حاملة الطائرات الأمريكية-اليهودية وتأكيد الثابت السياسي
وُصفت حزمة المساعدات العسكرية الأمريكية الجديدة لكيان يهود، بأنها الأكبر من نوعها في تاريخ العلاقة بين الطرفين، وجاءت بقيمة 38 مليار دولار على مدار عشر سنوات، وقد ارتفعت عن الحزمة السابقة (التي بلغت 30 مليار دولار)، وسيبدأ تطبيق الحزمة الجديدة عام 2018، بعد توقيع مذكرة تفاهم بين البلدين، تمخضت عن مسيرة طويلة من المفاوضات السرية، وجاءت في أجواء من المناكفة الليكودية مع الديمقراطيين في الإدارة الأمريكية. هذا المقال يسلط الضوء على هذا الاتفاق وأسبابه، وأبعاده السياسية الداخلية والخارجية.
إن المساعدات الاقتصادية والعسكرية هي أداة من أدوات القوة الناعمة التي ترسخت في السياسة الأمريكية الخارجية، وفي سعيها للهيمنة العالمية، وكانت أمريكا قد أقرت لأول مرة بفائدة المساعدات الخارجية كأداة دبلوماسية في الحرب العالمية الثانية، لما لها من تأثير في تعزيز الرأسمالية الليبرالية لدى حكومات العالم، وفي ترسيخ الأمن القومي (Encyclopedia of American Foreign Policy).
ومن المعلوم أن التبني الأمريكي لكيان يهود تزامن مع الانطلاق الأمريكي خارج القارة الأمريكية، ولذلك فإن رعاية هذا الكيان المسخ هو أداة من أدوات السياسة الخارجية، وكانت أمريكا قد أخذت تُحكم قبضتها على دولة يهود بعد أن كان ولاء قادتهم الأوائل لبريطانيا، وذلك من خلال التسليح ومساعدة جيش يهود وربطه بالمساعدات الأمريكية.
ولهذا يجب فهم سياق هذه المساعدات ضمن هذه الخلفية الراسخة في السياسة الخارجية: إذ هي الإغراء الأمريكي لقادة يهود ليستمر أداؤهم على "حاملة الطائرات الأمريكية" المتقدمة. وقادة يهود يصرّحون بذلك الدور، ويساومون على ذلك الأجر، كما "اعترف" شارون، وكما ورد على لسان وزير جيش الاحتلال الأسبق موشيه آرنس عندما أكّد أن دولته "تمثل حاملة طائرات أمريكية ثابتة" (صحيفة فلسطين 17/2/2015)، حيث تم استحضار ذلك عند تصاعد المناكفات، وعندما لوّح أوباما بإعادة تقويم الدعم الأمريكي لكيان يهود خلال العام الماضي.
وتعتبر المساعدات الأمريكية لكيان يهود الأكبر ضمن قائمة المساعدات، حيث تزيد عن نصف المساعدات الأمريكية للعالم أجمع، (روسيا اليوم). وكانت تلك المساعدات توزع كمساعدات عسكرية واقتصادية حتى تمكن نتنياهو خلال فترة حكمه السابقة من مساومة الكونغرس الأمريكي على أن تتحول كلها إلى عسكرية مع العام 2008.
وتُخصص هذه المساعدات لتأمين التفوق العسكري الصهيوني في المنطقة: وقد تضمنت حزمة المساعدات الجديدة تعديلات على طرق صرف الأموال ونوعية المواد التي يمكن شراؤها، إلى جانب تقديم الدعم لعقد كامل من الزمن لبرامجه الدفاعية الصاروخية على أن يلتزم بعدم ممارسة أي ضغط داخل الكونغرس للحصول على أموال إضافية. وفي المقابل، ينص الاتفاق على تعهد من جانب الكيان اليهودي بأنه سينفق جميع الأموال في نهاية المطاف عبر المؤسسات الدفاعية الأميركية.
