ومن الحُبّ ما أَكَل!

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

رُؤى ثقافيّة 104     

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي

[email protected]

في الوقت الذي كانت فيه المرأة مضطهدة في (أوربا)، وكان حكماء تلك البلدان يتساءلون ما المرأة؟: أ إنسان هي؟ أم شيطان؟ أم حيوان؟ أم بين ذلك؟  وعلى حين تُسلَّع في عصرنا من أجل المُتَع الذكوريَّة، ويُصَرّ على تعريتها لمصالح جمهرة النظّارة من الرجال، وباسم حُريّة المرأة، واسم حقوقها المزيّفة، فإنها تظهر صورةٌ نقيضةٌ تمامًا في قبيلة أمازونيّة بدائيّة.  ما يدلّ على أن حقوق المرأة ليست مرتبطة بالتحضّر بالضرورة، وأن الهيمنة الذكوريّة اجتماعيًّا، لا علاقة لها بالمجتمعات البدائيّة، بالضرورة كذلك.  فكم من مجتمعٍ بدائيٍّ أكثر عدلًا وعقلًا من مجتمع يدّعي التحضّر!

لقد بُهِت الأنثروبولوجيّون حين اكتشفوا بالمصادفة أن نساء قبيلة أمازونيّة بدائيّة يلتهمن أزواجهنّ بعد الزواج، بعكس ما أشار إليه (ابن فضلان) قديمًا في بعض بلدان أوربا، من أنه إذا مات سيّدٌ، لا بُدّ أن تُقتل إحدى نسائه- اللائي قد يبلغن أربعين زوجة- معه وتُحرَق، بعد ممارسات طقوسيَّة بذيئة.  وتلك هي قبيلة (داجاباس) التي تستوطن منطقة (فال دو جافاري)، بين رافدين من روافد الأمازون (هما: جوتاي وجانديا توبا) في (البرازيل).  حيث يزعم (الدكتور تايلر لوميس) من مركز (ساوباولو) لدراسات الأجناس أنه اختُطف أحد أفراد بعثته للاستكشاف في تلك المنطقة، ليعثروا- بعد بحثهم المضني عنه- على امرأة وهي تأكله.  ثمّ تبيّن لهم بعد إقامتهم في تلك القبيلة أن تلك هي طقوس الزواج هناك، إذ يتحوّل المُعرِس- بإرادته أو مخطوفًا- إلى وجبة شهيّة لزوجته وقبيلتها من بنات جنسها!  وذكر أن لنسوة تلك القبيلة أساليبهن الإغرائيّة الفتّاكة في اجتذاب العِرْسان!(1)  ومن الحُبّ ما أَكَل! 

أمّا العرب الأقدمون، فلقد كانت معظم آلهتهم العتيقة مؤنَّثة، وتصوَّروا ملائكة الرحمن إناثًا(2).  ولكن يا لمفارقات المجتمعات البشريّة وما بينها من تضادّ القِيَم، وتحوّلات الاتجاهات، حتى في الأُمّة الواحدة.  فلك أن تقارن نساء قبيلة (داجاباس) أيضًا بنساء قبيلة (داحس والغبراء) العربيّة في العصور المتأخّرة، حيث الحُبّ أزمة أزليّة في مجتمعٍ ذكوريٍّ لا يرحم، يُبيح للرجل ما يحرّمه على المرأة.  وحيث المرأة مطحونة، جسديًّا، ونفسيًّا، واجتماعيًّا، ومأكولة ماديًّا ومعنويًّا، ولا بواكي لها.  وفوق هذا مطلوب منها أن تُنتج مجتمعًا سويًّا.. وهيهات.  إنما هي مريضة بوجودها، تلد المرض.

وعلى حين رسّخ الشِّعر العربي صورة المرأة العورة، المرأة التي لا تستحقّ الحياة، وهي عِبء على الرجل وعلى الحياة، كما جاء في شِعر (البحتري) و(أبي تمام) و(المعرّي)(3)، صوّروها دُمية، ومادّة لذّة للرجل، بلا حياء ولا ضمير.  حتى بلغ الأمر ببعضهم إلى التعريض بإشارات تنطوي على (نزوعٍ إلى المحارم من النساء).  تُصنَّف في بلاغتنا العربيّة على سبيل المبالغة المقبولة، أو الطُّرَف التعبيريّة.  غير أن النَّسَق المريض وراء ذلك لا يخفَى على قارئ بصير.  ولقد بلغ الأمر ببعضهم إلى التعبير عن غبطة (المجوس) على ما يستحلّونه من علاقات المحارم.  فـ(المتنبي)(4)، مثلًا، يقول:

