لماذا لم تنجح الثورة السورية؟
قد تكون مقالتي هذه قاسية ومُحبِطَة. جاء الوقت كي نقف وقفة شجاعة مع الذات، ونحاول أن نفكّك الثورة السورية، لسبر أسباب عدم نجاحها إن أمكن. ما كان ممكناً للثورة السورية إلا أن تندلع، بقناعتي، ولكن هذا شيء ومسألة محاولة فهم أسباب عدم نجاحها شيء آخر. هنا ثلاثة معطيات أو أسباب أعتقد أنها بنيوية في مسألة تفكيك مسبّبات عدم تحقيق الثورة أهدافها:
أولا، جاء قادة المعارضات السورية من الرحم الفكري والتـنظيري السياسي والثـقافي والوجودي والسيكولوجي نفسه الذي أولَدَ أيضاً النظام الذي ثارت الثورة عليه. هم يحملون الجينات الفكرية والسيكولوجية والماهيوية نفسها التي يحملها النظام. من يقرأ سلسلة روايات صراع مصاصي الدماء مع المستذئبين الشعبية يدرك هذه النقطة، ويستطيع تصورها ذهنياً: عشيرة مصاصي الدماء (الفامبير) وعشيرة المستذئبين (اللايكن) جاءتا من الوالدين نفسيهما (الكائنين المصاص-المستذئب الأولين، والرواية تحكي عن قصة حب جارف وعشقٍ محموم روميو-جوليتي بينهما بطريقة تدعو للتأمل العميق)، ويحملان الجينات نفسها، وما تتمتع به الأخيرة من عناصر قوة وضعف وعيوب على حد سواء. وما عداؤهما القديم والدائم لبعضهما إلا بسبب أن كلاً منهما يسعى إلى الهيمنة على جنسهم جينياً من خلال لا إفناء الشقيق، بل من خلال تحويل الشقيق جينياً إما إلى فامبير آخر، أو إلى لايكن (لا بل وهناك أفراد من الطرفين يحاولون أحياناً المزج بين الاثـنين، وإيجاد خريطة جينومية جديدة من كليهما معاً، في دلالةٍ لا تقل عمقاً واستحقاقاً للتأمل عن سابقـتها). يوماً ما تحدَّث أيضاً في نسقٍ أدبي مختلف عن الفكرة نفسها، وديناميكية تمظهراتها كل من فيودور دوستويفسكي في "الأخوة كارامازوف" ونيكوس كازنتزاكس في "الأخوة الأعداء".
ثانيا، إصرار المعارضات، بل وقرارها الصارم، بتسليم زمام تقرير مصير الثورة وقيادتها
والنطق باسمها والوصاية عليها لرجال ونساء ذوي عقلية وآليات تفكير تديـُّنية (ليس بالضرورة دينية دائماً) وكهنوتية وإفـتائية ووصائية. يخبرنا تاريخ الفكر الإنساني والخبرة البشريين في الألفين المنصرمين أنَّ مفهوم "ثورة" صنعه وطوره فلاسفة وعلماء اجتماع ومفكرون وشخصيات عامة حملت رؤية للعالم (Weltanschauung) علمانية ولادينية، كي تعبِّر بها عن تمردٍ على أفكار مثل "السلطة" و"الوصاية" و"المرجعية" و"التبعية" و"التمثيل العلوي الفوقي"، وعلى تمظهرات تلك الأفكار، سواء الدنيوية أو الدينية الإكليريكية أو المشائخية منها، فكيف يتم تسليم زمام حراكٍ ثوريٍ بطبيعته لأولئك الذين يمثلون، بحيثياتهم ومواقفهم وآليات تفكيرهم، ما تقوم الثورات عادةً ضده وفي تضادٍّ معه؟ كيف نسلم زمام مسألة شفاء جسمٍ ما من مرضٍ عُضال لذاك الذي تقوم فكرة "الشفاء" بحد ذاتها على اعتباره أحد أعراض المرض العضال ومسبباته أصلاً؟ من المستحيل لمعارضة كهنوتية وصائية دغمائية دينية أن تصنع ثورةً بمصادر تـفكير ومعرفة واستلهام عـقولها التي لا تمثل في بنيتها أي تربٍة مفاهيميةٍ أصيلةٍ، يمكن لفكرة "ثورة" أن تتجذّر فيها. لا تنحصر هنا فكرة العقل الكهنوتي الوصائي العلوي الدوغمائي برجالات الدين المعممين وخدام الجامع والكنيسة. أعثر على هذا العقل عند تـفكيك منظومات تفكير الأغلبية الساحقة من المعارضين والمعارضات المدنيين والعلمانيين واليساريين واللادينيين أيضاً في سورية. العـقل الكهنوتي التـنزيلي الفوقي المرجعي نفسه هو أيضاً لبُّ عـقل النظام بامتياز. ما لدينا ليس "ثورة- ضد- سلطة" بل "كهنوت- ضد- كهنوت" أو "سلطة- ضد- سلطة" .
