علامات الآستانة
مفاجئ في التفاصيل، وطبيعي في المنطق، ما يجري في الآستانة سعياً وراء حلّ ما للنكبة السورية.
المفاجئ والمنطقي، أمران يخصّان روسيا قبل غيرها، وأكثر من إيران، إذ ليس قليلاً ولا بسيطاً أن تصل قيادة الكرملين اليوم، إلى ما كانت ترفضه بالأمس. وإلى تقديم اقتراحات جدّية، تدلّ على مسار آخر غير الذي جرّبته على مدى السنوات الماضية، بالسياسة والديبلوماسية بداية، ثم بالنار لاحقاً. أي فرض حالة ميدانية كاسرة للقوى الأساسية في الثورة، وقابلة للاستثمار في «تسوية» تُبقي بشّار الاسد موجوداً ولو على عكّازين، ومن دون فعالية تُذكر، ولا قدرة حسّية على اتخاذ أو فرض أي قرار «سيادي»!
الاقتراحات الروسية الخاصّة بإقامة مناطق آمنة أو منخفضة التوتّر، تدلّ على بداية عودة (سريعة) من نقطة السعي إلى الحسم العسكري بعد أن بدت ملامحه وامكاناته معقولة غداة سقوط حلب، وجمود جبهة الجنوب، وتضعضع الوضع الداخلي لقوى المعارضة تحت وطأة عامل الفصل الشهير الذي كان مطلوباً بين المعتدلين والمتطرّفين! ودخول قصّة «الحرب على الإرهاب» في مسار حاسم.. أو هكذا بدا الأمر!
ولإنعاش الذاكرة فقط، فإن موسكو حاولت ظاهراً بعد سقوط حلب، لجم الاندفاعة الإيرانية (الأسدية) باتجاه إكمال الحرب ضدّ إدلب ودير الزور! وعملت على إجراءات ميدانية، في الآستانة، تتضمّن شيئاً من التهدئة.. لكنها ظلّت في جنيف، راعية لسياق تسووي، لا شيء فيه يدلّ على أي تسوية! بل على إنضاج «استسلام» للمعارضة مغلّف بمشروع يتضمّن بعض الإصلاحات، ويشطب المرحلة الانتقالية، ويقرّ بتشكيل حكومة تقدّم معارضي الداخل على الخارج، ومسودّة دستور يُقونن ويُدستر موازين القوى وكأن لا حرب حصلت ولا فظاعات سُجِّلت.. وذلك كله في ظلّ استمرار سلطة الأسد، بل إنهاء الحديث عن قصّة حقّه أو عدم حقّه في الترشّح للانتخابات الرئاسية المقبلة.. لمصلحة التسليم ببقائه و«حقوقه»!!
جرّبت موسكو على طريقتها ووفق حساباتها ومصالحها استثمار التفويض الأميركي لها حتى آخر نفس. وإنضاج وضع مّركَّب يأخذ في الاعتبار أن العالم (وإسرائيل!) يقبل الدور الروسي على حساب الدور الإيراني. ويقبل الأسد على حساب الإرهاب!.. بل أن القيادة الروسية بدت في سباق مع الزمن قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية لترسيخ وقائع لا يمكن تعديلها على المسرح السوري. و«ساهمت» بفاعلية مشهودة، في محاولة التأثير في تلك الانتخابات، لمصلحة دونالد ترامب، بما يعنيه ذلك من ترسيخ التفويض الأوبامي وتثبيت الوقائع القائمة على الأرض!
وكان طبيعياً ومنطقياً أن تتصرّف موسكو وفق تلك المعطيات والحسابات وهي التي أنتجت لها جملة هدايا حرزانة وكبيرة وحقيقية! ضبّتها ووظّفتها في مشروعها الإحيائي الناهض نحو العودة إلى مراتب القوى العظمى! وجعلت منها محطّة وصل واستقطاب بعد أن كانت محطّة نبذ وحصار نتيجة تدخّلها في أوكرانيا وإعادة ضمّ القرم إلى «الوطن الأم»!
ولم يخطئ الافتراض مَن افترض، منذ البداية، أن روسيا جاءت إلى سوريا لأنّ الولايات المتحدة غابت. أو آثرت البقاء على الشرفة تتفرّج من فوق، على ما يجري، وتحصي مكاسبها. حيث يفتك «الإرهاب» ببعضه بعضاً، الشيعي منه والسنّي! وحيث تُدمَّر سوريا وتُعطَّل وتدخل إلى العتم لسنوات وسنوات طويلة آتية! وحيث تقبض إيران من العرب والمسلمين بدل ما تدفعه إلى واشنطن في «المشروع النووي». وحيث أن «أمن» إسرائيل غير مّهدَّد! ولا خطوط الطاقة ولا منابعها! وحيث أن صورة الروس في المخيال العربي زادت شيطنة! وحيث احتمال مرمغة أنوفهم وطموحاتهم في أفغانستان أخرى، وارد ومعقول وممكن! وحيث الزكزكة بالأتراك قائمة! وحيث ابتزاز دول الخليج العربي والسعودية ناشط وواضح!
وذلك كله وأكثر منه، على حساب السوريين وأرواحهم وأرزاقهم وبلادهم. وعلى حساب الأكثرية العربية والإسلامية واستقرارها وحفظ قيمها وثرواتها!.. لكن زمن الأوّل تحوَّل! ولا شيء يدلّ على ذلك أكثر (ربما) من عودة موسكو إلى التزام مسار «التفاهم» مع الأميركيين وفق أجندتهم المختلفة جذرياً عن أجندة السيئ الذكر أوباما! ومع تركيا والسعودية والمجموع العربي عموماً بما يتلاءم مع بديهيات المنطق ولغة المصالح المتبادلة والمشتركة.. والجليلة!
*كاتب لبناني.
وسوم: العدد 719