يا أُختَ مُعتَنِقِ الفَوارِسِ في الوَغَى

لَأَخــــوكِ ثَــمَّ أَرَقُّ مِــنكِ وَأَرحَــــــمُ

يَــرنو إِلـَـــيكِ مَـعَ العَــفـافِ وَعِــندَهُ

أَنَّ المَجوسَ تُصــيبُ فيما تَحكُــمُ

فأيّ ذوقٍ متنبئيٍّ هذا الذي ينعتُ مَن يتغزّل بها بمثل هذا؟! ولهذا تراثٌ عريق من الشِّعر «المجوسي»، أي ذلك الذي يتعشّق النساء من المحارم على مِلَّة المجوس.  من ذلك قول (أبي تمّام)(5):

إِنَّ يَـــــومَ  الــفِــــراقِ يَــــومٌ عَـــبُــوسُ

أَيُّ سَـــــيــلٍ تَســيــلُ فــــيهِ الــنُّــفـــوسُ

لَم أَزَل أُبغِـضُ الخَمـيسَ وَلَـم أَدرِ [م] 

لــِمــاذا حَــتّى دَهــاني الخَمــيــسُ

بِــــــأَبــــــــي  مــَــن إِذا رَآهــا  أَبــوهــا

شَــعَــــفـــًـــا قـــالَ: لَيــتَ أَنّـا مَــجـوسُ!

لَــو تَجافَى إِبليسُ عَن لَحظِ عَينَـيـــ

ـــــــــــــها  تَــــقَــــرّا  عِــــبادَةً  إِبــلـيــــسُ

إِنْ تُفــارِق لَحظي فَقَد  كانَ مِـنهــا

وَهــــوَ في كُــلِّ ساعَــتَــينِ عَــــروسُ

وكذا يصوِّر (عبدالصمد بن المعذّل) في تائيّته:

أُحِبّ بنيّتي حُبًّا أراه ** يزيدُ على مَحَبّاتِ البناتِ

تعلُّقَه بابنته، تصويرًا نستقبح ذِكره هاهنا.  وإنْ قيل إنه إنما يعني جاريةً له يسمّيها ابنته.  وما يعنينا في هذا أن المرأة كانت لديهم متاعًا، لا قيمة لها فوق ذاك.

وهكذا فالإنسان ما لم يعصمه عقل هو أكثر توحُّشًا من الحيوان؛ لأن الحيوان مسيَّر بفطرةٍ طبيعيّةٍ لا تُخطئ، فيما إرادة الإنسان وذكاؤه قد يوردانه المهالك، حينما لا يهديهما موجِّهٌ قويم؛ فيوظَّفان لأغراض من الأنانيَّة والدُّونيَّة وإرضاء الغرائز.  وتلك هي «الأمانة» التي حملها الإنسان، وكان ظلومًا جهولًا.

وفي متابعة سيرورة السلوك الاجتماعي الغربيّ مع المرأة، يُلحظ أنه لمّا تقرّر لدى حكماء الغرب أن المرأة لا تخلو من بشريّة، انتقلوا إلى مرحلة جديدة، إنما طوّروا فيها سلوكهم القديم ليجعلوها سلعةً معروضةً ومتعةً عموميّةً ذكوريّةً، وَفق سلوكهم الحديث. والغريب أن المرأة نفسها ظلّت تستسلم لذلك حديثًا، كما استسلمت لمثله قديمًا، بل هي كثيرًا ما تُناضِل من أجله باستماتة، وتراه حُريَّتها؛ فهي بذاك حفيدة تلك الجارية التي كانت تَنْذُر نفسها للقتل والحرق مع سيِّدها، كي تَلْحَق به في الجنّة! وهنا يتجلَّى الارتهان للسلطة الذكوريّة. والمرأة حينما ترضى بدرجةٍ أقلّ من تلك الدرجة التي هيّأها الله لها، عقلًا وروحًا وجسدًا، متنازلةً عن كامل حقوقها الإنسانيّة التي كرّمها الله بها، إنما تُسهم في إهانة نفسها بنفسها، على نحوٍ أفظع من الإهانة الذكوريّة لكرامتها؛ إذ ليست حقوق المرأة مِنَّة، يَمتنّ بها الرجال على النساء، بل هي حقٌّ إلاهيٌّ محضٌ، تَظلم المرأةُ نفسَها، وتأثم في حقِّ نفسها، إنْ هي سكتت عن المطالبة به، أو استسلمت لمكر الرجال وكيدهم حينما يزيِّنون لها ما يَصُبُّ في مصالحهم وملاذِّهم.

               

(1) انظر: عارف، مها، «نساء يأكلن أزواجهنّ ليلة الدُّخلة»، (مجلّة «اليمامة»، العدد2079، السبت 5 ذو القعدة 1430هـ= 24 أكتوبر 2009م، ص46- 47).