ثالثا، وقـوع الثورة في فخ الإعلاميات. ركِبـَت المعارضات السورية على موجة الفضاء الافتراضي وشبكة الإعلام المعولّم في صراعها مع النظام. حاولت بشكلٍ يقارب الهوس الجارف استخدام لعبة الصورة والصوت والمنبر لتعرية النظام وكشفه أمام الرأيين العامين، السوري والعالمي، إلا أنَّها نسيت، أو تـناست، أنَّ الفضاء الإعلامي نفسه يعرّيها هي نفسها في المقابل، ويكشف عوراتها وعيوبها أمام أنظار السوريين أنفسهم والعالم، لا بل ويُعولِم تلك
التعرية بطريقةٍ لا يمكن معها لتلك المعارضات محوها من ذاكرة الناس، ولا من وعيهم المشكِّل مواقـفهم وآراءهم. تعرَّت المعارضات أمامنا سنوات بشكل متكرّر وحماسي، بل وسافر وأحياناً رخيص، بلا أي حكمة أو تبصُّر، عارضة عورات أقوالها وخطاباتها، أفعالها وسلوكياتها، جهلها وجاهليتها، قصصها وفضائحها، ومثبتةً لنا بأنها نسخة وصورة مواجهة ومعادلة (وليس مضادة ولا معاكسة) لدرجة كفاءة النظام الأسدي وأخلاقه ووطنيته ودولتيته وعدالته وتمدُّنه. عرَّى الإعلام عنف المعارضة ودمويتها وراديكاليتها مثلما فعل بالنظام. لعب الإعلام لعبته كما يعرف أن يفعل دوماً. ولكنه لم يلعب لعبة المعارضة، بل لعب بها ولعب عليها وتلاعب بها، كما يفعل بأي شيء عادةً. قـتلت تعرية المعارضة بلعبة الإعلام الثورة السورية، ومحت أبناءها وبناتها من الوجود في وعي الرأي العام، لأنها سلطت الأضواء على المعارضين، وليس على المواطنين المدنيين الثوار؛ سلطت الضوء على معركة اللايكن والفامبير، وعتَّمت على مئات ألوف البشر الذين قضوا إما بأجسادٍ مزّقتها مخالب اللايكن، أو بعروقٍ مصَّت دماءها أنياب الفامبير.
لم يكن هناك أي احتمال لنجاح الثورة في ضوء تلك المعطيات. كان لا بد منطقياً ووجودياً للثورة السورية أن لا تنجح، وأن تُداس بسنابك خيول اللايكن والفامبير. لم يكن هناك مفرٌّ من إجهاض الثورة حين تم "كهننتها" و"تديينها" و"دغمأتها". لم يكن هناك مفرّ من خنق الثورة وإفراغها من خزّانها البشري، حين تمت عملية تحويلها إلى لعبة إعلام ومساحة تعرية وكشف لعورات من قالوا إنهم قادتها ورعاتها... لهذا، لم تـنجح الثورة السورية، وبهذا لا تـنجح أي ثورة.
*شاعر وباحث أكاديمي وأستاذ جامعي سوري، بروفسور اللاهوت المسيحي.
وسوم: العدد 710