوء والغسل والتيمم، من هنا فإن النظافة وهي مستحبة تصبح كما يرى الفقيه الكرباسي واجبة: (إذا كان خلافها مضرًا للإنسان ضررًا بالغًا)، ومن الوجوب: (غسل الجنابة والحيض والنفاس والاستحاضة وغسل الميت وغسل مس الميت)، وحتى يضفي الإسلام على الأغسال وهي عبادة صفة القداسة أفرد مجموعة من الأدعية تقرأ في كل موضع للنظافة أو الطهارة، أو عند أداء بعض الأعمال اليومية مثل عند (لبس الحذاء وخلعه)، أو عند (حف الشارب وتقليم الأظافر)، كما يكره في بعض الموارد ما اجتمعت عليه الأيادي حيث: (يكره مسح شخصين بمنديل واحد، بل يستحب أن يخصص لكل شخص منديل) والكراهية: (تشمل الوزرة بعد الإستحمام)، كما (يُكره أن يشارك الزوجان في منديل واحد لدى الجماع)، و(يكره إبقاء القمامة في البيت ليلًا) و(يكره التبول والتغوط في الماء وبالأخص الراكد منه)، وفي بعض الأحيان تتحول الكراهية الى حرمة اتساقًا مع الذوق البشري واحترامًا له ومنعًا للضرر العام مثل: (يحرم التغوط والتبول في الأماكن التي تسبب ضررًا للناس).
في الواقع أن كتيب (شريعة النظافة) الذي هو واحد من ألف كتيب في مسائل الشريعة طبع منها حتى اليوم 57 شريعة، يشكل إضافة فقهية حديثة تضارع متطلبات الحياة اليومية، وكما يؤكد الفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري في تعليقه: (فقد بذل المؤلف الخبير سماحة آية الله الكرباسي حفظه الله كسائر الفقهاء جهدًا علميا لبيان الأحكام الشرعية التي تختص بالنظافة مع ذكر سريع للطهارة المطلوبة من قبل الشارع الحكيم في العبادات)، وهو جهد فقهي قيّم، والعبرة في التطبيق والتحليق في فضاءات النظافة البدنية والطهارة الروحية، فما حوته الحاويات كاشفة عن كوامن الهويات.
الرأي الآخر للدراسات- لندن
وسوم: العدد 685