(2) «وجَعَلُوا المَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَـنِ إِنَاثًا، أَشَهِدُوا خَلْقَهُم؟ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ». (سورة الزخرف، الآية 19).  على أن العرب- أو قريشًا تحديدًا- كانوا يُنكرون معرفتهم بـ«الرحمن» إلاهًا، أو أنه الله.  لأن هذا الاسم إنما كان لدى بعض أحياء العرب اسمًا لصنم، أو إلاه من آلهتهم، كـ(رحمن اليمامة).  جاء في (المرزوقي (-421هـ)، (1996)، الأزمنة والأمكنة، عناية: خليل المنصور (بيروت: دار الكتب العلميّة)، 95): «ذكر بعضهم أن الرحمن هو الاسم الذي لاسم القديم سبحانه فيه [كذا والصواب: «الذي لا سَمِيَّ للقديم سبحانه فيه»]، وليس كذلك لأنهم قالوا: لمسيلمة رحمان، وقالوا أيضًا فيه رحمان اليمامة، وذكر بعضهم أنه لمّا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن، قالت قريش: أتدرون ما الرحمن؟ هو الذي كان باليمامة...».  وجاء لدى (البغدادي (-1093هـ)، (1997)، خزانة الأدب ولبّ لباب لسان العرب، تح. عبدالسلام محمّد هارون (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 2: 285): ««ولئن سألتهم مَن خلقهم، ليقولنّ الله»، فالاسم الذي لا سميّ للقديم سبحانه وتعالى فيه لا يخلو من أن يكون الله أو الرحمن، فلا يجوز أن يكون الرحمن، لأنه وإن كان اسمًا من أسماء الله فقد تُسُمِّي به، وقد قالوا لمسيلمة: رحمان، وقالوا أيضًا فيه: رحمان اليمامة، وذكر بعض الرواة: أنهم لمّا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن، قالت قريش: أتدرون ما الرحمن؟ هو كاهن اليمامة!  فهذا يدلّ على أنهم كانوا لا يحظُرون التسمية به.»  ولذلك جاء في القرآن: «وإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ، قَالُوا ومَا الرَّحْمَنُ؟ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وزَادَهُمْ نُفُورًا» (سورة الفرقان، الآية 60).  ونحن نجد هذا الاسم في بعض النقوش القديمة في شَمال الجزيرة، أو العراق، حيث يأتي «رَحْمَن»، أي «الرَّحمـان XE "رحمن= الرَّحمـٰن" »، و«رحم»، أي «الرحيم XE "رحم= الرحيم" »، وغيرهما، مع اسم «اللَّات XE "اللَّات" »، الذي يبدو أنه: اسم «الله» نفسه لديهم. (يُنظر مثلًا: موسكاتي، سبتينو، (1986)، الحضارات السامـيَّة القديمة، ترجمه وزاد عليه: السيِّد يعقوب بكر، راجعه: محمَّد القصاص (بيروت: دار الرّقي)، 358- 359؛ الروسان، محمود محمَّد، (1412هـ)، القبائل الثموديّة والصفويّة- دراسة مقارنة، (الرِّياض: جامعة الملك سعود)، 165- 166، 180، 443، 447).  فمِن العرب مَن كان يعرف هذا ومنهم مَن كان يعرف ذاك، ومَن يعتقد في هذا ومَن يعتقد في ذاك.  وفي حين جاء القرآن ببعض تلك الأسماء الكثيرة لدى العرب على أنها صفات لإله واحد، كان العرب يعتقدونها آلهةً متعدّدةً، بتعدّد الكواكب والنجوم ورموزها لديهم.

(3) يُنظر: البحتري، (1977)، ديوان البحتري، تح. حسن كامل الصيرفي (القاهرة: دار المعارف)، 1: 40- 41؛ أبو تمّام، (1976)، ديوان أبي تمَّام بشرح الخطيب التبريزي، تح. محمَّد عبده عَزَّام (القاهرة: دار المعارف)، 1: ص399 ب55؛ المعرّي، أبو العلاء، (1342هـ)، اللزوميّات، تح. أمين الخانجي (بيروت: مكتبة الهلال، القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 178.  وانظر كتابي: (2006)، نَقْد القِيَم: مقاربات تخطيطيَّـة لمنهاجٍ عِلْمِيٍّ جديد، (بيروت: مؤسَّسة الانتشار العربي)، 91- 100.

(4) (د.ت)، شرح ديوان المتنبِّي، وضعه: عبدالرحمن البرقوقي (بيروت: دار الكتاب العربي)، 4: 247.

(5) ديوانه، 4: 214- 215.-[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «ومن الحُبّ ما أَكَل!»،