وقد نشر موقع فضائية الغد (14/9/2016) أنه قد تم "تسريب بيان يوضح شروط حزمة المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل"، تضمن أنه سيتم تخصيص "500 مليون دولار سنويا لتمويل برنامج الدفاع الصاروخي الإسرائيلي. وأنه سيتم "إلغاء تدريجي لترتيب خاص سمح لإسرائيل على مدى عقود باستخدام ربع المساعدات الأمريكية للإنفاق على صناعتها الدفاعية بدلا من شراء أسلحة أمريكية الصنع". وهكذا يسمح الاتفاق الجديد للكيان الصهيوني بالتعامل مع شركات التسلح الأمريكية، ولتطوير الصناعات العسكرية، وقد جاء في تصريحات لنتنياهو على موقع هنا في 17/9/2016، "هذه الاتفاقية ستساعدنا في مواصلة بناء قوتنا العسكرية وتحسين دفاعاتنا المضادة للصواريخ".
وقد صار من المعلوم بداهة أن أمريكا تعتبر "أمن إسرائيل من أمن أمريكا"، وكان أوباما قد جدد ذلك المبدأ عندما قال "التزامي بضمان أمن اسرائيل لا يتزعزع وسيظل دائما هكذا." (رويترز 22/5/2015). وتزداد الحاجة لهذا الالتزام الأمني مع تفجر الأوضاع في المنطقة.
وضمن سياق التعليق على هذا الاتفاق، قال أوفير جندلمان، المتحدث باسم رئيس الوزراء الصهيوني (فرانس 24 في 15/9/2016) بأن كيانه يستعد "للسناريوهات المحتملة"، وتحدث عن خطورة ما وصفه "الإسلام المتطرف". ولا شك أن سيناريو سقوط نظام بشار وتهاوي الأنظمة المحيطة به مع سقوطه وانبثاق نظام خلافة إسلامي عالمي هو أكثر السناريوهات رعبا بالنسبة للكيان الصهيوني.
لذلك فإن العلاقة بين الكيان اليهودي وأمريكا هي "المصالح المتبادلة"، وتجمعها فوق ذلك حالة العداء المشترك للأمة الإسلامية والتخوف من نهضتها من كبوتها الطويلة. ولذلك قال جندلمان "هذه المساعدات لاتحمي مصالحنا الأمنية بل تحمي أيضاً المصالح الأمنية لأمريكا".
وتوقيت هذه المساعدات مرتبط بموعدها الدوري (لكل 10 سنوات)، حيث حان موعد التجديد، وجاء هذه المرة بعد الاتفاق النووي مع إيران، مما تطلب بعض الاسترضاء للكيان الصهيوني المعارض للاتفاق. وتزامن أيضا مع حالة السباق الانتخابي الأمريكي، وحاجة الحزب الديمقراطي لتلطيف الأجواء الانتخابية، وعدم إثارة الناخبين الداعمين للكيان الصهيوني، ومحاولة تحييد مواكينهم الإعلامية عن الطعن بالديمقراطيين في عدم العمل على مصلحة أمريكا عبر دعم الكيان الصهيوني، مع التجنب لأن يقوم نتنياهو باستغلال مؤيديه في "لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية" (آيباك) لخدمة الجمهوريين في سباقهم الانتخابي ضد الديمقراطيين.
وخلاصة القول أن هذه المساعدات هي أداة سياسية للاحتواء عبر سياسة الإغراء، تساعد أمريكا في توجيه دولة اليهود حسب مصالحها، ولتأمين التفوق العسكري الصهيوني، كالتزام أمريكي بأمن الكيان الصيهوني، وضمن التخوف من سناريوهات محتملة في المنطقة تغيّر الخارطة السياسية والحضارية، وحري بمن يراهن على "عدالة" أمريكا في الحل السياسي أن يصحو من غفلته، بل من سكرته.
وسوم: العدد 688